هناك ما قبل جمعة الكرامة، وهناك ما بعدها»... يوم 18 آذار (مارس) 2011 نهار جمعة الكرامة في الانتفاضة اليمنية، والذي تعسكرت فيه الثورة بتوجيه سلفي، فصار ذلك الجمعة الدامي لحظة مفصليّة في تاريخ الثورة مثلما يقول «عمران» بطل رواية «ابنة سوسلوف» للكاتب اليمني حبيب عبد الرب سروري، صاحب رواية «تقرير الهدهد» التي خرجت من عباءة «رسالة الغفران». إلاّ أنه ما زال يبحث عن أجوبة لأسئلته التي ما فتئ يطرحها في لحظة يأسه على ملاك الموت، بحميمية كاملة، يدير حوارات معه، يخاطبه ب «عزيزي خاطف الأرواح»، أو هادم المسرّات، أو غيرها من الألقاب الظريفة، ليكتشف في آخر الحوارات الحميمة أن ما ينشر الجهاديون من أفكار، وما يقومون به من أفعال تشرخ وجدان خاطف الأرواح وتزيد من أعبائه ومتاعبه لكثرة الموت الذي يعملون من أجله وعليه إنجازه. والربيع العربي بما آل إليه من امتطاء دعاة السلفية الجهادية لانتفاضات الشعوب العربية، منادين بدول الخلافة وحكم الشريعة وتقييد الحياة بقوالب النصوص الجامدة، غير عابئين بالزمن، بل يدعون إلى العيش خارج الزمن في عصر الثورة العلمية وإنجازاتها العظيمة مع تعطيل كامل للعقل، هو الشاغل الرئيس لهذا النص.
يروي «عمران» حكايته منذ أن كان شاباً في عدن، وأوفد إلى فرنسا لإكمال دراسته في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عندما خُيّر بين ألمانياوفرنسا، اختار فرنسا لأنه يريد أن يشهد غروب الرأسمالية. يتعرف الى زميلة فرنسية تدعى نجاة، من أب يمني وأم فرنسية، يكتشف معها الجمال والحياة والعالم. تغير قناعته حول الاشتراكية وتجادله بزيف الثورة من المنظور السوفياتي التي كان قد تشرّبها كمسلّمات أثناء حياته في عدن السبعينات، وتغيّر هذه الحوارات قاموسه السياسي: «أخذ «اليسار» محل «البروليتاريا»، «الديموقراطية» محلّ «المركزية الديموقراطية»، «التحوّلات الاجتماعية العميقة» بدلاً من «الانتفاضة»... يحلمان معاً، في هذا العصر الذي تسيطر عليه قوى الرأسمال وتديره وفق قوانين اقتصاد السوق، بعالم «الإنسان الأعلى»، إنسان نيتشه، في «جمهورية أرخبيل الكوكب الأزرق». لكن نجاة قتلت في تفجير محطة مترو سان ميشال في قلب الحيّ اللاتيني - باريس في 25 تموز (يوليو) 1995، في تلك الحقبة التي كانت باريس ترتجف خلالها هلعاً من تفجيرات السلفيين الإرهابيين، في معمعان «السنوات الجزائرية السوداء»!
وفي أول زيارة له إلى اليمن بعد حرب 1986 الأهلية بين الأطراف السياسية المتنازعة في رأس قيادة اليمن الديموقراطي، رفقة نجاة، يشعر بأن «اليمن الديموقراطي» وقع في هاويةٍ بلا قاع، وأن «هاويته» هربت من «اليمن الديموقراطي» إلى «اليمن الرجعي»، إثر انتقال الصراع بين الزعامات السياسية التي انشطر فيها الجيش والحزب الحاكم على أساس مناطقي قبلي، إلى بيت «سوسلوف» بين أم هاوية وأبيها، بعد أن كانا اهملاها قبل ذلك. و «هاوية» هي فاتن ابنة أحد الرفاق العائدين من الاتحاد السوفياتي والذي تسلّم منصباً حكومياً قيادياً، ولقّب ب «سوسلوف» نسبةً إلى ميخائيل سوسلوف، مسؤول الدائرة الأيديولوجية في الحزب الشيوعي السوفياتي حينها، بقيت سره المكنون بعد أن أطلق عليها اسم هاوية.
بعد توحد اليمنين يزور عمرانصنعاء للمرة الأولى عام 1996، لتفاجئه مدينة أخرى، وتفاجئه أخته التي تعب عليها زماناً ليشربها الروح الثورية وربّاها تربية مدنية لتتحول إلى منقبة، ويتعرف إلى ضيفتها المنقبة أيضاً «أمة الرحمن»، التي لم تكن غير هاويته التي دغدغت أحلامه ولجم نفسه عنها في عدن السبعينات الريانة بأفكار الماركسية اللينينة وأدبياتها. في تلك الفترة كانت «أمة الرحمن» تقود تظاهرة نسائية منقبة مناهضة لقوانين تنصف حقوق المرأة، وتدافع عن قانون الزواج من أربع وفق الشرع.
هذه الداعية، والناشطة لاحقاً في ربيع اليمن الثوري، كانت زوجة عمر المدمن، ابن الداعية السلفي محمد الهمداني، رأس السلفيين اليمنيين والأب الروحي للجيل الأول من قادة منظمة القاعدة. وكانت على علاقة فاحشة مع الهمداني، حميها أو والد زوجها. يعيش عمران و «أمة الرحمن» علاقة شرسة وعدمية، مثلما كانت نقاشاتهما حول الفكر الذي تدعو إليه وتقود الجماهير تحت رايته، عدمية أيضاً. فلا مجال للتشكيك في المسلّمات والبديهيات بالنسبة إليها، ولا مجال لحوار الفكر والعقل. لقاءات يومية كلما جاء إلى صنعاء توافيه في شقته وتمضي ساعات معه سمّتها «تجارب عشق» لكنها بقيت على علاقة مع حبيبها الهمداني.
أما عند وصوله صنعاء في 11 آذار (مارس) 2011، فإن روحه ترقص أخيراً لرؤية الجماهير الثائرة بأحلامها البسيطة متوقعاً أن يعيش مباشرة «لحظة غروب الطغيان وشروق عالمٍ عربيٍّ جديدٍ يدخل العصر». لكن صنعاء المنقسمة بين ساحة التحرير وساحة التغيير، بين قوة النظام وعسكرييه وبلطجيته، وقوة الثورة والمعتصمين، ستمشي إلى مصير دموي. يعايش عمران الحراك في صنعاء مذهولاً وهو يرى هذا المد الذي أجج مشاعره في البداية يتحول إلى «حربٍ مسلّحةٍ على غرار ما يجري في ليبيا «سيكسر كوعها ويجعل القبائل وحدها، ومن والاها من العسكر، تقطف ثمارها». وذلك بعد نداء من الإمام الهمداني لأجل عسكرة الثورة، بثته قناة «الجزيرة» في لقاء معه من مقره، يدعو فيه «المسلمين المخلصين في الجيش والأمن» إلى التمرّد على الحاكم والالتحاق بساحة التغيير لحمايتها من عسكر الأسرة الحاكمة!
والأدهى: «في طليعة هذه الثورة، قائدتها ورمزها بشكلٍ أو بآخر: امرأة، مثل جان دارك الفرنسية» وكانت جذوة هذه الثورة التي تبحث وسائل الإعلام العربية، عن تصويرها واللقاء بها، وتحلم قناصات النظام بتوجيه رصاصةٍ طائشةٍ نحو جمجمتها. إنها «أمة الرحمن» هاوية.
بعد جمعة الكرامة يعود عمران إلى باريس، وبعد استعراض وتوقف عند محطات الربيع العربي الأخرى، تونس، مصر، ليبيا، سورية، المصابة باللعنة نفسها، يحاول العيش بلا طموحات كبيرة، العيش بتفاصيل الحياة الصغيرة، كأن يعمل «ذواقة» كأداة تسويقية للمطاعم. لكنه يعود إليه بعض من أمل بلقاء صديقته الصينية، فيرى أن هناك احتمالات أخرى لتجارب الشعوب: «التفوّق الاقتصاديّ الصينيّ سيهيمن قريباً على العالم، بفضل اتّكائه على الذكاء المطلق والصمت».
في هذا النص السيري، تتداخل السيرة الذاتية للراوي مع سيرة المكان، تاريخ عدن على وجه التحديد في رسم بانورامي يمتد على مدى أكثر من خمسين عاماً: «لعلّي رسمت لك، بفضل ذلك، السياق السياسي والزمكاني الذي نشأت فيه».
يطرح التجارب على طاولة النقد الذاتي، ويستدعي الماضي مواجهاً الحاضر الذي يبحث بين حناياه عن زوايا العتمة لينيرها. بأسلوب رشيق ولغة جذابة وبسيطة تتخللها بعض المفردات المحلية، مع الاستعارات الرياضية والاستشهادات العلمية، تنهض شخصيات الرواية، وبخاصة بطلتها «أمة الرحمن» التي يرسمها سروري بارعاً في نبش بواطنها والغوص في عمق التركيبة النفسية لشخصية مترعة حد الامتلاء بالفكر السلفي الظلامي الرافض للآخر وللعقل، وبسرد مشهدي عال لتلك اللقاءات مدعوماً بحوارات تنسجم مع الإيقاع الموسيقي لها، بين طرف مناصر للعقل وآخر معادٍ له. كذلك «عدن» التي تنهض كشخصية أساسية في العمل يتابع الراوي تاريخها وتجاربها منذ استقلالها إلى بدايات الثورة عام 2011، بينما كانت قد سبقت اليمن كلها في ثورتها عام 2009. «أمة الرحمن» أو هاوية التي تتماهى سيرتها وحياتها مع عدن، عدن السبعينات اليسارية المدنية الواعدة، التي سقطت في أيدي القبليين والظلاميين فاغتصبت واستبيحت وانغلقت على الحداثة مثل «هاوية ابنة سوسلوف» الذي تحول إلى سلفي هو الآخر. «نُهب الجنوب عن بكرة أبيه، طُردت من أعمالها صفوة الكوادر السياسية والعسكرية والمدنيّة الجنوبية، أُلغي التعليم المختلط مباشرةً ووزِّع الطلاب إلى مدارس ذكور وإناث منفصلة، مُحيت كل آثار المدنيّة، عُمِّم الحجاب وانتشر النقاب، وقُضي على هويّة عدن المدنيّة تماماً». هاوية التي عاش معها حباً عضوياً لم تقبل كل عروضه وترغيبه لها في الخروج خارج اليمن، والانفتاح على عالم آخر، بقيت مرتبطة ارتباطاً عضوياً أيضاً بحبيبها السلفي الهمداني، هي عدن المنغلقة مثلها والمسلوبة من الطغاة الجدد.
وباستخدامه تقنية النصوص أو «البوستات» على حائط «الفايسبوك» وخلطه بين المتخيل والواقعي، يدير الحوارات بين مناصري العقل وبين هذه الجماعات الجهادية، المتمكنة حتى من الأنترنت وصاحبة المواقع الكثيرة المؤثرة والفاعلة، يهرب النص من تهمة التنظير والتواريخ الجامدة، ويؤدي الغاية المرجوة منه.