كارثة وشيكة ستجتاح اليمن خلال شهرين.. تحذيرات عاجلة لمنظمة أممية    تعز تشهد المباراة الحبية للاعب شعب حضرموت بامحيمود    وفاة امرأة عقب تعرضها لطعنات قاتلة على يد زوجها شمالي اليمن    عاجل..وفد الحوثيين يفشل مفاوضات اطلاق الاسرى في الأردن ويختلق ذرائع واشتراطات    مليشيا الحوثي تعمم صورة المطلوب (رقم 1) في صنعاء بعد اصطياد قيادي بارز    انتحار نجل قيادي بارز في حزب المؤتمر نتيجة الأوضاع المعيشية الصعبة (صورة)    إعلان عدن التاريخي.. بذرة العمل السياسي ونقطة التحول من إطار الثورة    دوري المؤتمر الاوروبي ...اوليمبياكوس يسقط استون فيلا الانجليزي برباعية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    "مشرف حوثي يطرد المرضى من مستشفى ذمار ويفرض جباية لإعادة فتحه"    طقم ليفربول الجديد لموسم 2024-2025.. محمد صلاح باق مع النادي    "القصاص" ينهي فاجعة قتل مواطن بإعدام قاتله رمياً بالرصاص    "قلوب تنبض بالأمل: جمعية "البلسم السعودية" تُنير دروب اليمن ب 113 عملية جراحية قلب مفتوح وقسطرة."    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    غضب واسع من إعلان الحوثيين إحباط محاولة انقلاب بصنعاء واتهام شخصية وطنية بذلك!    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    أيهما أفضل: يوم الجمعة الصلاة على النبي أم قيام الليل؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    دربي مدينة سيئون ينتهي بالتعادل في بطولة كأس حضرموت الثامنة    رعاية حوثية للغش في الامتحانات الثانوية لتجهيل المجتمع ومحاربة التعليم    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    "مسام" ينتزع 797 لغماً خلال الأسبوع الرابع من شهر أبريل زرعتها المليشيات الحوثية    استشهاد أسيرين من غزة بسجون الاحتلال نتيجة التعذيب أحدهما الطبيب عدنان البرش    الصين تبدأ بافتتاح كليات لتعليم اللغة الصينية في اليمن    تشيلسي يسعى لتحقيق رقم مميز امام توتنهام    إعتراف أمريكا.. انفجار حرب يمنية جديدة "واقع يتبلور وسيطرق الأبواب"    شاب سعودي يقتل أخته لعدم رضاه عن قيادتها السيارة    تعز.. حملة أمنية تزيل 43 من المباني والاستحداثات المخالفة للقانون    الهلال يلتقي النصر بنهائي كأس ملك السعودية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    أهالي اللحوم الشرقية يناشدون مدير كهرباء المنطقة الثانية    صدام ودهس وارتطام.. مقتل وإصابة نحو 400 شخص في حوادث سير في عدد من المحافظات اليمنية خلال شهر    تقرير: تدمير كلي وجزئي ل4,798 مأوى للنازحين في 8 محافظات خلال أبريل الماضي    قيادي حوثي يخاطب الشرعية: لو كنتم ورقة رابحة لكان ذلك مجدياً في 9 سنوات    الخميني والتصوف    نجل القاضي قطران: والدي يتعرض لضغوط للاعتراف بالتخطيط لانقلاب وحالته الصحية تتدهور ونقل الى المستشفى قبل ايام    انهيار كارثي.. الريال اليمني يتراجع إلى أدنى مستوى منذ أشهر (أسعار الصرف)    إنريكي: ليس لدينا ما نخسره في باريس    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    جريدة أمريكية: على امريكا دعم استقلال اليمن الجنوبي    محلل سياسي: لقاء الأحزاب اليمنية في عدن خبث ودهاء أمريكي    الرئيس الزُبيدي يُعزَّي الشيخ محمد بن زايد بوفاة عمه الشيخ طحنون آل نهيان    أولاد "الزنداني وربعه" لهم الدنيا والآخرة وأولاد العامة لهم الآخرة فقط    15 دقيقة قبل النوم تنجيك من عذاب القبر.. داوم عليها ولا تتركها    يمكنك ترك هاتفك ومحفظتك على الطاولة.. شقيقة كريستيانو رونالدو تصف مدى الأمن والأمان في السعودية    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    مياه الصرف الصحي تغرق شوارع مدينة القاعدة وتحذيرات من كارثة صحية    إبن وزير العدل سارق المنح الدراسية يعين في منصب رفيع بتليمن (وثائق)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و568 منذ 7 أكتوبر    كيف تسبب الحوثي بتحويل عمال اليمن إلى فقراء؟    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصدام بين الغرب والإسلام من منظور ارنولد توينبي
نشر في عدن الغد يوم 12 - 01 - 2015

وفي بحثه عن طبيعة الصدام بين الإسلام والغرب، ذهب توينبي إلى أن الإسلام قد شكل منذ ظهوره تحدياً جدياً للحضارة المسيحية الشرقية والغربية، وقد ظل التفاعل بين الإسلام والغرب يكتسب أشكالاً مختلفة من التحديات والاستجابات العنيفة والمعتدلة والصدام المستمر. حدث الصدام الأول يوم كان المجتمع الغربي طفلاً، وكان الإسلام في عهد فتوته وبطولاته، إذ اجتاح المسلمون نصف مواطن الحضارة الغربية الأصلية تقريباً، وكادوا أن ينجحوا في ابتلاعها كلها إذ استولوا على إفريقيا الشمالية الغربية، وعلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى بلاد القوط الغالية واحتفظوا بها، وأوشكوا أن يحتلوا إيطاليا، ولكن بعد ذلك قلب التاريخ ظهر المجن للمسلمين وتغلبت المدنية الغربية على الأخطار التي كانت تهدد بزوالها، وراحت تنمو نمواً قوياً، وكانت دولة الإسلام العالمية تميل نحو الأفول، منذ ذلك الحين انتقل الغربيون إلى الهجوم على طول جبهة تمتد بين طرفي المتوسط من شبه الجزيرة الإيبيرية، مروراً بصقلية، إلى الأرض السورية ما وراء البحر.
"أما الإسلام وقد هاجمه، في آن واحد، الصليبيون من جهة وبدو آسيا الوسطى (المغول) من جهة أخرى، فقد تقلص إلى أبعد حد".
على هذا النحو يمكن القول أن توينبي هو أول من وضع مفهوم صدام الحضارات قبل هنتجتون بأكثر من نصف قرن، وتحت عنوان (مأساة التلاقي بين المتصادمين) يرصد توينبي مظاهر الصدام بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، ويهمنا هنا أن نعرض لرأي توينبي في مشكلة الصدام بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية في العصر الحديث والمعاصر، إذ يرى توينبي أنه عند بداية العصر الحديث من التاريخ الغربي، كان هناك مجتمعان إسلاميان شقيقان وقد انتصبا ظهراً لظهر، يسدان جميع مسالك الاتصال بين ممتلكات المجتمعين الغربي والروسي، وبين سائر بقاع العالم القديم، إذ كانت الحضارة العربية الإسلامية ما تزال عند نهاية القرن الخامس عشر تهيمن على الشاطئ الإفريقي المطل على المحيط الأطلسي والممتد من بوغاز جبل طارق حتى السنغال، وكانت الحضارة الإيرانية الإسلامية تشغل في الوقت نفسه مركزا استراتيجياً، بد أقوى من ذلك الذي تمتعت به الحضارة العربية. فلقد احتل بناة الإمبراطورية (العثمانيون) القسطنطينية والمورة وقرمان وطرابيزون وحولوا البحر الأسود إلى بحيرة عثمانية باستيلائهم على مستعمرات (جنوا) في شبه جزيرة القرم. وامتد سلطان الإسلام إلى شمال غرب الصين والهند والبنغال والدكن( ).
يرى توينبي أن هذه الكتلة الإسلامية الضخمة الحاجزة شكلت تحدياً استثار رد فعل قوي بين الجماعات الدائرة في المجتمعين المسيحيين المتعاصرين، ففي العالم المسيحي الغربي، ابتكرت الشعوب الساكنة على شاطئ الأطلسي طرازاً جديداً من السفن العابرة للمحيطات، وهكذا في لمح البصر اختطف البرتغاليون من أيدي العرب السيادة البحرية على المحيط الهندي، وكان ملاحو الأنهار من القوزاق يتجهون شرقاً ويوسعون حدود العالم الروسي بالسرعة نفسها والاكتساح، وذلك باحداقهم بالعالم الإيراني الإسلامي في الشمال. ولقد فتح الطريق أمام القوزاق القيصر المسكوفي (إيفان الرابع) حين استولى على قازان عام 1553. إذ كانت قازان قلعة العالم الإيراني الإسلامي عند حدوده الشمالية الشرقية. وهكذا؛ وفي غضون مدة تقل عن القرن لم يقتصر الأمر على الإحداق بالعالم الإسلامي ولكن أمكن تطويقه تماماً. ففي أواخر القرنين السادس عشر وأوائل السابع عشر، وضع الطوق حول رقبة الفريسة( ).
على هذا النحو تعاظمت أهمية العالم الإسلامي في نظر الغرب الصاعد منذ اختراع محرك الاحتراق الداخلي، إذ يرى توينبي أن للعالم الإسلامي أهميته القصوى لمصدر للسلع الأساس، ومعبر للمواصلات الرئيسة ووارثاً لثلاثة مواطن للحضارات الأربع الرئيسة في العالم القديم، والثروات الزراعية في النيل الأدنى، ودجلة والفرات، والسند.. الخ. على أن أهم إضافة لموارد العالم الإسلامي الاقتصادية؛ جاءت نتيجة الاكتشاف والانتفاع بمستودعات النفط الكامنة في باطن أرضه. وقد أسفرت النتائج التي تلت التدافع نحو النفط عن وضع سياسي متوتر، طالما كان من نصيب روسيا من تلك الغنيمة في القوقاز وأنصبة الدول الغربية الكبرى في إيران والبلاد العربية، تقع في نطاق سلسلة متصلة الحلقات( ).
ولقد زاد من حدة هذا التوتر تجدد أهمية العالم الإسلامي نقطة التقاء للمواصلات العالمية. "فإن أقصر الطرق بين روسيا والعالم الغربي على طرفي المحيط الأطلسي، من ناحية، والهند وجنوب شرق آسيا واليابان من ناحية أخرى. إن أقصر هذه الطرق يخترق أرضاً ومياهاً وأجواءً إسلامية، وبرح الاتحاد السوفيتي والغرب على خارطة المواصلات وعلى خارطة النفط يقفان موقف الخطر متجاورين وجهاً لوجه"( ).
بهذه الكلمات القليلة المعبرة الخطيرة يلخص توينبي موقف الحضارة الغربية الروسية من الحضارة الإسلامية الفريسة الضعيفة العاجزة، ولكن السؤال هنا هو كيف جابهت الحضارة الإسلامية ذلك التحدي الداهم؟ يقول تيونبي "لقد انقضى وقت طويل قبل أن ينتبه المسلمون أنفسهم على ما يجب عليهم عمله لمجابهة الموقف. وتبلور هذا العمل بالنسبة للجانبين الغربي والروسي في الانقضاض على فريسة عاجزة عجزاً واضحاً"( ).
ويرى توينبي أن سبب تأخر استجابة المسلمين على ذلك التحدي الخطير الذي أخذ يجابههم من الحضارة الغربية الروسية، يكمن في رضاء المسلمين عن أنفسهم وانتصاراتهم العسكرية القديمة الذي بلغ من عمق تأصله في نفوسهم، حد أن الدرس الذي تضمنه تحول المد الحربي ضدهم عقب إخفاقهم أمام فيينا عام 1683، لم يؤثر بعد في نفوسهم تأثيراً فاعلاً، إلا حين بلغ ذلك الدرس مداه بعد ذلك بنحو قرن فوصل الأمر إلى حد تهديد المسلمين بطردهم من عقر ديارهم. وحدث ذلك عقب نشوب الحرب بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا عام 1768. إذ قيل للأتراك أن الروس قد عزموا على جلب أسطول من بحر البلطيق ينزلونه إلى المعركة فكان إن رفض الأتراك (بعناد) أن يصدقوا أن ثمة طريقاً بحرياً يصل ما بين البلطيق والبحر المتوسط، حتى وصل هذا الأسطول فعلاً. يقول توينبي وشبيه بذلك أن مراد بك القائد العسكري المملوكي حين حذره تاجر بندقي من أن استيلاء نابليون على مالطة قد يكون مقدمة لنزوله مصر فانفجر ضاحكاً من سخف هذه الفكرة( ).
وإذا كان يصعب الاتفاق مع تفسيرات توينبي التبسيطية الساخرة لمسألة على درجة كبيرة من التعقيد كمسألة استجابة المجتمعات الإسلامية لتحديات الحضارة الحديثة، فإن ما يهمنا هنا ليس صدق تفسير توينبي أو زيفه بقدر ما يهمنا التفسير ذاته، فكيف جابهت الشعوب العربية والإسلامية تحدي الغرب الحديث؟, في كتابيه (العالم والغرب) و(الإسلام والغرب والمستقبل) يجيب توينبي عن السؤال، إذ يرى "أن الصدام المعاصر بين الإسلام والغرب ليس فقط أنشط وأقرب مما كان عليه في أي دور مضى، ولكنه كذلك جدير بالاهتمام لأنه يشكل حدثاً مهماً في مشروع يقوم به الرجل الغربي (التغريب) للعالم، مشروع يمكن عده أهم الأحداث وأروعها حتى في تاريخ الجيل الذي عايش حربين عالميتين، ومرة أخرى يواجه الإسلام الغرب وظهره إلى الحائط، ولكن موقفه هذه المرة أخطر بكثير مما كان عليه في أصعب مراحل الحروب الصليبية، ذلك لأن الغرب الحديث لا يفوقه بالأسلحة فحسب، بل يفوقه بتكنيك الحياة الاقتصادية – عماد العلوم والصناعات الحربية – ولاسيما بثقافته الروحية تلك القوة الداخلية التي تخلق وحدها وتؤيد المظاهر الخارجية لما نسميه المدنية"( ). فالحضارة الغربية الحديثة قد غيرت تغييراً شاملاً حياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم بل وحياتهم الاجتماعية والعائلية من نظام الزوجة الواحدة إلى تحرير المرآة.
ولاشك في أن المؤرخ الأوربي المعاصر وربما المؤرخ الذي يعيش عام 2047 – كما يقول توينبي – سيذكر التحدي الأوربي لحضارات الشرق كلها على أنها أهم ظاهرة في العصر الحديث( ). لكن ماذا كان رد الفعل واستجابة الإسلام للتحدي الغربي؟( )
يرى توينبي أن كل مجتمع يجد نفسه بإزاء تحدٍ خطير مثل هذا يسلك طريقين للرد على التحدي، ويمكننا إيراد أمثلة واضحة على نوعي الاستجابة هذين في رد فعل الإسلام إزاء ضغط الغرب اليوم في موقف سابق نشأ من صدام الحضارة الهلينية والمجتمع السوري القديم. فتحت تأثير الصدمة الهلينية برزت في المجتمع السوري نزعتان هما: نزعة التزمت (الزيلوتية)(*) ونزعة المسايرة (الهيرودية)(**). ويستخدم توينبي لفظ (الزيلوتية) بمعنى مرادف للسلفية أو التزمتية أو الرجعية، وكذلك يستخدم لفظ الهيرودية والمستقبلية والتشكلية أو (المسايرة) بمعنى واحد، إذ يرى "أن نزعتي التزمت والمسايرة خطتان لا محيص للهيئات السياسية في المجتمعات المعتدى عليها أن تختار إحداهما، إلا في حالات نادرة"(3).
والسلفية أو التزمتية هي محاولة للارتداد إلى إحدى تلك الحالات السعيدة التي يتطلع إليها الناس في عصور الاضطرابات بحسرة بعد أن يضفوا عليها مثالية لا يسوغها التاريخ، وكلما بعد العهد بها اشتد الحنين إليها، وهي شعور بالتفاهة والعجز. "والسلفية موقف متناقض من التاريخ‘ فإذا حاول صاحبها استعادة الماضي دون أن يأخذ الحاضر في حسبانه، فإن من شأن حافز الحياة الذي يتجه بطبعه صوب التقدم أن يحطم بناءه الهش إلى شظايا، وإن ارتضى من الناحية الأخرى إخضاع نزوة خياله المتصلة بإحياء الماضي لإنجاز فعل يجعل من الحاضر شيئاً مفيداً، عندئذٍ تبرهن سلفيته على تدليسها"( ).
والمستقبلية بالمثل هي محاولة للهروب من حاضر كريه وذلك بالقفز إلى مستقبل مجهول لا يعرفه أحد. على أن هذه الحركة جالبة للهلاك أيضاً، فهي تقوم على محاكاة نظم مجتمع آخر وتقاليده الخلقية. وعلى أحسن فرض تكون هذه المحاكاة مسخاً لأصل، لا يبعث على الإعجاب في حين أنها على أسوأ فرض تجي مزيجاً متنافراً من عناصر شتى متنافرة( ).على هذا النحو يمكن تلخيص الموقف، المتزمت والممتثل، أنهما موقفان ينبثقان من موقف واحد هو رفض الحاضر المأزوم المهزوم، لكن يختلفان فيما عدا ذلك فالمتزمت يتطلع إلى الماضي البعيد رغبة في استعادته، والممتثل يتطلع إلى المستقبل رغبة في تقليده، المستقبلي (صاحب نزعة المسايرة) يخيل إليه أنه يتطلع إلى الأمام، ولكنه في الواقع يتطلع إلى جانبيه، محاولاً أن يكون نسخة طبق الأصل من جيرانه، وإذا كان المتزمتون أشبه بالنعامة تخفي رأسها في الرمال هرباً من صائدها وهي تتصرف على وفق الغريزة، فإن (المتشكلين) وإن تصرفوا على وفق العقل فإنهم يمارسون لعبة خطرة، إنهم على وفق المثل الإنجليزي (كفرسان يحاولون أن يتبادلوا خيولهم في أثناء عبورها المجرى)( ).
ويرى توينبي أن المستقبلية والسلفية على السواء محاولتان للإفلات من سقام قائم بالفعل، ويتأتى تحقيق ذلك الإفلات بطفرة خاطفة، تدفع المرء إلى ناحية أخرى من تيار الزمن، دون التخلي عن جانب الحياة الدنيوية على الأرض. ويتشابه كذلك مجال اختيار هذين القائمين على السعي للفرار من الحاضر مع البقاء في محيط البعد الزمني، في كون كل منهما عملاً فذا تبرهن التجربة على قصوره. ولا تختلف المستقبلية عن السلفية إلا في ناحية الاتجاه أي فوق تيار الزمن أو تحته وفي هذا الاتجاه تدبر النزعتان سبيل الإفلات من مأزق قائم إلا أن المستقبلية تذهب أبعد من السلفية في حملتها ضد الطبائع البشرية، فإن من طبائع البشر الأصيلة الفرار من الحاضر باتخاذ وسيلة الانسحاب إلى ماضٍِ مألوف. لكن الطبيعة البشرية أشد ميلاً إلى التشبث بحاضر مكروه، منها إلى المجازفة في مجاهل المستقبل. ومن ثم نجد الجهد النفساني (الإرادوي) في حالة المستقبلية أقوى على نحو واضح منه في حالة السلفية وغالباً ما تصبح المستقبلية؛ نزعة رد الفعل التالي لتلك النفوس المتحفزة التي سبقت لها تجربة السلفية، فخاب أملها، لكن إخفاق المستقبلية هو أشد من السلفية. ويخلص توينبي إلى تشبيه "نكبة السلفية بفرقعة سيارة تنزلق على مسالكها في دائرة تامة، ثم تندفع صوب دمارها في الجانب المضاد، ويشبه المستقبلية بسيارة تندفع في طريق مجهول تتحطم عند أول منعطف أو هاوية"( ).
تجدر الإشارة إلى أن توينبي قد حاول تطبيق هذه النظرية التأملية الكلية على مختلف الحضارات التي درسها، وجمع شواهد من عدد من المجتمعات الحديثة التي واجهت الموقف مع الغرب، كالصين واليابان وروسيا، أما شواهد النزعتين السلفية (الزيلوتية) المتزمتة، والمستقبلية (الهيرودتية) الممتثلة في المجتمع الإسلامي فيرصدها توينبي على النحو الآتي:
أولاً: الاستجابة السلفية:
التي تتمثل في رأي توينبي في الحركة الوهابية في نجد والحجاز من الجزيرة العربية والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والأسرة الحميدية الزيدية في اليمن. جميع هذه الحركات ازدهرت في مناطق قاحلة مأهولة بشتيت من السكان، بعيدة عن خطوط المواصلات الدولية الرئيسة في العالم الحديث، وقد بقيت غير جديرة بالاهتمام حتى اكتشاف النفط، تشذ عن هذه القاعدة الحركة المهدية التي سيطرت على السودان الشرقي بين سنة 1883-1898. ومن الطريف الإشارة إلى أن خليفة المهدي (عبد الله) قد بعث برسالة إلى ملكة بريطانيا حينها يطلب منها الاستسلام ودخول الإسلام ويعرض عليها الزواج من أحد أتباعه بعد إعلان إسلامها( ). غير أن المهديين السودانيين اصطدموا بقوة غربية هي بريطانيا ما لبثت أن اجتاحتهم بأسلحتها الحديثة.
ويضرب توينبي مثلاً آخر على الموقف (الزيلوتي) الغريزي، الذي يقف موقفاً متناقضاً من الحضارة الغربية الحديثة، مثل الإمام الزيدي يحيى حميد الدين إمام صنعاء الذي كان يعتقد بأنه يمكن أن يكتفي بأخذ التكنيك العسكري الغربي من الحضارة الغربية وتكريس حياته الباقية (لحفظ الشريعة) في شتى المناحي الأخرى، وبذلك يستديم لنفسه ولذريته استحقاق نعمة الله وبركاته، إذ أجاب على محدثه الإنجليزي بعد أن امتدح هذا الأخير الإمام لمظهر جيشه على الطراز الحديث مضيفاً بقوله: "أعتقد أنكم ستتبنون كذلك المؤسسات الغربية الأخرى؟ وأجابه الإمام مبتسماً: لا أعتقد ذلك. وحينما سأله عن السبب قال: إنني أحب أن أكون أنا نفسي الحكومة لأن المجلس النيابي متعب كما أنني لا أسمح بدخول الخمر إلى بلادي"( ).
ويعلق توينبي على تلك الواقعة بقوله: "إن هذه الكلمات كانت تنفذ إلى صميم القضية وتدل على أن تحدي إمكانية إدخال المستحدثات الغربية الأخرى إلى صنعاء كانت لدى الإمام أكثر أهمية مما شاء أن يعترف به، فالواقع أن تلك الكلمات تدل على أن الإمام، في نظرته إلى الحضارة الغربية إنما كان يراها عبر المدى وحدة لا تتجزأ، وكان يعد بعض مظاهرها جزءاً متصلاً اتصالاً عضوياً بتلك الوحدة الكاملة، بينما لا يرى الغربي في هذه المظاهر نفسها غير أجزاء منفصلة لا علاقة الواحد منها بالآخر، ومن هنا كان الإمام بمجرد اقتباسه أصول التكنيك الحربي عن الغرب يعترف ضمناً بأنه قد أدخل في حياة شعبه الطرف الحاد لإزميل يشطر مع الوقت حضارته الإسلامية التقليدية المحكمة التماسك إلى شطرين اثنين. فقد بدا انقلاب ثقافي لن يترك اليمنيين في النهاية إلا أمام بديل واحد هو "تغطية عريهم بملابس جاهزة من المصنوعات الغربية أي المضي قدماً حتى النهاية في التغريب"( ). وإذا كان من حق توينبي أن يرانا ويتصورنا ويفسر تاريخنا كيف ما يشاء، فمن حقنا بل من الأولى بنا أن نكون على معرفة وإدراك للكيفية التي يرانا بها الآخر الغربي، وأن نتخذ موقفاً نقدياً يتيح لنا أن نميز بين الحق والباطل.
في الواقع أن توينبي الذي ينظر إلينا من أعلى قمة بلغتها الحضارة الغربية البريطانية في زمانه أي من الشرفات العالية لبرج الإمبراطورية المنتصرة، لن يرى في حياة الشعوب غير الغربية إلا مجرد ردود أفعال متزمتة أو ممتثلة على الفعل المركزي الواحد الوحيد، الذي هو الحضارة الغربية، مركز الإشعاع الحضاري والمدني والثقافي في العالم الحديث والمعاصر، وإذا كنا نتفق مع توينبي بشأن تفوق الغرب العلمي والتقني والعسكري، فمن الصعب الاتفاق معه في تفسيره التأملي لحياتنا الحديثة، فالقول أن الحركة الوهابية والسنوسية والمهدية والمتوكلية هي رد فعل متزمت على ضغط الغرب، هو قول ينطوي على كثير من الزيف والتناقض من وجوه عدة أهمها:
1. أخطأ توينبي حين حشر كل تلك الحركات والنظم السياسية في سلة واحدة، معتقداً بأنها ردود أفعال مخفقة على طغيان الغرب الحديث، وهو إذ نظر إليها من بعيد ومن خارجها بدت له متشابهة (كما تبدو في الليل جميع البقر سوداء)، ونحن نعلم أن الحركات الوهابية والسنوسية والمهدية والمتوكلية، لم تكن في حقيقة أمرها إلا استجابات لعوامل وأسباب داخلية أكثر منها خارجية، وأن تفسيرها لا يمكن أن يكون بمعزل عن شروط نشأتها.
2. ويتناقض توينبي حين أكد ظهور تلك الحركات في مناطق قاحلة بعيدة عن مدى التأثير الغربي آنذاك يؤكد في الوقت نفسه أنها استجابة فاشلة للتحدي الغربي.
3. عزل توينبي الصورة الذهنية التي كونها عن تلك الحركات عن السياق التاريخي لنشوئها وتبلورها وازدهارها، فهي لم تظهر كما يعتقد توينبي، أنبثاقاً مفاجئاً لضغط الغرب، بل تمتد بجذورها الراسخة في البنية التاريخية لتطور المجتمعات العربية الإسلامية، التي كانت تمارس حياتها الطبيعية قبل ظهور الحضارة الغربية الحديثة، فالنظام المتوكلي مثلاً كان استمراراً للدولة الزيدية التي نشأت في إيران بين عامي 864-928م، واليمن عام 897 م كما يقول توينبي في كتابه تاريخ البشرية( ). فهي لم تكن استجابة لضغط الغرب، وكذلك حال الوهابية التي لم تكن في حوافزها ولا في أهدافها المعلنة حصيلة العامل الخارجي، بل جاءت مثلها مثل كل الحركات الدينية الإسلامية القديمة بمثابة رد فعل لتفشي مظاهر الانحلال الديني، وتجديد روح العقيدة الإسلامية، ولا يوجد أي أثر في نشاطها الباكر للضغط الخارجي الغربي الحديث.
4. حين قامت تلك الحركات لم تكن تعي وجود الآخر الغربي من حيث كونه تحدياً يستدعي استجابة واعية، ورسالة المهدي إلى ملكة بريطانيا هي أصدق تعبير عن غياب الوعي الكلي بخطر الآخر والاستعداد لمجابهته.
5. لقد خلط توينبي بين القوى الثلاث للتاريخ، الحضارة المدنية والثقافة، حينما اعتقد بأن أخذ التكنيك العسكري الغربي يستوجب الأخذ بالنظم الحضارية الغربية، من حيث أن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم بل أنها تخلق عالمها المجازي أيضاً، أي أن نقل بعض مظاهر المدنية الغربية لا يتم بمعزل عن نقل السياق الثقافي والحضاري لتلك المدنية، وهذا ما يراه توينبي في حديثه عن إمام صنعاء.
ثانياً: الاستجابة الهيرودية
ابرز من يمثل الموقف (الهيرودي) هو محمد علي باشا الذي عده ماركس (الرجل الوحيد في الشرق الذي أحل رأساً حقيقياً محل عمامة قشيبة)( ). ويرى توينبي أن محمد علي يمثل نزعة التشكل والمسايرة، بمعنى أنه أول من أدرك ضرورة الأخذ بأسباب تفوق الغرب لمجابهته والانتصار عليه. ويورد توينبي مقطعاً من تقرير حول مصر في سنة 1839 وضعه الدكتور (جون باورنغ) للورد (بالمرستون) أوضح كيف أن محمد علي أراد أن يؤدي دوراً مستقلاً في القضايا الدولية، وكان يتوجب عليه من أجل ذلك أن يقوي الجيش المصري والترسانة البحرية بأخذ التكنيك الغربي وإدخال السلاح الحديث، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا باستجلاب الخبراء الفنين من البلدان الغربية، لكن هؤلاء الخبراء يرفضون أن يدخلوا في خدمة مصر إلا بتأمين شروط حياتهم الصحية والخدمية، ومن شروط الرفاهة في نظرهم المعونة الطبية يقدمها لهم أخصائيون غربيون مجربون، وكانت النتيجة المستخلصة أن لا ترسانة حديثة دون مستشفى حديث، وعلى هذا أمر محمد علي ببناء مستشفى متكامل في الترسانة البحرية في الإسكندرية. يقول توينبي: "يشير الدكتور (باورنغ) إلى أمر يبدو لأول وهلة غريباً، وهو أن مستشفى التوليد الوحيد للنساء المسلمات الموجود في مصر كان قائماً داخل ترسانة محمد علي البحرية، وهكذا أنشئ في البدء مستشفى بهيئة من الموظفين الغربيين. وفي ذلك الوقت كانت الجالية الغربية فئة قليلة وكان موظفو المستشفى تتآكلهم تلك الحيوية التي ضرب الله بها الإفرنج (يقصد الحيوية الجنسية) وكان المصريون كثيرين، وحوادث التوليد أكثر القضايا الطبية العادية الممارسة شيوعاً، وهكذا تتوضح الطريقة التي قامت بها في قلب الترسانة البحرية دار لتوليد النساء المصريات نظمها خبراء غربيون"( ).
ويخلص توينبي إلى أن محمد علي الذي حكم بين (1805-1849) يعد الممثل الأبرز لطائفة الهيروديين، المتشكلين بعد الفشل الذي أصاب مشروع السلطان العثماني سليم الثالث، الذي أراد أن يحذو حذو بطرس الأكبر قيصر روسيا الذي أعاد إنتاج أوربا في روسيا. وكان محمد علي كذلك أول من واصل السير في هذا الطريق بنجاح ملموس يعكس ما واجهه سيده ومعاصره في اسطنبول السلطان العثماني محمود الثاني الذي حكم من 1808-1839. لكن ما لم يذكره توينبي هنا، هو تكالب القوى الغربية على محمد علي ومشروعه التحديثي الغربي الذي أجهض. "لقد كانت خطورة قيام دولة فتية وقوية ذات جيش منظم وحديث واقتصاد متين وسلطة دولة شابة قادرة على الإمساك بزمام الأمور خطورة كبيرة بالنسبة إلى الغرب الذي لم ير في الشرق سوى سوق بضائع ومصدر ثروات ومناطق نفوذ. ولهذا ليس غريباً أبداً أن تتفق معظم دول الغرب على إيقاف هذا العقل الجموح ورجل الدولة الداهية الذي يحكم أهم ولاية تؤمن له مركز التوسع وبناء دولة شرقية قوية. فكان أن تجاوزت الدول الغربية خلافاتها بصدد الإمبراطورية التي تحتضر ووضعت حداً لطموحات محمد علي ولكل طموح يمكن أن يستمر لدى خلفائه بحجة إعادة السلم إلى الشرق. وبعد أن أرغم محمد علي على قبول معاهدة لندن التي "قضت بعزل مصر داخل حدودها وتحديد عدد جيشها ب 18 ألفاً فقط، وفتح أسواق مصر للبضائع الأوربية فقدت مصر كل ما بنته خلال ثلث قرن"( ).
لكن إذا كانت محاولة محمد علي وخلفائه في أن يجعلوا من مصر قطعة من أوربا قد أدت إلى الاحتلال البريطاني لمصر، فإن محاولة تركيا ولاسيما ثورة مصطفى كمال أتاتورك( ) قد أفضت إلى نتائج مختلفة، إذ يرى توينبي أنه بعد أن قضى (الهيروديون) من ساسة تركيا على الوضع الحميدي بانقلاب بطولي، سارت (الهيرودية) على أيديهم إلى نهايتها المنطقية في ثورة تتضاءل أمام طابعها الراديكالي الثورة اليابانية فبدلاً من أن تنحصر الثورة التركية في ميدان واحد تلو الآخر، كما هو الحال في ثوراتنا الاقتصادية والسياسية والجمالية والدينية المتعاقبة، راحت الثورة التركية تجتاح جميع هذه الميادين دفعة واحدة وتقلب حياة الشعب التركي رأساً على عقب، من أعلى نشاطاتها وتجاربها الاجتماعية إلى قاعها الأدنى، ولم يكتف الأتراك بتغيير دستورهم بل خلعت هذه الجمهورية الفتية حامي الإسلام وألغت خلافته، وأزالت حجاب المرآة ونبذت جميع مقتضياته وأبطلت الوقف الإسلامي، وحلت الزوايا والخانقات وحملت الرجال على الاختلاط بغير المؤمنين (الأجانب) إذ فرضت عليهم مجاراة هؤلاء بلبس القبعات ذات الحواشي التي تمنعهم من ممارسة التقليد الإسلامي القاضي بأن تمس جباه المصلين أرض المسجد، وصفت الشريعة الإسلامية بترجمة القانون المدني السويسري إلى التركية، واقتبست قانون الجزاء الإيطالي واستبدلت الأحرف العربية والتركية بالأحرف اللاتينية. أما التغيير الأعمق والأجرأ الذي أدخله الأتراك على حياتهم فهو الانصراف عن حياة الفلاحة والحرب والإقطاع إلى حياة التجارة والصناعة والرأسمالية لكي يبرهنوا أنهم قادرون على مجاراة الغربيين واليونانيين (المتغربين) والأرمن واليهود، في نشاطات كانت تبدو لهم فيما مضى مستنكفة محتقرة( ).
ويثني توينبي على محاولة تركيا الحثيثة تقليد الغرب إلى حد أنه يعفو عن أخطائها وجرائمها، ويتمنى لها التوفيق والنجاح في مهمتها الجبارة، وينتقد أولئك المتشككون من النقاد الغربيين الذين مازالوا ينظرون إلى تركيا باستكبار وسخرية في محاولتها تقليد الغرب ومحاكاته كما تفعل القرود، بحيث أصبح التركي بعد أن تم قطعه عن تراثه القديم ولغته كائنا لا هو بالشرقي ولا هو بالغربي، ومع أن تركيا في المجال السياسي حليفة دول الغرب فإن هذه الأخيرة لا تعد تركيا جزءاً من حضارتها، وأصبح التركي يخاطب الأوربي بنبرة مشحونة بالأسى والعتاب من أنجيله (زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكن فلم تلطموا)( ).
وكما خلص توينبي في عرضه للاستجابة الإسلامية الأولى السلفية المتزمتة الزيلوتية على حد تعبيره بأنها مخفقة لا محالة، يخلص هنا إلى بيان نقاط الضعف القاتلة التي تكتنف الاستجابة الثانية، الهيرودية التركية وضعفها يكمن في كونها تقلد ولا تبدع، تنسخ ولا تأصل، تحاكي ولا تتمثل، تساير ولا تتجاوز، تمتثل ولا تخلق، كما أنها في قطع صلتها بالماضي تنتج شخصية مسخاً غير محددة الملامح ينتابها حالة من الإحساس بالضياع والاغتراب والقلق والتوتر.
ويرى الأستاذ مدني صالح عن حق أن الدعوة إلى ترك الماضي والتخلف لم تكن في حقيقة أمرها إلا قناعاً سايكسبيكوياً للدعوة إلى ترك المنحى الآسيوي العربي التركي القرآني. ولم تكن الدعوة إلى المستقبل والتقدم (الأوربة) إلا قناعاً سايكسبيكوياً للدعوة إلى المنحى الأوربي الإنجليزي الفرنسي التوراتي( ).
وهذا ما يكشف عنه توينبي بنفسه حينما استعرض احتمالات الصدام بين الإسلام والغرب على مستقبل الحضارة الغربية بقوله: "في استعراضنا موضوع الدراسة، وهو التأثير الذي قد يكون للصدام بين الإسلام والغرب، فإننا نستطيع أن نهمل المتزمتين والممتثلين جميعاً ما دامت استجاباتهم مقصورة على ذلك الحد من النجاح السلبي في مجال البقاء المادي، فالزيلوتي المتزمت يستحيل إلى راسب حضاري متحجر منقرض من حيث طاقته الحيوية، أما الهيرودي الذي ينجو من الغرق فيمسى مقلداً للحضارة الحية التي يندمج فيها. والحق أنه لا الزيلوتي ولا الهيرودي يقدران على أن يشاركا مشاركة خلاقة في نمو الحضارة الغربية الحية"( ).
ويضرب توينبي مثلاً لإخفاق المتزمتين، كإخفاق المماليك حين واجهوا مدافع نابليون الحديثة بالسيف والدرع والرمح فكان الهلاك مصيرهم، إما أخفاق المتشكلين فمن نوع إخفاق مبتدئ في الفروسية في امتطاء جواد جديد إذ يهوي به ويجرفه التيار إلى الهلاك المحتوم، وهكذا جاءت حركة التشكيل مخيبة للآمال، لقد مر عليها أكثر من قرن في مصر، ونصف قرن في تركيا ولكن النتيجة جاءت عقيمة بل مؤسفة في نواح كثيرة في حياة البلدين.
كما أن إخفاق الاستجابتين يعود في جانب منه إلى الصراع بين المتزمتين والمتشكلين، فقد كانت أولى العمليات الحربية التي قام بها محمد علي باشا لتجربة جيشه (الغربي) الحديث مهاجمة الوهابيين في عقر دارهم محاولاً إخماد نارهم واجتثاث شافتهم منذ بدء انطلاقهم. وبالمثل حاولت ثورة المهدي المتزمتة توجيه الضربة القاضية لمشروع الحداثة المصرية، وهذا ما أفضى إلى الاحتلال العسكري للسودان سنة 1882( ). ويستطرد توينبي في قراءة المشهد العربي الإسلامي في أفغانستان والهند وباكستان وإيران وتركستان وجنوب شرق آسيا (إندونيسيا وماليزيا) وإفريقيا محاولاً البحث عن مخاطر الوجود الإسلامي على الحضارة الغربية، وبعد أن يستطلع كل مقومات البلدان العربية والإسلامية ودور الانتداب البريطاني الفرنسي في الشرق، يرى أنه "على الرغم من النكبات التي حلت بالحضارة الإسلامية لوقوع معظم دولها فريسة الاستعمار في القرن التاسع عشر، ما أن حل النصف الثاني من القرن العشرين حتى كانت الحضارة الإسلامية سليمة الجوهر، وإن سلبت أجزاء من أطرافها، لقد استطاعت أن تنتزع نفسها من الاستعمار البريطاني والفرنسي والهولندي"( ).
ولكن ما هو مصير الحضارة الإسلامية اليوم؟ هل ستنقرض مثل الحضارات المنقرضة؟ هل ستتحجر كبعض الحضارات المتحجرة أم هل سيجرفها تيار الحضارة الغربية الكاسح؟ يجيب توينبي كلا، ويحذر من مغبة الاعتقاد الساذج بخمود الحضارة الإسلامية، وذلك أن مصير الأكثرية من الشعوب الإسلامية المعاصرة لن يكون الفناء ولا التحجر ولا الانصهار، بل سيكون الاندماج عن طريق الانضمام إلى البروليتاريا (الكوزموبوليتية) الشاملة الكلية التي هي إحدى النتائج العظمى لعملية (تغريب العالم)، ورغم أن "تأثير الغرب قد نفذ إلى قلب الإسلام وراح يهزه من الأعماق، فما زالت الحضارة الإسلامية تنطوي على طاقات هائلة وإمكانات كبيرة، بما يجعلها تنافس الحضارة الهندوكية أو بوذية الماهايان من أجل السيطرة في المستقبل بوسائل تتعدى تصوراتنا"( ).
ولكن ماذا يكمن في الحضارة الإسلامية من طاقات غير قائمة في الحضارة الأوربية الحديثة حتى نتوقع لها الازدهار في المستقبل؟ يرد توينبي: إن الحضارة الأوربية تحمل في طياتها التناقض بين الفكر والسلوك، بين أفكار الإنسانية والمساواة والإخاء والحرية التي ورثتها من الثورة الفرنسية والتفرقة العنصرية التي تمارسها الآن بالفعل والتي تشكل خطراً عليها بزيادة وعي الشعوب الملونة بذاتها وبالآخر، إضافة إلى طغيان النزعة الآلية والنزعة الاستهلاكية والفردية وغير ذلك من مظاهر ضعف الحضارة الغربية الراهنة, هذا في حين أن طابع الحضارة الإسلامية الاتساق بين الفكر والعمل فيما يخص الموقف من الإنسان والمساواة بين جميع الناس، ويرى توينبي أن انطفاء جذوة النزعات العنصرية بين المسلمين يعد ظاهرة من أعظم المنجزات الأخلاقية في الإسلام، فقد شهدت الدولة الإسلامية في أزهى عصورها أن ارتفع إلى مراكز السلطة فيها الرقيق والعبيد، وفي العالم المعاصر تبدو الحاجة ماسة إلى نشر هذه الفضيلة الإسلامية، ومن المعقول أن تكون روح الإسلام هي تلك القوة المدخرة التي قد تقرر مصير تلك المشكلة لصالح التسامح والسلام"( ).
والفضيلة الثانية التي يراهن عليها توينبي في الحضارة الإسلامية هي تحريم الخمر، وقد لا يدرك الكثيرون قيمة هذا التحريم بالنسبة للحضارة ولكن من يشاهد عن قرب سكان المناطق الاستوائية يدرك أن توقف نشاطهم راجع إلى شرب الخمر إلى حد كبير، "ولقد فشل الإداريون الأوربيون في علاج هذه المشكلة التي لا تحلها القوانين المفروضة لأن الامتناع عن شرب الخمر لا يتم إلا بوازع ديني"( ).
ويخلص توينبي في بيان ما يمكن أن يكونه الإسلام في عالم الغد إلى القول (إن الطبيعة تخاف الفراغ) ويصدق ذلك على المجال الروحي كما يصدق على المجال المادي، والحضارة الغربية لم تحسن ملء هذا الفراغ الروحي بنفسها، لكنها بالمقابل قد وضعت نظاماً فريداً من الوسائل المادية لعمليات النقل والاتصال المختلفة تحت تصرف أية قوة روحية قد تقرر أن تحل محلها في المستقبل. والإسلام في اثنين من هذه المناطق الاستوائية في إفريقيا الوسطى واندونيسيا هو القوة الروحية التي أفادت من فرصة (الإصلاح) في هذا المجال الروحي الميسور لذي أتاحه رواد الحضارة الغربية المادية لجميع الوافدين، وإذا ما وفق سكان هذه المناطق يوماً إلى استعادة حالة روحية ترد عليهم ذواتهم، فلا ريب في أن هذا يعد كسباً كبيراً للإسلام، هنا في جبهة الغد، نستطيع أن نرى أثرين فعالين يمكن أن يحدثهما الإسلام في العالم الجديد، لكن هذه الاحتمالات المختلفة لا يمكن التثبت من صحتها الآن فقد تسوغها الأحداث وقد لا تسوغها، "فإن هذا الخليط الشامل المتنافر قد ينتهي بانفجار، وفي مثل هذه الكارثة قد يكون للإسلام دور مختلف يؤديه لكونه عنصراً فعالاً في انتفاضة عنيفة ينتفضها العالم الكوزموبوليتي المختلف في ثورته على أسياده الغربيين"( ).
وفي ختام عرضه للإسلام والغرب والمستقبل بدأ توينبي كمن يحذر الحضارة الغربية من الخطر الهاجع، إذ يرى أنه على الرغم من إخفاق (الجامعة الإسلامية) التي كانت تشكل بعبع الحكام للاستعماريين الغربيين، فإن ثمة مظاهر تدل على نمو الروحية الدينية الإسلامية في عموم العالم، إذ نستطيع أن نميز بعض الحركات الروحية التي قد تصبح غداً نواة ديانات كبيرة جديدة فالحركات (البهائية والأحمدية)(*) التي بدأت ترسل مبشريها من عكا ولاهور إلى أوربا وأمريكا قد لفتت انتباه المراقبين المعاصرين الغربيين. غير أننا بانتهائنا إلى هذا الحد نكون قد بلغنا أعمدة هرقل، وعلى المكتشف الحذر أن يتوقف هنا ويحترس من الإقلاع في محيط الغد الطالع. وأن غريزة القطيع (تبرز فجأة) وأن الجامعة الإسلامية هاجعة ومع ذلك يجب أن نرقب يقظة النائم من هجعته إذا ما ثارت البروليتاريا الكوزموبولوتية في العالم الغربي على السيطرة الغربية وراحت تطالب جهاراً "بسلوك اتجاه معادٍ للغرب. قد يكون لهذا آثارٌ نفسية بالغة في روح الإسلام المجاهدة حتى لو طالت رقدة هذه الروح طول هجعة أهل الكهف، وذلك لأن النداء يوقظ في العالم الإسلامي أصداء عهد بطولي، ففي مناسبتين تاريخيتين كان الإسلام الراية التي سار المجتمع الشرقي في موكبها إلى مجابهة غازٍ غربي وكان النصر حليفه. وإذا كان العالم اليوم سيندفع في (حرب بشرية) عامة فقد يهب الإسلام ليؤدي دوره مرة أخرى.
في ضوء ما تقدم يمكن القول أن نظرة توينبي للإسلام والعرب والشرق عامةً محكومة برؤية استشراقية عامة لم ترَ في الشرق غير كيان أسطوري أعاد الغرب تشكيله مراراً كما يحلو له منذ غزو نابليون لمصر 1789م.
هذه الرؤية التي كانت تقوم على فرضية متعالية، أي أمكان مسح وإزالة التاريخ مثل مسح السبورة، لكي نستطيع بعد ذلك تسطير المستقبل الذي نريد عليها وفرض أنماط حياتنا على بشر نعدهم أقل قيمة( ). وقد تم مرة في تلك العملية إغفال أو جرف ذلك التنوع اللامتناهي بين شعوب المنطقة وتواريخها وثقافاتها ولغاتها، لكي يغدو كل منها شظايا متنافرة لا معنى لها، مثل بقايا كنوز تاريخ العراق التي هربت من بغداد، وعلى هذا الأساس لم يرَ توينبي من كل تاريخ الحضارة العربية الإسلامية اليوم غير تلك الفضيلة الأخلاقية الوحيدة التي يمكن أن تفيد الحضارة الغربية العالمية اليوم، ليس لكونها فضيلة إنسانية بذاتها، بل من حيث إنها تساعد الإداريين الغربيين أو في الأقل من كان منهم من أصل أنجلو – سكسوني على ضبط حياة (القطيع) أو رعاياهم الأصليين (سكان البلدان الخاضعة لنفوذهم) وتوجيه سلوكهم نحو تنفيذ المشاريع، بدلاً من الانغماس في شرب الخمر، هكذا يقول توينبي. "إن آفة الخمر هي أسوأ ما تكون بين الشعوب البدائية في المناطق الاستوائية التي فتحها الغرب وصارت ميداناً لمشاريعه. وقد عجزت كل التدابير والحركات الإدارية المباركة باتفاقات دولية ورعاية الأمم المتحدة عجزه عن تحرير هذه الجماعات من هذه الآفة المعيقة للعمل والإنتاج. وهنا يستطيع الإسلام أن يؤدي دوراً كبيراً"( ).
هكذا إذن لم تقدم المعرفة الاستشراقية أية خدمة حقيقية لموضوعها الذي هو الشرق والشرقيون. وبدلاً من أن تسهم، بوصفها معرفة إنسانية في الارتقاء بأي وجه من وجوه حياة الشرقيين، فإنها في الغالب كانت وبالاً عليهم، لأنها لم تستخدم إلا للسيطرة على مقدراتهم واحتوائهم واستغلال خيراتهم، وربما سلبهم كل ما يحفظ عليهم هويتهم وإنسانيتهم فقد وظفت أساساً من أجل خدمة منتجها الغربي في مواجهة الشرق يغزوه حيناً ويحتله حيناً، ويستغله حيناً ويحبط مساعيه نحو التقدم حيناً رابعاً ويحد من طموحاته في بناء مستقبل أفضل لأبنائه حيناً خامساًولا أعرف إلى ماذا استند بعض المثقفين العرب حين جعلوا من توينبي صديق العرب ومنصف الأمة وحامي الإسلام؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.