مثلما قبلت بالقرار الدولي 598 الذي أوقف الحرب مع العراق، وحصلت انسحابات مفاجئة من حلبجة والفاو ونفط شهر، هو ما يحدث الآن في اليمن، بعد نجاح إيران في التوصل مع دول 5 1 إلى اتفاق حول برنامجها النووي، والذي فتح لها باباً كان موصداً لأكثر من ثلاثة عقود، لايجاد شركة مع الغرب وتحديداً مع الولاياتالمتحدة، تساهم في حل إزمات المنطقة، لتصبح جزءاً أساسياً من الحلول، بدلاً من حالتها الراهنة، كجزء أساس من هذه الأزمات. صحيح إن حلول الأزمات الاقليمية حتى في اليمن تحتاج قبل كل شيء إلى إرادة دولية، في ظل وجود جدار الشك والريبة الذي يهيمن على علاقات إيران الاقليمية، خصوصاً مع دول الخليج العربية بالأخص السعودية، لكن الاتفاق النووي بين الغرب وإيران، من شأنه أن يرسل إلى دول الاقليم العربية والسعودية منها بوجه خاص المعنية أساساً باليمن، رسائل مطمئنة عن الدور الإيجابي الذي تطمح أن تلعبه إيران لانهاء هذه الأزمات .. ومنها بالطبع أزمة اليمن. ويبدو من «الصفقة الكبرى» التي بشر بها الاتفاق النووي، أنها أقنعت إيران بفرملة نفوذها في اليمن برغم أنها ترفض على الدوام أن تصفه بالتدخل، أو أنه يهدد مصالح وأمن السعودية، بالانطلاق من مفهوم جديد يسود العقلية الحاكمة في إيران هذه الأيام، يقر بنفوذ السعودية في اليمن، وحقها في أن تكون لها كلمة في طبيعة الحكم وتحالفاته هناك، مثلما يحق لإيران أن يكون لها نفوذ وكلمة في دولة تجاوره كالعراق مثلاً. ورغم أن المفاوضات «النووية» الأخيرة التي جرت على مدى نحو عامين، كانت محض «نووية»، وتم الاتفاق مسبقاً على فصل الملفات العالقة بين إيران والغرب، وأن يجري العمل على حلها بالمفرق، إلا أن ما تم التفاهم بشأنه أيضاً منذ التوصل إلى الاتفاق المبدئي في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 حول النووي، أن حل المسألة النووية، يجب أن يُفضي إلى الإقرار بدور إيران المفصلي في حل الأزمات الحادة في المنطقة، حتى قبل أن تبرز المسألة اليمنية بشكلها الفاقع الأخير منذ إعلان السعودية وحلفائها، الحرب بحجة إعادة الشرعية إلى اليمن. من وجهة نظر محض إيرانية، فقد شنت السعودية الحرب على اليمن لعرقلة التوصل إلى الاتفاق النووي، أو التأثير عليه ولتكون أزمة اليمن واحدة من أوراق إضعاف الموقف الإيراني والضغط على طهران لتقدم تنازلات في المفاوضات النووية. وفي هذا الواقع تعاطت إيران مع الأزمة اليمنية بعد الحرب في مستواها الإنساني وبرزت كداعية سلام تقدم مبادرات لوقف الحرب فيما منافستها وهي «قبلة المسلمين» في العالم، تظهر أمام المسلمين والعالم في شهر رجب الحرام، وهي تشن الحرب وتصر عليها. استنزاف هكذا تعاملت إيران، وهي تنشط في الوقت نفسه على خط جر السعودية إلى حرب استنزاف لا تخسر فيها إيران جندياً، وهي تستعد لتعويض ما تقدمه من أموال لدعم حلفائها، مما ستكسبه بعد الاتفاق النووي. وإذ نجح الرئيس «المعتدل» حسن روحاني في كسب ثقة المرشد آية الله علي خامنئي، وتأييده المطلق له في «المفاوضات النووية» فانه تمكن ببراعة من تحييد الحرس الثوري الممسك بكل تفاصيل البرنامج النووي الإيراني، وفي تخفيف قبضته على أهم الملفات الساخنة: في سورياوالعراقواليمن أيضاً. كانت قيادة الحرس الثوري بدعم وربما بتحريض من مرجعيات دينية بارزة في قم مثل آية الله ناصر مكارم شيرازي، ترغب في أن يكون الرد الإيراني على حرب السعودية في اليمن، بالمزيد من التصعيد، حتى لو تسبب ذلك في تقويض المفاوضات النووية، من قراءة مفادها إن الولاياتالمتحدة تريد الاتفاق النووي مع إيران أي ثمن، ولا ترغب في الانجرار إلى حرب مع إيران بما يمكن الأخيرة من فرض اسلوبها في حل الأزمة في اليمن لصالحها. هذه القراءة لم يهضمها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي لجأ إلى طلاب الجامعات ليعبئهم لصالح «السلام» ورفضِ الانجرار إلى حرب مع أمريكا بأي ذريعة كانت. وأثارت تصريحاته أمام الطلبة، التي حذر فيها من حرب محتملة تكون إيران هدفاً لصواريخ العدو المفترض بما يعرض بنيتها التحتية لمخاطر جدية، غضب قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري الذي لم يكن يملك الا إطلاق تصريحات «ثورية» مضادة بينما كان ظريف ينقل للمرشد علي خامتئي تقريراً مفصلاً عن رؤيته لما سيترتب على إيران وعموم المنطقة من تكاليف باهضة لحرب مسرحها الأراضي الإيرانية!. راية اليماني وكادت إيران تنجح في مساعي طاقمها الدبلوماسي، في أيار/مايو الماضي لايقاف الحرب ولو بهدنة قابلة للتمديد والتحول إلى وقف دائم لإطلاق النار يهيىء لحل سياسي. وكان يفترض أن تتوقف عاصفة الحزم على اليمن ويبدأ الفرقاء المتصارعون مفاوضاتهم السياسية، بالوكالة عن طرفي الصراع الرئيسين إيران والسعودية، غير أن تمدد الحوثيين وحلفائهم في عدن، وعدم استجابتهم لنصيحة إيران لهم بهذا الشأن، نقلت الحرب على اليمن إلى «إعادة الأمل». لم يستجب عبد الملك الحوثي لدعوات إيران بتقليص تمدده في عدن والتمهيد لانسحابه منها في صفقة تنقل اليمن إلى مرحلة جديدة من الوفاق السياسي يرضي الأطراف الاقليمية الأكثر نفوذاً كالسعودية، وأظهر أنه حليف وليس أداة، وذلك بتشجيع من قراءة دينية تعتقد أن راية ( اليماني) الذي سيكون له شأن في عصر ظهور المهدي المنتظر، هي أهدى من سواها من الرايات حتى من راية الخراساني القادم من إيران الجمهورية الإسلامية. ومع ان إيران تنفي على الدوام أنها تقدم الدعم العسكري للحوثي وتعترف على لسان المرشد علي خامنئي بعد الاتفاق النووي أنها لن تتخلى عن حلفائها، إلا أنها لا تستطيع اخفاء سر اهتمامها باليمن بعيداً عن نظرية الوصول فقط، لباب المندب، وتشكيل خطر جدي يهدد إسرائيل التي تظل في عقيدة «الجمهورية الإسلامية» كياناً غير شرعي لن تعترف به مهما كلفها ذلك من دفع أثمان باهضة. فالاهتمام الإيرانيباليمن ديني وتأريخي. يعود إلى ما قبل عقود من ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية؛ حين أرسل الملك الساساني جيشاً بقيادة القائد «وهرز» بطلب من الملك اليمني «سيف بن ذي يزن» لمواجهة الجيش الحبشي آنذاك، وبعد إنهاء القتال وصد الجيش وطرده من الأراضي اليمنية؛ بقي الجيش الفارسي في اليمن وتزوج أفراد من قواته من نساء يمنيات أنجبوا ما عرفوا حينها ب «أبناء الفرس». وتعود أصول بعض هذه القبائل اليمنية إلى هؤلاء الجنود الفرس. وأثناء البعثة النبوية الشريفة أرسل النبي محمد (ص) الإمام علي بن أبي طالب إلى صنعاء للملك اليمني «باذان» ذي الأصول الفارسية لدعوته للإسلام. نحج الإمام علي في اقناع «باذان» قبول الإسلام وبهذا دخل أهل اليمن للإسلام. وفي القرن الثالث الهجري توجه «يحيى بن الحسين الرس» الملقب بالهادي مؤسس المذهب الزيدي برفقة ثمنمئة من أنصاره من «ديلم وطبرستان في بلاد فارس والعراق نحو صعدة. وبايعته قبائل «همدان» و»خولان» و»بكيل» والذين كانوا نواة أول دولة شيعية عرفها التأريخ. أمن جماعي .. وفي سياق الإسقاطات الدينية نفسه يردد الإيرانيون في كتبهم أن الملائكة التي أرست الجبال كانت تعلم أن القرن الحادي والعشرين سيأوي علويين من ذرية أهل البيت وشيعتهم، وإلا لما خلقت تلك الطبيعة جنوب شبه الجزيرة العربية، سلسلة الجبال الشاهقة في الارتفاع التي تصل إلى الكيلومترين والتي تمتد من مكةالمكرمة إلى مدينة تعز (بالقرب من عدن) وفي الطريق محافظة صعدة ومحافظة حجة ومناطق أخرى في اليمن. وجاء في كتب التاريخ الذي يؤمن به الإيرانيون وعموم الشيعة، أن الحسين بن علي عندما كان ينوي السفر إلى الكوفة منع بعض أنصاره من مرافقته وأوصاهم بالذهاب لليمن لأنهم سيجدون الكثير من محبي والده علي بن أبي طالب في جبال اليمن، فالذين يعيشون في صعدة هم من نسل المحاربين الذين ناصروا الإمام علي في حروبه، وقد أثنى الإمام عليهم مراراً. هذه النظرة الدينية لم تصطدم بموقف علي عبدالله صالح من الجمهورية الإسلامية بُعيد سقوط نظام الشاه الذي كان يتتلمذ على يد أستاذه صدام حسين. وأرسل حينها فيلقاً كاملاً من القوات اليمنية لدعم الجيش العراقي في حربه ضد إيران وكان من بين الجنود الذين أسرتهم إيران، عدد من الجنود اليمنيين. لكن في المقابل كان الجيش اليمني يضم شيعة من صعدة رفضوا الإلتحاق بالجيش اليمني في حربه على إيران لأنهم كانوا يعتبروها حرباً ضد الإمام الخميني الذي يرونه من ذرية النبي، وهو أمر لا تنساه إيران وهي تتحرك لانقاذ تفاهمها الذي رسمته ملامح «الصفقة النووية الكبرى» وتشمل وضع حلول لأزمات سورياوالعراق ولبنان والبحرين وأن تكون أزمة اليمن ساحة اختبار لنجاحها، ومن مظاهره انسحاب الحوثيين وحلفائهم المفاجئ من عدن، دون أن يمنعهم ذلك من التهديد من جديد بخيارات «الصبر الاستراتيجي» فيما لو فشل الاختبار الذي يجري تدشين مفاوضاته في سلطنة عمان بمشاركة أمريكية مباشرة، في إطار مفاوضات تسهم فيها أيضاً روسيا التي تريد مع إيران إنشاء منظومة خاصة بالأمن الجماعي لمكافحة الإرهاب، أو تحالف يضم أهم اللاعبين الإقليميين، كإيران ودول الخليج!. *عن القدس العربي