تعد تركيا في تركيبتها الثقافية والإثنية والطبيعية والدينية وعلاقاتها التاريخية، نموذجا مصغرا للشرق الأوسط بكل تعقيداته وتلويناته وأزماته، الأمر الذي يفرض تسليط الضوء على الديناميكية التي توجّه السياسة التركية، وكيف تترك أثرها في ترتيب البيت الداخلي وتؤثر في العلاقات الخارجية، خاصة مع دول الجوار العربية. عندما عادت تركيا لتكتشف سحر الشرق، لم تواجه في البداية صعوبات في سلك هذا الطريق، فالواقع السياسي كان مختلفا، والطريق كانت معبّدة سلفا، مهّدها نجوم الدراما التركية، الذين قلبوا قبل سنوات قليلة من اندلاع ثورات الربيع العربي موازين الإعلام والسياحة وصناعة الدراما في العالم العربي؛ ثم جاء أردوغان وركب على القضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل وتحدث مع الشارع العربي عن الوحدة والاشتراك في الدين والتاريخ. لكن، لم يدم الافتتان العربي بالدراما التركية، الفنية والسياسة، كثيرا، فسرعان ما أسقطت الأحداث التي أعقبت الربيع العربي القناع عن رجب طيب أردوغان وحزبه، الذي يظلّ حبيس رؤية أيديولوجية لا تتناسب ومبدأ صفر مشاكل مع الجوار ولا تتواءم وجهات نظرها مع وجهات النظر الإقليمية في الملفات الشائكة. مأزق العلاقات التركية العربية بالرجوع إلى كتابات أحمد داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية التركية ورئيس الوزراء الحالي، يتضح كيف تريد أنقرة تفعيل دورها الجيوسياسي وتزعّم تركيا للعالم السني، واستعادة التوسّع العثماني في ثوب جمهوري. وفي إحدى مقالاته المنشورة سنة 2010 في مجلة “شرق نامة”، حدد أوغلو ستة مبادئ لتحقيق ذلك الهدف. وهذه المبادئ هي: * تحقيق توازن بين الحرية والأمن لترسيخ نموذج العلمانية التركية في المنطقة بدعم أميركي * التأثير في دول الجوار عبر الأسلمة والعثمنة * نهج سياسية خارجية متعددة الأبعاد * دبلوماسية متناغمة غير متناقضة في نهجها وأساليبها وغاياتها * تصفية المشكلات مع دول الجوار * نهج أسلوب دبلوماسي جديد يستغل سقوط الأيديولوجية الاشتراكية والخطاب القومي العربي لتقوية توظيف الخطاب الإسلامي كبعد سياسي مؤثر في العلاقة المنشودة مع دول العالم العربي. وقد باءت محاولة تطبيق هذه المبادئ في الحوار العربي التركي بالفشل وأتت بنتائج عسكية، واليوم تمر العلاقات بيت تركيا وأغلب الحكومات العربية بأحد أسوأ مساراتها على المستوى السياسي. وأبرز التحديات التي يواجهها الحوار التركي العربي على المستوى السياسي تتمثل في كون الحزب الحاكم في تركيا لم يحسم توجهه بشأن علاقاته الاستراتيجية بالعالم العربي على قاعدة الشراكة والبراغماتية السياسية. ورغم تطورات الوضع، ما يزال العدالة والتنمية مستمرا في نسج خيوط هذه العلاقة على قاعدة مصالح أيديولوجية دينية مرتبطة بإعادة إنتاج “الخلافة الإسلامية”. يبدو هذا التأثير واضحا مع خيار تورط تركيا في دعم الإخوان المسلمين واستثمار الرابطة التاريخية المتمثلة في فكرة الخلافة العثمانية، في استحضار لا يخلو من انحرافات ومغالطات. كما أن تورط الحكومة التركية في الحرب الأهلية في سوريا على أساس ترتيب سلطة تابعة لها، والدعم غير المحدود للإسلام السياسي واستغلال ثورات الربيع العربي لتوسيع النفوذ، واستمرار اتهاماتها لدول خليجية باستهداف الحزب الحاكم في تركيا، كلها عناوين لسياسة خارجية خاطئة لم يعتذر عنها أصحابها إلى الآن، وستبقى عائقا أمام تطوير الحوار الاستراتيجي وإنشاء جبهة سنية متينة في مواجهة محاولات إيران لإنشاء الهلال الشيعي. تحت مزاعم مساندة التحول الديمقراطي في العالم العربي تطورت الأمور إلى محاولة لنشر النزعة العثمانية الجديدة، عبر الترويج للنموذج الإسلامي التركي في سيناريو لا يختلف كثيرا عن المحاولات الإيرانية ومبدأ “تصدير الثورة الإسلامية” في المنطقة؛ مما يجعل القيادة الحالية في تركيا بعيدة عن فتح شراكة استراتيجية مثمرة في العلاقات العربية التركية، لفتح توازنات جديدة.الرفض الشعبي يلاحق حزب العدالة والتنمية أنقرة- أشار أحدث استطلاع للرأي أجرته مؤسسة كيزيجه أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا لن يحصل على أصوات كافية لتشكيل حكومة بمفرده في الانتخابات المبكرة التي ستجرى في الأول من نوفمبر المقبل. وأظهر الاستطلاع أن نسبة التأييد للحزب بلغت 38.9 بالمئة أي أقل من النسبة التي حصل عليها في انتخابات السابع من يونيو الماضي، وكانت 40.7 بالمئة. وقد خسر الحزب في تلك الانتخابات أغلبيته للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002. وأوضح استطلاع مؤسسة كيزيجه أن التأييد الراهن لحزب الشعب الجمهوري، وهو حزب المعارضة الرئيسي بلغ 27.8 بالمئة، فيما حصل حزب الحركة القومية على نسبة تأييد بلغت 16.3 بالمئة وحزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للأكراد على نسبة 13.5 بالمئة. من أبرز المعيقات الداخلية التي تواجه حزب العدالة والتنمية، مساهمته الكبيرة في تصاعد العوامل الانقسامية داخل الساحة التركية بينه وبين الأحزاب والمنظمات الأخرى، كما تزايدت حدة هذا الانقسام على مستوى معالجة القضية الكردية بطريقة شوفينية، وبما قد يضعف استمرار الدولة التركية في نسختها المعاصرة بعد سقوط دولة الخلافة. وأدى الحزب الحاكم بسياسته الإقصائية إلى استنزاف جهود وموارد كبيرة للدولة في مواجهة المعارضة؛ فضلا عن كونه ساهم في فشل إقامة تحالف سياسي مع الأحزاب الأخرى. إذ اعتبرت المعارضة كل المحادثات السياسية التي تمت غير جدية، وأن التوجه نحو انتخابات مبكرة في نوفمبر القادم هو “انقلاب مدني”، ويأتي في سياق حملة تريد إعادة توجيه الناخبين لصالح الإدارة الحالية، كما أن الاتهامات بإبقاء حلم النظام الرئاسي قائما ووضعه على الرف مؤقتا، ما يزال مستمرا، وأن رغبته جادة في بسط سيطرته الشاملة على جميع مفاصل مؤسسات الدولة التركية (رئاسة البرلمان، رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية).مأزق السياسة الخارجية التركية تتحكم التفاعلات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية الداخلية في محددات السياسة الخارجية التركية، وهي تؤثر بشكل كبير في رؤية القيادة السياسية التركية الحالية في معالجة القضايا المحيطة بها في سورياوالعراق، وشبه الجزيرة العربية، وفلسطين، ودول مجلس التعاون الخليجي، ومصر، ولبنان، والأردن، وهو الأمر الذي يفرض معه استشراف أخطاء الخيارات التركية في العالم العربي: * ما يزال الحزب الحاكم يستثمر بكل ما أوتي من قوة في قضايا الهوية الدينية وتوظيف الإسلام السياسي كبعد سياسي واجتماعي وانتخابي يركز فيه بكل قواه على الدعوة لنموذج العدالة والتنمية، بحيث يستنفر خطاب “الهوية الإسلامية” و”الإرث العثماني لتركيا”، في قالب العثمانية الجديدة، ومركزها أنقرة، وهي رؤية تحاول من خلالها تركيا استرجاع زعامتها في الأراضي العثمانية السابقة، وبالتالي إحياء الكومنولث العثماني من جديد على قاعدة “الاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا” كما صرح بذلك داود أوغلو في 2010. * جرى تسويق خطاب إعلامي بتأسيس قناة تركية موجهة للعالم العربي، وإطلاق العديد من المواقع الإلكترونية التركية بالعربية، واستقطاب عدة كتاب عرب من المشرق والمغرب للعمل في مراكز البحوث والمشاركة في مؤتمراتها، وفتح أقسام خاصة بالعالم العربي في الجامعات التركية، ثم تم إنتاج عدة أفلام تاريخية تركز على تقديم رؤية إيجابية للسلاطين العثمانيين، وتنوه بحفاظ السلطنة العثمانية على الإرث الحضاري الإسلامي ورمزيتها الكبيرة، فيما تم الرفع من كل العوائق الإدارية الخاصة بسفر المواطنين العرب إلى تركيا، وازدادت أعداد السائحين العرب بشكل غير مسبوق، فيما يجري استغلال هذا الانفتاح والتأثير الإيجابي كقوة ناعمة ثقافيا وإعلاميا، فضلا عن استغلال أحداث سياسية عصفت بالمنطقة كالحرب على العراق واحتلاله والعدوان الإسرائيلي على غزة، بحيث تظهر تركيا بمظهر النصير للقضايا العربية والإسلامية. فشلت تركيا حزب العدالة والتنمية في تحقيق النقلة التاريخية على مستوى السياسة الخارجية، سواء على الصعيد الأوروبي أو على الصعيد العربي؛ وبعد سنوات من النجاح الاقتصادي، كان لسياسة صفر مشاكل مع الجيران دور كبير في ترسيخه، ورّطت أحلام رجب طيب أدروغان السلطوية تركيا في أزمات المنطقة وتحولت سياسة الجوار الهادئة إلى تدخل ومساهمة في عدم استقرار بعض الدول لدرجة أن تركيا أصبحت متهمة بعلاقات مشبوهة بجماعات مدرجة على القائمة الدولية للتنظيمات الإرهابية.