يحاول بوتين استعادة هيبة الحقبة السوفياتية لروسيا منذ تسلمه الحكم من خلال خوضه ودخوله في الحروب والصراعات والتحالفات والتحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية في الفضاء السوفياتي وخارجه, وذلك باتباع أسلوب الإخضاع والهيمنة أحياناً والتحدي أحياناً أخرى, تبين ذلك من خلال تعامله مع بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة وتحديه للغرب في أوكرانيا وأخيراً في سوريا. إنها روح الغطرسة لدى بوتين في إعادة أمجاد بأي ثمن كان. لم تكن مواقف روسيا وبقية حلفاء النظام متذبذبة منذ اليوم الأول للثورة الأزمة السورية حالياً على عكس مواقف أصدقاء المعارضة. علاوة على ذلك، لم يأت التدخل الروسي الأخير في سوريا بشكل مباشر من الفراغ, بل بسبب جملة من العوامل من بينها, السياسة اللينة لحلفاء المعارضة وتهاونهم في تدمير بنية تنظيم "داعش" لحسابات السياسية والمصلحية الحالية والمستقبلية, مع منح مجال محدود لبقية الفصائل المعارضة لتشديد الخناق على الأسد ترضيةً لبعض حلفاء أمريكا. كما أن التدخل الروسي لم يأت في نفس وقت بدون حصول على الموافقة ضمنية من أمريكا وإسرائيل: إنه تشابك معقد في المصالح والسياسات بين الكبار. دخول روسيا بقوة وحماسة منقطعة النظير في المعركة السورية، بدا وكأنها لا تعطي أهمية للحلف الغربي، فهي تدعم النظام براً وتقصف خصومه جواً وبحراً، كما لا تفرق بين تنظيم "داعش" أو جبهة النصرة أو غيرهما من التنظيمات الإسلامية، لأنها لا ترى وجوداً للجيش الحر إلا من خلال منظور البرنامج الأميركي لتدريب وتجهيز المعارضين المعتدلين والذين لم يتجاوز عددهم ستين مقاتلاً، وهذا ما عدا قيام طائراتها باستفزاز تركيا أردوغان واختراق مجالها الجوي والتي هي بمثابة غمزة التحذير للأخيرة من مغبة إصرارها على طلبها لإقامة منطقة عازلة في الشمال السوري بدون موافقتها والتي ستكون معرضة لمرمى طائراتها وصواريخها, ناهيك عن تمزق حلم تركيا في التمدد في العالم العربي أسوة بإيران. ويعتبر استمرار روسيا في حشد المزيد من الجنود والسلاح إلى الساحل السوري بالتزامن مع إطلاقها لصواريخ العابرة على بعد آلاف كيلومترات من بحر قزوين أيضاً رسائل تصنف ضمن خانة الحرب النفسية ترافقها البروباغندا ضد الخصوم والمختلفين الدوليين والإقليميين قبل أن تكون للداخل السوري. أيقنت روسيا بأن الأسد لن يصمد إلى ما لا نهاية وهي ترى بأم عينها ازدياد تقلص سيطرة حليفها في الجغرافية السورية، وكيف باتت أجزاء من تلك الجغرافية تابعة للغرب وأخرى للمتطرفين وداعميهم بعد أن كانت بشكل كامل شبه تابعاً لها، لذا فهي لن تتخلى عن الجزء الغربي على الساحل، فهو يشكل آخر موطئ قدم لها في الحوض المتوسط. الدب الروسي عائد هذه المرة بكل العنفوان وله دروس وعبر من التجارب السابقة في أفغانستان والشيشان وجورجيا وبقية حلفائها الذين انهاروا في مختلف بقاع العالم وفي أوكرانيا مؤخراً, لكن الدهاء الغربي وسيف التطرف ليسا أمرين هينين. الجميع يرى أن الأزمة السورية غنيمة قيمة يجب استثمارها لأن الفوضى ستغير الجغرافية السورية وخارطة الشرق الأوسط بأكمله ومعها ستتغير قائمة الحلفاء والأعداء عالمياً. في المحصلة. ما يجري في سوريا هو الصراع بين الكبار على الاستراتيجيات وبين الصغار على الهوامش أي بزوغ مرحلة تقاسم مناطق النفوذ بين الكبار وتقاسم الجغرافية السورية محلياً بين مختلف الطوائف والقوميات بدعم قوى إقليمية.