بقلم: عبد الرزاق السيد لقد تم طرد القوى المتخلفة، و لا شك أن هذا كان انجازاً كبيراً، وإن لم يكن الأصعب. إذ أن المهمة الشاقة والعسيرة التي تتطلب التفكير العميق ومن ثم العمل الجدي الفوري، لضمان انتصار قوى التغير والتقدم، هي إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة حتى لا تنهار الأوضاع بشكل مأساوي ونعود إلى ما هو أسوأ من نقطة البداية. إذا ينبغي أن يكون بناء مؤسسات الدولة في الجنوب من أولويات الحكومة اليمنية "الشرعية"و الأطراف المختلفة للتحالف العربي ، فضلاً عن المجتمع الدولي، بكل مكوناته ، لتجنب كل أشكال الفوضى القائمة والانهيارات المحتملة . وفي هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى نمطين من الإجراءات: الإجراءات العاجلة ، والإجراءات الآجلة ، وهذه إجراءات متلازمة وجوهرية على أية حال ، حتى وأن تفاوت توقيت تنفيذها. وتكمن الإجراءات العاجلة التي لا تقبل التأجيل ، هي توفير الأمن وإشراك الشعب، بشكل فعلي ، في هذه المهمة الحيوية العاجلة. وعلينا في هذا الميدان أن نترك مجالاً واسعاً للمبادرات الشعبية المنضبطة. ولهذا الغرض سيكون علينا أن نتعلم من تجربتنا المضيئة السابقة ، التي كانت قائمة إبَّان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وتمثلت في لجان الدفاع الشعبي في الأحياء ، التي شملت كل مدن الجمهورية ، وجعلت الاختراق الأمني مستحيلا. ولكن هذه الإجراءات إذا أريد لها أن تنجح ، وفي هذه الظروف العصيبة ، فأن الأمر يقتضي إشراك كل المواطنين ، في عدن ، بعيداً عن الاعتبارات القبلية والقروية و الجهوية الضيقة. إذ ينبغي أن يحس المواطن ، بصرف النظر عن انتمائه القبلي أو القروي ، إنه معني بالأمر و إنه يدافع عن كينونته كإنسان. وهذه الإجراءات ينبغي أن تسير، يداً بيد، مع الإجراءات الآجلة الأخرى حول بناء الدولة التي سنتطرق إليها في سياق هذا الحديث . فالإجراءات الأمنية مرهونة ، بالطبع، في تعيين مسئولين سياسيين وإداريين وأمنيين على درجة عالية من النزاهة والشجاعة والحكمة ، أمثال محافظ محافظة عدن الجديد، و المسئول الأمني وآخرين، و لكن لا ينبغي أن توكل إليهم مهام كبيرة دون توفير الدعم المالي و السياسي الضروريين ، ذلك أن التعيين دون الدعم اللازم لن يترتب عليه سوى الفشل ، الذي قد يفضي إلى انتكاسات خطيرة ، يقود إلى تقويض سلطة الحكومة ، وفقدان السيطرة على الأوضاع القائمة. و لهذا ينبغي أن تتدخل الدول الإقليمية والمجتمع الدولي بشكل إيجابي من أجل مساعدة المسئولين الجدد، من أجل القيام ببناء مؤسسات الدولة، ابتداء من استقطاب كوادر مهنية مؤهلة ، و إتباع نماذج دولية ناجحة، وهنا يمكننا الإشارة إلى نموذج إقليم كوسفو والإجراءات التي أتبعت هناك لتطبيع الأوضاع عقب الحرب الدامية التي عصفت بها. ويجب كذلك أن يكون هناك دعم أمني و مالي لفرض السلطة الحديثة، والسلطة الحديثة مرهونة بقوة القانون وشرعيته، وفرض السلطة الحديثة قد يتطلب استخدام القوة مع المخالفين للقانون. اليوم تقوم دول الخليج مشكورة بتقديم الدعم اللازم لتأسيس منظمات حكومية و منظمات خيرية لتغطية الفراغ في معظم المجالات الخدمية والعسكرية و الأمنية، و لكن هذا وحده لا يكفي ولا يطمئن المواطن البسيط على أمنه ومستقبله، فضلاً عن المسئول الجديد الذي قَبِلَ بتحمل المسؤولية في ظل هذاالوضع الخطير. فالأوضاع القائمة رغم كل الإجراءات التي اتخذت منذ بدء التحرير ، تبدو مضطربة وتتسم بالفوضى وعدم الاستقرار، والقرارات المتخذة هي الأخرى تتسم بالعشوائية والمحاباة والارتجال. و لا شك إنَّ هذه الطريقة الفوضوية المرتبكة في العمل ، تثير القلق ، وتجعل الناس يفقدون الأمل ، و تعطي مجالاً واسعاً للفساد ، وتسمح للفوضى أن تنتشر وتتفشى وتغدو منهجاً في الحياة ، ربما بالشكل الذي كان عليه الحال إبان نظام المخلوع، و الدليل على ما نقول ، هو كثرة الشكاوي المرفوعة من قبل المواطنين ورجال المقاومة الجنوبية ،وعدم استلامهم لرواتبهم الشهرية كاملة ، أو حتى عدم معرفتهم بموعد استلامها. بمعنى لا توجد هناك مؤسسة حكومية رسمية ، قادرة أن تتحمل المسؤولية بجدارة، والأمور ، كما يبدو ، غدت نهباً للفوضى، وكأن التضحيات الجسيمة التي قدمها شعبنا من أجل الحرية لم تجدِ نفعاً. إنّ ما يجب القيام به في المناطق المحررة وبشكل عاجل هو بناء وتفعيل المؤسسات السياسية والتشريعية والقضائية ، ويمكن في هذا الصدد الاستعانة بالدول الديمقراطية من أجل إنجاز هذه المهام الجوهرية في بناء الدولة الحديثة ، التي ينبغي أن تقوم على الأسس العقلانية والديمقراطية الحديثة ، وليس على العرف القبلي والعشوائية. ولا ريب أن مثل هذه الإجراءات العقلانية ، خارج العمل العشوائي والرطانة السياسية المبتذلة والأوهام القبلية والعصبية القروية المعطوبة بالجهل ، أن تقيم الأساس المتين لدولة مدنية حديثة ، على أنقاض دولة القهر والتخلف والفوضى التي سادت في بلادنا في السنوات الماضية. ولا نبالغ إذا قلنا إنَّ مثل هذه الإجراءات السياسية والتشريعية والقانونية، التي تستهدف وضع اللبنات الأولى لدولة العدل والحرية والتقدم ، هي دون غيرها التي ستشكل مفتاح النصر الحقيقي على قوى التخلف والظلام في كل المناطق المحررة ، و فعاليتها السياسية لن تقل ، بأي حال من الأحول ، عن العمل المسلح ، الجاري في مناطق مختلفة ، من أجل هزيمة القوى المتخلفة و بشكل نهائي وحاسم. ذلك إن البشر لا يمارسون الحرب من أجل الحرب، ولكنهم يمارسونه من أجل الحرية والعدل والتقدم،حينما لا يجدون وسيلة أخرى للتغير. فلنصنع إذاً دولة العدل والحرية والتقدم من أجل هزيمة قوى التخلف، ولا نكون مجرد نسخة مكررة من حكومة الحوثي-عفاش ، الفاشية المتخلفة.