عقب العام 1990م شهدنا أموراً عجيبة في مسار حياتنا لم نشهدها من ذي قبل .. وكانت تقارير المستشفيات التي تحصل فيها الوفيات ناتجة عن حالات مرضية معروفة لا تثير الخوف والهلع بين أوساط الناس . وكنا نقول الحمد لله على قضائه وقدره لقوله تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت .. وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ..) وان الحياة والموت بيد الله تعالى .. فله الحمد والشكر على ما وهب وأعطى. إلاَ أن الحالات الجديدة من الأمراض التي ظهرت ..(وهي موضوع الجلطات) كانت قد انتشرت على البقاع .. وحتى التقارير العالمية التي تشير إلى حالات الجلطة وأثرها على الإنسان والمعروف علمياً أن الجلطات بأنواعها الثلاثة .. (الرئوية) وهي التي توقف تدفق الدم بشكل غير كاف إلى الشرايين .. فتسبب ضيق التنفس والسعال الدموي وتؤدي إلى الوفاة .. أما النوع الثاني فهي (الدماغية) فتسبب ارتفاع ضغط الدم أو إصابة قوية في الرأس أو كثرة تناول الأدوية للتخثر ..فتكون نهاية المصاب والثالثة جلطات (القلب) تنجم عن ارتفاع الضغط والسمنة المفرطة وأمراض الأوعية الدموية والمخدرات ..فتخدر الأطراف وتؤدي أحياناً إلى الشلل في الحالات الحميدة .. وإذا اشتدت لحقت (بأخواتها) وهي حالة بعيدة عن القراء تنتج عن ارتفاع السكر في الدم دون الإخضاع لفحوصات دورية للسكر والضغط .. وكنت قد أصبت بها وتعرضت لعملية جراحية (قلب مفتوح) لسبب انسداد ثلاثة شرايين بنسب متفاوتة 97 ، 92 و 90 درجة .. وبعد العملية حصلت لي مضاعفات لآثار السكر فضرب السكر قدمي اليسرى وتجمدت الأطراف واحترقت وخضعت لعملية جراحية سافرت فيها إلى القاهرة وعملتها في مستشفى أبن سيناء الدولي بمصر أدت إلى بتر رجلي اليسرى وأعاقتني عن الحركة .. معاقاً على السرير. إلا أن التحاليل الشائعة والشعبية تفند الحالة بمنظورها لحدوث الجلطات بأنه معاناة من واقع الحياة المعيشية والعملية والتقلبات في الحياة العامة ورمي الكوادر بدون عناية ورعاية صحية كالجمال العاملة في المعاصر التي لا تعصر الا متى ما غطوا أعينها .. فتظل تدور وتعصر العصرات حيث يأتي صاحب المعصرة (يأخذ العصار ) ليبيعه لمواشي التسمين في الأسواق والشاقي قد عيونه مغطاه يدور على قمع المعصرة لا يرى شيئاً حتى لا يدوخ ويقع على الأرض .. فهي وصف لحالة الباحثين والفنيين من المهندسين الزراعيين ولا من مجيب لأوضاعهم .. ولا من معين غير الله سبحانه وتعالى .. فيظل الباحث (يقرح أصابعه ويعدها ..) حتى يظل أسيراً وجاهزاً في الطابور لاستقبال الجلطة المميتة .. نحس فيما بعد وفاته ومفارقته إلى جملة الهموم التي يعاني منها ولم يفصح عنها الا بعد تسليم (النفس إلى بارئها) لذا أخترت من بيت المهنة الزراعية حالات حصلت في البحوث الزراعية وبالذات حالات الجلطات بعد الوفاة .. فكلنا نعرف أن مؤسسة البحوث الزراعية هي أكثر المؤسسات العلمية التي تفاخر بها وزارة الزراعة لأنه من نتائج البحوث تتوفر لنا الملابس والسكن والعلاج والغذاء بشقيه النباتي والحيواني.. وكما نعرف أن مؤسس هذه المؤسسة البحوث الزراعية في فترة الخمسينات أبن أبين البار الدكتور (أبوبكر المعلم) نمسك من عند أول شهيد وفقيد للقطاع الزراعي مات بجلطة قلبية .. ولم تمت استنباطاته كمربي لمحاصيل أصناف القطن والحبوب .. لعب دوراً وطنياً وصادق في اقتصادية البلاد إلى جانب المحاصيل الزيتية .. وتوسيع زراعة البن في كل مناطق يافع .. ذي ناخب ورصد .. ويهر .. ولبعوس ..والمفلحي .. ثم لحق به الدكتور شفيق محسن عطا .. ثم الدكتور محمد سعيد مقطري خبير الري الزراعي ، ثم المهندس (محمد عوض باعامر نائب وزير الزراعة .. واختتمها أبو الزراعة مربي الزرع والإنسان الاستاذ الذي لا ينسى (محمد سليمان ناصر .. وزير الزراعة) ، وتواصلت عطاءات وزيارات الجلطات .. لتخطف المهندس ناصر محمد عامر نائب وزير الزراعة لشئون الري .. والمهندس محمد حسين أمذروي أبن مكيراس الشموخ .. وقبل ثلاثة أشهر ودع مركز بحوث الأغذية وتقانات ما بعد الحصاد الدكتور فيصل عبدالله باسنبل أبن وكيل وزارة الأسماك بعدن وزميلي في المدرسة المتوسطة في مطلع الستينات .. وكذا الفقيد المهندس زكريا حيدر ، المهندس علي عبدالله باعوم المدير الفني لمركز بحوث الأغذية وتقانات ما بعد الحصاد ، و أحمد محمد عبده ..فني في قسم التربة بمحطة أبحاث الكود والدكتور أحمد علي القرشي ، والعامل عوض هادي حارس مكتب البحوث بعدن وأخوه الفقيد محمد هادي .. وإلى ضحايا الجلطات في المحطات والمراكز البحثية في المناطق الجنوبية والشرقية والشمالية وفي الإدارة العامة .. فتعازينا لكل الباحثين والزراعيين وهم (راكزين الركب ..) ينعوا أخوتهم وكلهم حسرة وألم .. على الضحايا بالجلطات فالوجيعة عند الأهل وزملاء المهنة وعيب كل العيب من قيادة القطاع الزراعي التي لم تظهر في جنازة أحد الكوادر ولو بقراءة فاتحة ..فلا تيأسوا أخوة المهنة سيهدي الله الجميع وسيحسونها .. وربنا يحفظهم من بلاء الجلطات .. فهم السابقين ونحن اللاحقين .. وللجلطات جالسين .. كل العزاء والمواساة لأسرهم وأبناءهم وأقاربهم .. وربنا يصبرهم ويتغمد موتاهم بالمغفرة والرحمة .. ويدخلهم في جناته وإن شاء الله تعالى .. وما مع المحب إلا دموعه يا أهلنا .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.