المقال السابق تناول جانب من قضية انهيار العملة، وهذا المقال سيثري الموضوع بمزيد من التحليل؛ وبالعودة إلى مسببات انهيار العملة؛ نتذكر القاعدة الإقتصادية التي تقول (يرتفع السعر إذا ارتفع الطلب مقابل انخفاض العرض) وكما جاء في المقال السابق أنّ واردات البلاد من العملة الصعبة انقطعت نسبياً خلال السنوات الماضية ولم يبقى غير مورد واحد "حوالات المغتربين" والتي تناقصت تدريجياً منذ منتصف 2017 حتى وصلت اليوم 20% مماكانت عليه في 2016.. ومع انخفاض عرض العملة الصعبة في السوق وتزايد الطلب ارتفعت أسعارها مقابل الريال اليمني، الذي زادت كمياته في السوق وتناقص الطلب عليه، والطبعات الأخيرة كانت بدون غطاء من الذهب ولاأقتصاد قوي يحميها. وللتذكير؛ يوجد في جمهورية مصر أكثر من إثنين مليون يمني (2،000،000) وجميعهم لايعملون؛ ويعيشون على التحويلات، وأغلبها تحويل إيراداتهما ومدخراتهم من اليمن.. وفي تركيا وماليزيا والسودان والأردن يعيش مئات آلاف اليمنيين، وهؤلاء أيضاً يحولون مدخراتهم من اليمن لاستثمارها في تلك البلاد.. ومع هزيمة الرئيس صالح وقتله أصبح أنصاره مشتري جديد للعملة الصعبة قبل هروبهم إلى الخارج خلال الأسابيع الماضية.. وهناك ارتفاع في التحويلات التقليدية من العملة الصعبة بسبب تدمير بعض الخدمات بفعل الحرب والحاجة للحصول عليها من الخارج كالعلاج والتعليم واستيراد السلع وغيرها، أضف إليها خوف المواطنين من انهيار الريال ونزعتهم لتحويل مدخراتهم إلى العملات الصعبة.
كل هذه الأسباب أجتمعت لتحدث الفوضى النقدية، وفي نفس الوقت لايوجد بنك مركزي (بنك البنوك) كي يتحكم بالمشكلة ويديرها، ويعيد التوازن لسوق العملات؛ عن طريق ضخ عملات صعبة بالوقت المناسب، وسحبها بالوقت المناسب... أضف إلى ذلك عجز الحكومة عن إدارة السوق التجاري والصناعي والخدماتي، وأصبحت هذه الحكومة عبء على الشعب تكلفه شهرياً مبالغ مهولة من رواتب ومخصصات ومصروفات ومسروقات دون أن تقوم بأي عمل يذكر.
قد تكون المشكَّلة كبيرة ومعقدة لكنها ليست عصية على الحل إذا وجدت النية الصادقة والإخلاص لدى الحكومة وكل القوى السياسية.. وكما ورد في المقال السابق أنَّ الخطوة الأولى للمعالجة تكمن في قرار رئاسي يقضي بتشكيل (فريق إدارة أزمة)... وهذا الفريق يجب أن يمنح صلاحيات رئاسية، وتلتزم الحكومة بالتعامون معه.. ولايشكل الفريق بالمحاصصة بين الأحزاب والأقطاب السياسية، ويجب تحييد المشكلة المالية والإقتصادية عن الصراعات السياسية؛ ويجب عدم توظيفها في الصراع مع سلطة صنعاء الإنقلابية، ولاتوظيفها في الخلاف بين أحزاب الحكومة والمجلس الانتقالي..
ويشكل الفريق من خبراء في المالية وإدارة النقود، وخبراء في إدارة الأزمات الإقتصادية أثناء الحروب.. ولايشترط أن يكون جميع الخبراء يمنيين، بَلْ يمكن أن يكون بعضهم من العرب والمسلمين المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والإخلاص.. والحكومات اليمنية سبق لها الإستعانة بخبراء غير يمنيين منذ قيام الجمهورية في الشمال سنة 1962 ومنذ استقلال الجنوب في 1967.. وأغلب الدول النامية مازالت تشكل مجالس خبراء وتستعين بالأجانب حتى اليوم، والحكومات تنفذ توصياتها.
ختامًا أقول؛ إنَّ معركة انهيار العملة اليمنية أهم وأخطر على السلطة الشرعية من معركة تحرير صنعاء، فإذا وصلت الحكومة اليوم إلى قناعة بعجزها عن خوضها فليس أمامها غير الأستقالة، وإذا رفضت الإستقالة فسوف تسقط تلقائياً لامحالة.. وبالنسبة للانقلابيين والمعارضين ليس أمامهم إلا الوقوف إلى جانب حكومة الشرعية في معركة انهيار العملة؛ على اعتبار هذه المشكلة "عدو لهم جميعاً" وأي تلكأ منهم أوتوظيف سياسي تنهار البلاد بكاملها، وتتحول إلى صومال جديد، ولن يجدوا دولة يحكمونها.. وبتعاون الجميع يمكن حل المشكلة، وتحويلها من عبء على اليمن إلى قوة إضافية تصب في مصلحة إعادة الإعمار وتحريك عجلة الإنتاج، وانقاذ البلاد من الانهيار.