(عدن الغد) تنفرد بنشر مذكرات ( الطريق إلى عدن ) الرئيس علي ناصر : الحلقة ( الرابعة عشر ) متابعة وترتيب / الخضر عبدالله : عمامة بالنيلة(1) والصباغة عمل محلي يقوم على مادة النيلة التي تزرع ويجري تجهيزها في براميل وينقع القماش فيها لمدة محددة، ثم يتم إخراجه وعصره ووضعه تحت قطعة من الخشب ويضرب بالكمادة حتى يظهر اللمعان، وتفصّل منه ملابس للرجال والنساء.. وعمائم سوداء للرجال يفتخرون بلبسها وهي تلمع بألوانها الزرقاء الداكنة، ويسكب على رأس المرأة زيت سمسم (سليط) وأيضا الرجل حتى ينزل من رأسه إلى ظهره أحيانا، أو يقطر السليط من أطراف ثوب المرأة ويتحول لون المرأة والرجل إلى السواد، ومن ابرز الذين يقومون بهذا العمل في المنطقة عوض عمر الصَّبان ولبهص ومديهس وعوض الجبل وصالح الجبل وأهل فرحان في امفرعة وغيرهم. ذكر الرحالة الألماني المغامر هانر هولفريتز الذي زار اليمن عام 1934م في كتابه "اليمن من الباب الخلفي" هذه المهنة التي شاهدها في الجنوب حيث وصفها كالآتي: "إن حريب تعتبر من أهم مراكز الجنوب العربي في إعداد النيلج "النيلة". وهذه العملية شاقة ومضنية. إذ إن النيلج يؤخذ من بذور نبتة خضراء صغيرة. وفي الأراضي التي تقع أمام كل مدينة، مساحات شاسعة تداس أرضها بقسوة، ثم تجمع البذور في الليل. وفي الصباح الباكر، وقبل أن تشرق الشمس تبدأ عملية الاستخلاص. إذ تدرس البذور بمدارس من الخشب ثم تغربل وتطحن. وتوضع البذور السمراء الجميلة بعد ذلك في أوعية كبيرة من الفخار ملأى بالماء. وهنا يتأكسد النيلج ويتحول إلى سائل بني غامق عن طريق اتصاله بالهواء. ولا يسمح باستمرار عملية التخمير هذه أطول من عدة ساعات. وعند الظهيرة، عندما تكون الشمس في كبد السماء، يمضي كل رجل إلى وعائه. ويحرك السائل بعصى خشبية. منشداً أناشيد رتيبة وهو يقوم بتحريكه. ويلون نسيج القطن بالمادة التي تم استخراجها، وتصبح جاهزة للارتداء.
ومن طبيعة النيلج أن يتحلل، وهكذا فإن البشرة سرعان ما تكتسب لوناً أزرق. ولكن هذا لا يعتبر نقيصة، بل على العكس، فإن البدو يدهنون أحياناً أجسادهم بالنيلج. وهذا هو السبب في اختلاط لون البشرة السمراء، في هذه المناطق، بالزرقة, وقال إن سلطنة العوالق العليا مشهورة بصناعة الكساء الاسود وهو من أجمل الملبوسات في المنطقة، وكتبت الدكتورة كلودي فايان (صاحبة كتاب كنت طبيبة في اليمن) عن زيارتها لمأرب عام 1952م أنها شاهدت الرجال يلبسون ثياباً مصبوغة بالنيلة الزرقاء القاتمة او الفاتحة وقد امتصت بشرتهم مع مرور الايام هذه الصبغة واستحقوا ان يطلق عليهم لقب البدو الزرق.
قصة قهوة العديني (2)
وقال العم سليمان سأحكي لكم قصة قبل ما ننام الليلة حتى لو طولت عليكم عن قهوة العديني ، وعن الحُبْ والشباب، في الماضي كان رعاة الأغنام من الشباب والشابات يسرحون في الغنم رعيان وكانوا عند خروجهم يتفقون فيقول أحدهم للآخر مثلاً نحن خليط أو لا؟ فإذا اتفقوا منذ البدء على إعلان أن يختلط الغنم ساقوها إلى المرعى معاً، وإذا لم يتفقوا سار كلٌ وحده, وكان يتم التعارف بين الشباب والشابات، وعندما تتوثق العلاقة بين شاب وشابة يصارحها الشاب بحبه لها وإذا قبلت به يبدأ الشاب بزيارة الأسرة ويسامرهم في الليل وأحيانا يأتي بالبُن معه من أجل القهوة. وفي مرة من المرات وبعد تعارف أحد الشباب بأحد البنات قال لها أنا أتي أسمر عندكم فرحبت به البنت، وبعد ذلك أخذ يتردد على الأسرة. ويبدو أن الأب والأم أدركوا أن تردد هذا الشاب سيوصل في النهاية إلى طلب يد أبنتهم وكانوا غير موافقين على ذلك، واتفق الأب والأم على أن يصرفوا هذا الشاب بطريقة مؤدبة, وراحت الأم وأخفت البن المدقوق والذي كان يوضع في ما نسميها (ربعة) وهي وعاء يتسع حوالي كيلو من البُن وهي مصنوعة من الخوص عزف النخيل، وأخفت المقلا الذي يحمس فيه البُن من أجل إذا فكرت البنت أن تبحث عن البن الذي لا يزال حبوب لا تجد مقلى لتحميسه وأخفت أيضا ما يسمى بالمنحاز أي الهون الذي يمكن ان تدق فيه البُن, وأخفت كذلك "غرب" الماء وهو وعاء مصنوع من جلد الغنم المدبوق, وكانت توجد في البيت (مزلالة) هكذا تسمى وهي تتكون من أربع خشبات عمودية فوقها عدد من الواح الخشب الراسية تشكل ما يشبه الطاولة الحديثة توضع عليها أوعية الماء "الغروب" وتسقف المزلالة من الأعلى حتى لا تتعرض اوعية الماء لاشعة الشمس حتى تظل باردة, وبعد ان أخفت الأم الماء بحيث لا تستطيع البنت عمل القهوة قام أبوها وأمها بسرعة بعد العشاء وتظاهروا بالنوم. وبعد فترة جاء العاشق الولهان واحضر البُن معه فقامت البنت لعمل القهوة فلم تجد الهون فقامت باستخدام المرهاة أو المسحقة التي يسحقون عليها الحبوب وسحقت البن والسحق يكون من غير صوت وذهبت إلى المقلاة ولم تجدها فقامت باستعمال حجر الحرض المسمى "ملوحة" وهو آنية مخصصة لقلي البر (القمح) البلدي فأخذتها ووضعتها على النار وحطت البُن فوقها وحركته بعود حتى تحمص وعادت وسحقته إلى أن أصبح ناعماً وجاءت تريد الماء ولم تجده وذهبت للأغنام وحلبت لبن في الجًبًنًة ووضعت عليه البُن وشربوا قهوتهم باللبن بدلاً من الماء, وبعد شرب القهوة انصرف الشاب وهو في حالة سيئة وعلم بأن هذا العمل هو من أجل ان يقتنع بأنهم لن يزوجوه ابنتهم وقد صرفوه بطريقة مؤدبة وبعد انصراف الشاب ذهبت البنت وجلست وبدأت تدندن وتقول في غنائها: قهوة عديني لمحبوب الكبد سويتها لاهي على الماء ولا في المحمس اقليتها ولا سمعني عرابي حين دقيتها
العم سليمان راداً على برطم عمرك ما حبيت
وسمع أبوها وأمها هذه الأبيات المعاتبة لهم بصورة غير مباشرة على العمل الذي قاموا به من إخفاء البُن والمقلا والهون ليعجزوها عن القيام بواجب الضيافة لحبيبها وأخيراً، قال الأب لزوجته: من كان عملها هذا فلن يعجزها شيء للوصول لما تريد ووافقوا على زواجها من الشاب. فقال له برطم: سهرتنا وتعبتنا على هذا الحب الطائش بين الرعيان وعندنا يحصل مثل هذا الكلام بين الرعيان ويحصل تفاهم وحب وزواج ودعونا ننام. قال العم سليمان: والله يا برطم ما عمرك حبيت في حياتك غير رعي الغنم والجمال ومعصرة الصليط (زيت السمسم) . تعجبت كيف يعرف العم سليمان كل هذه التفاصيل، وبهذه الدقة. ولكن أهم شيء أنه كان يمنحني المتعة والمعرفة معاً. لا بد أنه يعرف أشياء كثيرة، ويعرف الكثير من القرى والمدن، ولديه الكثير من العادات والقصص التي جمعها من أسفاره.
السماء واسعة لا نهاية لها والنجوم تزينها كاللآلئ المشرقة.. نظرت إلى وجه العم سليمان، كانت إشراقة وجهه واضحة وهو يتحدث على وهج النار، ولم أر أثراً للتعب عليه رغم أن النوم كان يداعب عيوننا جميعا. كنت أعرف أن رحلة طويلة مرهقة تنتظره وتنتظرنا فجر الغد.. وثمة تفاصيل كثيرة عن موضوع الزواج لم يحكها بعد.. والمشكلة أن الوقت يدركنا، وأمر النوم ومواصلة رحلتنا إلى الغد يشغل فكرنا، لذلك كان على العم سليمان أن يتوقف عن الحديث الممتع عند هذه النقطة وهكذا افترشنا الأرض، وذهبنا في سبات عميق.
هوامش
- صبغة من مواد نباتية كانت تحمي البشرة من الحر والبرد . 2- نسبة لوادي ومنطقة العدين في إب .