لا دولة الانتقالي ولا دولة الشرعية في عدن ! القسم السياسي ب(عدن الغد): سبعة عقود وعدنالمدينة تعاني من الصراع، وهي الفترة التي أعقبت الاستقلال الجنوب، ولم تكن عدن (المدينة) بطبيعتها تحمل خصائص الصراع وبذوره بقدر ما حملته النخب السياسية والعسكرية التي جعلت من المدينة هدفا للسيطرة وإثبات النفوذ. لكن.. ورغم الصراعات المتكررة، لم تكن الأمور تتفاقم بعيدا عن الدولة، ولم تكن تلك النخب السياسية والعسكرية تتنازل أو تتهرب من مسئولياتها الوطنية تجاه المواطنين، بل كان كل منهم يسعى لإثبات أنه كان أفضل من سابقيه، وأنه هو الأجدر بحكم المدينة وإدارتها، وأنه الأفضل من القيادة التي انتصرت عليها. وفي سبيل ذلك كان العمل على أشده لتثبيت جذور الدولة وهيبتها، وتوفير كل ما يحتاجه المواطنون، أمنياً ومعيشياً وخدمياً، بغض النظر عن أساليب الحكم وتفاصيل السيطرة على مفاصل الدولة. الأمور كانت تمضي في طريقها الطبيعي، في مختلف العهود والسلطات، ولم تغب الدولة أبداً إلا خلال فترات الصراع، التي سرعان ما تنتهي وتبدأ مرحلة الدولة من جديد. وبغض النظر عن طبيعة المتصارعين في عدن، ومن أجل عدن، وحتى بغض النظر عن طبيعة المنتصر، إلا أن تطبيع الحياة وترسيخ جهود الدولة يأخذ كل اهتمامات الطرف المنتصر، على العكس تماماً مما يحدث اليوم في المدينة. حدث ذلك عقب أحداث 22 يونيو 1969، وصراعات 1978، والأيام الدامية في يناير 1986، حتى عقب حرب اجتياح الجنوب في صيف 1994، كانت الصراعات تتلاشى وتعود الدولة مجدداً بكل هيبتها وخدماتها واستقرارها. ولن نكون مبالغين لو قلنا أن حرب 2015 شهدت هي الأخرى عودة سريعة للدولة إلى عدن، عقب تحرير المدينة من مليشيات الحوثي المسلحة. ومن الطبيعي أن يكون هدف أي نظام يتسلم مقاليد السيطرة والإدارة والمسئولية -إن لم نقل "الحكم"- أن يهتم باستشعار المواطنين بهيبة الدولة ووجودها، وأن يكون ذلك سريعاً وقبل أن تتفاقم الأوضاع نحو مزيدٍ من التدهور والتردي. دولة ما بعد 2015 كانت السلطات والأنظمة التي أعقبت أية صراعات في مدينة تتميز بأنها تنفرد بالحكم، ولا يوجد من ينازعها السيطرة على عدن، بعد التخلص من كافة الخصوم أو المكونات المهددة للاستقرار، وحدث ذلك في مختلف منعطفات الصراع التي عاشتها وشهدتها مدينة عدن. غير أن ما أعقب صراع 2015 كان مختلفاً عن سابقيه، حيث لم تستقر الأمور للدولة أو الحكومة اليمنية التي كانت مسيطرة على المدينة قبل هذه الحرب- رغم الحراك السياسي والمطلبي الذي كان على أشده حينها-. وعانت الحكومة الشرعية كثيرًا في سبيل استقرار الوضع، وتطبيع الحياة، مع وجود مكونات "مسلحة" نتجت عن الحرب التي شهدتها عدن، واستخدمت الأطراف ذات المطالب السياسية تلك المكونات المسلحة في تحقيق أهدافها ومنازعة سلطات الدولة. وربما لهذه الأسباب- وغيرها- لم تنجح دولة ما بعد 2015 كثيراً في إثبات وجودها وتثبيت هيبتها التي تفرقت بين الفصائل والمكونات المسلحة، ورغم هذا إلا أنها حاولت. وتمثل ذلك في محاولة عودة الحكومة والوزراء وحتى رئيس الجمهورية، إلى عدن، ومباشرة مهامهم، غير أن الظروف وربما الحسابات والمصالح كانت أكبر منهم. وظلت الدولة مشلولة، وهيبتها غير ملموسة، ليس فقط أمنياً وعسكرياً، بل حتى اقتصادياً ومعيشياً بعد توقف المحافظات المحررة عن توريد إيراداتها إلى مؤسسات الدولة المالية. ولا يمكن أن نلقي باللوم في هذا الجانب على المكونات التي نازعت الدولة مكانتها، فقط. بل أن الحكومة نفسها والدولة بكل مرافقها ومؤسساتها هي الأخرى كانت تعاني من الترهل والفساد الذي لم يكن خافياً على أحد، وبشهادات أعضاء فيها. وشكلت تجاوزات العديد من وزراء ومسئولي الدولة مادة دسمة لمناهضي دولة ما بعد 2015، كمنطلق لرفض تواجد هذه الدولة؛ بهدف إفساح المجال أمام منافسيها لتولي مقاليد الأمور في مدينة عدن. وربما يكون هذا المنطلق هو الأساس الذي تبنته الأطراف المناوئة للدولة للاستناد عليه في توجهها نحو التخلص من الدولة والحلول محلها. حدث مهم في 2017 اتجهت الأوضاع في عدن خلال فترة ما بعد 2015 نحو مزيدٍ من التصعيد، فلم تستقر الأمور للدولة، وعاشت مدينة عدن أسوأ مرحلة من تاريخها، وانتشرت الفوضى الأمنية والاغتيالات والجماعات المتطرفة في كل مكان. كما أن الأوضاع الاقتصادية لم تكن بأحسن حال، في ظل توقف المطار والميناء وتعثر الانتاج في مصفاة عدن، كلها فاقمت مشاكل الدولة، وقادت المكونات المناهضة للدولة بالتحرك نحو سحب البساط من تحتها. كان أولى خطوات سحب البساط من تحت الدولة والحكومة الشرعية تشكيل مكون سياسي ضخم يكون ندًا للدولة والحكومة. وشهد شهر مايو من عام 2017، حدثاً مهماً في عدن والجنوب برمته، حيث كان تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي؛ ليطالب بتخطي تجاوزات الدولة والحكومة الاقتصادية وفشلها الأمني، واستعادة دولة الجنوب. مبررات الانتقالي شكلت المبررات التي ساقها المجلس الانتقالي في مناوئته للدولة، ودعواته لاستعادة دولة ما قبل 1990، منطلقاً لحشد الجماهير حوله. فالاقتصاد متدهور، والحركة التجارية متوقفة، والفوضى الأمنية في كل مكان، ولا مكان للمشاريع التنموية الجديدة، والتصدير متعثر، وفشل للدولة والحكومة في كل مجالات الحياة. كما أن هناك مبررات كانت أقوى لإغراء الانتقالي لطرح رغبته في الحلول محل الدولة اليمنية الشرعية، وهي امتلاكه لقوات أمنية ومسلحة ومدعومة، وتحظى باهتمام وتدريب وتأهيل. وكانت تلك المبررات دافعاً للاستقواء على الدولة والمطالبة بتنحيها في عدن، وتسليم شئون المدينة وإدارتها للمكون الوليد. وساعدت تلك الرغبات تجسيداً لأحلام ملايين الجماهير التي رأت في الانتقالي ملاذاً متاحاً وبديلاً للدولة التي لم تحقق تطلعات ما بعد الحرب، على المستويات الأمنية والمعيشية. وهي الأحلام التي بنى عليها المجلس الانتقالي مسيرته وأهدافه في استقطاب الجماهير والتأثير عليهم؛ لتحقيق غايته في السيطرة على مقاليد الحكم في عدن، وحتى ما جاورها من محافظات. ويبدو أن المجلس الانتقالي قد أقنع الملايين بتوجهاته وسياسته، فقد بدا لكثيرين أكثر ترتيباً وتنظيماً عن غيره من التنظيمات الحراكية والجنوبية الأخرى. خاصةً وأنه يمتلك ما لا يمتلكه غيره من دعم ومساندة من أطرافٍ محلية وخارجية، بالإضافة إلى قوات مسلحة موالية قادرة على الوقوف إلى جانبه وتنفيذ توجيهاته وأوامره. جميع تلك المعطيات كانت بمثابة الدافع لتحرك الانتقالي نحو انتزاع حقوق الجنوبيين، بحسب أدبياته، وانتزاع السيطرة على مفاصل الأمور في عدن تحديداً. ولتحقيق هذه الغايات عملياً وميدانياً عمد الانتقالي إلى تنفيذ تطلعاته عبر انتقاد فساد الدولة وقصورها في تقديم الخدمات للمواطنين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استمر ليستخدم الانتقالي قواته المسلحة لمجابهة الدولة ومواجهتها عسكرياً في أكثر من مناسبة، بدءًا من يناير 2018، ووصولاً إلى أحداث أغسطس 2019. كان الفساد وغياب الدولة، وتعمدها في عقاب المواطنين خدمياً وأمنياً وكل المبررات التي سقناها أعلاه هي المبرر الرئيسي وراء نجاح المجلس الانتقالي في طرد الحكومة من عدن، والسيطرة على المدينة. ما بعد أغسطس 2019 استبشر كثير من مواطني عدن كثيراً بإمساك المجلس الانتقالي وقواته بزمام الأوضاع في المدينة، عقب المواجهات العنيفة قبيل وبعد عيد الأضحى الماضي. طُردت الدولة بكل قواتها سيطر الانتقالي بكل جبروته وإمكانياته العسكرية، على جميع مقدرات الدولة ومؤسساتها الرسمية ومرافقها العامة، وحتى معسكراتها، بالإضافة إلى المنافذ البحرية والجوية. ولهذا انتظر المواطنون أن تتغير الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتستقر الأمور في المدينة، بعد طول انتظار، في ظل غياب الدولة عن القيام بمسئوليتها. وما يدفع نحو هذه الرغبة هو غياب العامل الأول الذي كان يشكل عائقاً وعبئاً أمام المجلس الانتقالي لتنفيذ تطلعات الملايين من الجنوبيين وليس العدنيين فقط. وخرجت الكثير من القيادات السياسية للمجلس الانتقالي بالوعود وتبشير المواطنين بتغير الأوضاع نحو الأفضل خلال أيامٍ، وهو ما رفع سقف توقعات الجميع. حتى أن الموالين للحكومة اليمنية خرجوا يباركون توجهات الانتقالي في حالة تبنيه سياسة مغايرة لسياسة الحكومة، وتجاوز جميع أخطاء الحكومة الشرعية التي كانت مقصرة وبشهادة بعض أعضائها. صدمة حضارية يصف أحد الباحثين وضع المجلس الانتقالي الجنوبي بعد سيطرته على عدن وطرد الحكومة اليمنية، بأنه تعرض "لصدمة حضارية"، تماماً كتلك الصدمة التي يتعرض لها شخص قدم من بيئة معينة إلى بيئة مختلفة. هذه الصدمة التي يذكرها الباحث اليمني تكمن في عدم إدراك المجلس الانتقالي بكافة قياداته وأعضائه لحجم المسئولية التي ينتظر المواطنون أن يضطلع بها الانتقالي، باعتباره بديلا متاحا للدولة الغائبة. كانت المسئولية تفوق قدرات المجلس الانتقالي، وقدرات أعضائه، بحسب مراقبين، فالالتزامات عظيمة وجسيمة، والإمكانيات شحيحة بل ومعدومة. كما أن الصدمة الأخرى التي تلقاها الانتقالي حين سيطر على عدن كانت في تخلي داعميه عنه في لحظاتٍ هو في أمس الحاجة إليهم، وهو ما شكل عبئًا إضافياً على المجلس. وطيلة الشهور الماضية لم يحرّك المجلس الانتقالي ساكناً أمام المسئوليات الخدمية والأمنية والاقتصادية التي أجبر الحكومة في التنازل عنها والحلول محلها. ولم تمضِ سوى أيام قليلة حتى وجد المجلس الانتقالي نفسه مكبل اليدين أمام مطالب الجماهير، المدنيين منهم والعسكريين، بتوفير المرتبات المتوقفة والخدمات العامة المتعثرة، وغيرها من الالتزامات. غير أن الصدمة الكبرى تكمن في توجه المجلس الانتقالي نحو الحكومة الشرعية ليطالبها بتوفير الاحتياجات العامة ومتطلبات الحياة الأساسية، بل ويتهمها بتعمد عرقلة عمل المجلس الانتقالي في عدن. وهو الأمر الذي اعتبره المحللون بأنه "صادم للغاية"، فكيف للانتقالي أن يسعى إلى طرد الحكومة من عدن ثم يطالبها بالاستمرار في أداء مهامها؟!. نصف عام من اللا دولة! منذ أغسطس الماضي، ما زالت ذات المطالب التي يدعو الناس إلى توفيرها بعدن هي نفسها ولم تتغير، فلا كهرباء مستقرة، ولا خدمات مياه تصل المنازل بانتظام، ولا مرتبات تُصرف بانتظام. وحتى نكون منصفين، فإن ذات المطالب والاحتياجات نفسها لم تكن متوفرةً بشكل مطلق حين كانت الحكومة متواجدة في عدن، فالحكومة الشرعية هي أيضاً لم تستطع توفير كل ذلك. غير أن محللين يرون أن إقدام الانتقالي على خطوة التخلص من الدولة وطردها من عدن لم يكن محسوب العواقب، ولم يخطط قادته ليكون الانتقالي بديلاً طبيعياً للحكومة. وهذا السبب هو ما جعل عدن تعيش نصف عام تقريباً من اللا دولة، مع غياب الحكومة الشرعية وعجز الانتقالي عن الاضطلاع بمسئولياته الخدمية والأمنية حتى. وها نحن اليوم نشهد مدينة عدن خارج إطار الدولة، بسبب إجراءات لم تتم دراسة تداعياتها، ولا وضع خطة للإدارة وتسيير شئون المدينة. يأتي ذلك في حين تعيش بقية المحافظات اليمنية في نعيم الدولة، على العكس تماماً من عدن، فأينما يممنا وجهتنا سنرى حضوراً للدولة بكامل امكانياتها باستثناء عدن. فثمة دولة متماسكة في مأرب تابعة للحكومة الشرعية، وأخرى في شبوة تعمل على تنمية المحافظة في ظل وحدة الجيش والأجهزة الأمنية، وتلهج المهرة بحمد الشرعية واهتمام التحالف، وهناك استقرار وتنمية في حضرموت لا تخطئه أعين المراقبين. كل تلك المحافظات تعيش من سنوات في كنف الدولة، بينما تعاني عدن من غياب وقصور الخدمات كالكهرباء والمياه، وتوقف المرتبات وتعثر حصول المواطنين على مطالب واحتياجات الحياة الأساسية. وهو ما يؤكد- للأسف- أن المجلس الانتقالي عجز عن القيام بمسئولياته الخدمية، ولم ينجح في مواكبة عمل الحكومة، بل أنه ذهب ليطالبها بالتدخل وهو الذي تسبب بطردها من عدن. الأمر الذي دفع بأحد الإعلاميين في عدن لمطالبة الانتقالي إما بتشكيل حكومة لإدارة وتسيير شئون عدن والجنوب، أو التنحي وإتاحة المجال لعودة الحكومة وممارسة مهامها، التي وإن كانت قاصرة إلا أنها كانت توفر الحد الأدنى من الحياة للمواطنين. هل عرقلت الحكومة عمل الانتقالي؟ وحتى نعطي للمجلس الانتقالي حقه، فإنه دائماً ما يتحدث عن تعمدٍ حكومي في عرقلة عمله، وهو ما قد يكون واقعيا ومنطقيا نظرًا للعديد من المعطيات. فالحكومة أوقفت مرتبات العسكريين والأمنيين، وحتى مرتبات بعض المرافق المدنية عقب سيطرة الانتقالي على عدن مباشرةً، قبل أن تفرج عنها لاحقاً. من جهة أخرى فإنه ليس من مصلحة الحكومة الشرعية نجاح الانتقالي في سيطرته على عدن، ولهذا وجب عرقلة تطبيع الحياة؛ بهدف تحميل المجلس الانتقالي المسئولية، وتشويه صورته أمام الجماهير في عدن والجنوب برمته. ويؤكد مناصرو الانتقالي أن الأمر ليس ضرباً من الاتهام بقدر ما هو معتمد على تصريحات لعدد من ممثلي الحكومة ووزرائها، الذين دعوا للتضييق على الانتقالي حتى لا يحقق أي نجاح. ويستميت أصحاب هذا الرأي بالإشارة إلى سعي الحكومة الشرعية إلى إفشال عمل المجلس الانتقالي وإظهاره بمظهر العاجز عن إقامة مشروع دولته الجنوبية المنشودة. وهو سعيٌ استراتيجي تهدف من وراءه الحكومة إلى عقلة جهود الدولة التي يعمل الانتقالي على استعادتها، غير أنه يواجه تضييقا من الحكومة. وبصرف النظر عن صحة هذه الاتهامات الموجهة من الانتقالي للحكومة إلا أن الانتقالي قادر على تصويب الأوضاع في عدن، نحو الأفضل من خلال استثمار علاقاته الإقليمية، للضغط على الحكومة، أو للحصول على فرصته في إعلان دولته. خاصةً وأن المجلس الانتقالي يسيطر على الأرض، وأصبح سلطة الأمر الواقع في عدن وما جاورها، وهو ما يعطيه أحقية في التعامل والتعاون الخارجي معه. الحل لعودة الدولة يبدو أن أفق عودة الدولة غامض وضبابي، ويحتاج إلى أجواء صافية للكشف عن ملامحه القادمة، ويمكن لتلك الملامح أن تغدو واضحة في حالة تطبيق وتنفيذ اتفاق الرياض الذي وقعت عليه الحكومة والانتقالي منذ مطلع نوفمبر الماضي. وهو ما يراه مراقبون بأنه الحل الحقيقي لعودة الدولة بكل مكوناتها وانفتاحها على الآخر إلى عدن، وتوفير الخدمات العتمة، واحتياجات الناس البسطاء الذين ما زالوا يأملون بالدولة ويربطون أحلامهم وتطلعاتهم بتواجدها. كما أن على الفرقاء وضع هذا المواطن البسيط على رأس أهدافهن وأولوياتهم السياسية، والابتعاد عن المناكفات، وتقديم مزيد من التنازلات، والتوجه نحو تنفيذ اتفاق الرياض لإعادة الأوضاع إلى نصابها ووضعها الطبيعي.