ودعت الجماهير اليمنية في 7/2/ 2013م فنانها الكبير محمد مرشد ناجي وكان وداعه بحق خسارة كبيرة على كل الوطن من الناحيتين الانسانية والفنية، لانه غنى ولحن و امتع جمهوره لأكثر من ستة عقود متواصلة قضاها في محراب الفن الاصيل، قدم فيه فناً جميلاً ورائعا وأداءً متميزا بصوت عذب أصالة لاتضاهى جميعنا ودعناه - نحن محبيه - بقلوبٍ حزينة وعيونا دامعة وبحسرةٍ كبيرة لفقدان فنان بحجم "المرشدي". وبالعودة الى سيرته الاولى عندما ترعرع وتربى في احدى الضواحي القديمة في مدينة الشيخ عثمان بعدن، فالمرشدي" نشأ في اسرة فقيرة من اب عصامي عمل بجد وكد لتربيه ابنه الوحيد/محمد مرشد ناجي ليصبح متعلما قادرا على مواجهه شظف العيش الذي كان يحاصر معظم الاسر اليمنية في ذلكم الزمان واستطاع والده الفاضل/مرشد ناجي ان يربي فنانا (ابو علي) على قيم الفضيلة والخير والنزاهة والرحمة والتربية الدينية الاصيلة. ومن هذه النشئة العصامية والبيئة البسيطة..، لم يتصور اكثر الناس تفائلاً في تلك الحقبة ان يغدو اسم "المرشدي" ذالكم الفتى المكافح، علماً فنياً وثقافياً في عدن وفي اليمن وفي الجزيرة العربية كلها. لقد صنعت البيئة الصعبة، والقاسية، من المرشدي فنانا كبيراً مرهف الاحساس، وجزيل المشاعر والعطاء الفني الثقافي..، فقد تعلم من تلك البيئة الجدية والصرامة في اعماله الفنية وانضباطه الاداري، عندما كان موظفا حكوميا في السلطنة الفضلية في زنجبار (أي انه لم يعتمد في قوت يومه على فنه وإبداعه، بل اعتمد في معيشته على وظيفته لدى السلطنة الفضلية)، وكان الفن بالنسبة له رسالة فحسب ذات مضامين شعبيه وطنية وفنية ابداعيه سامية، ونتذكر اغنيته الشهيرة (انا الشعب زلزله عاتيه ستخمد نيرانهم صيحتي...) كان يرددها بصوته الجهوري الجذاب لحشد طاقات الجماهير اليمنية في مقاومة المستعمر البريطاني الغاصب. وفنانا المبدع بدأ اولى اغانيه الفنية بأغنية مشهورة (هي وقفة) لشاعر اليمن الكبير/محمد سعيد جراده اذ تقول الانشودة: (هي وقفة لي لست انسى ذكرها انا والحبيب في ليله رقصت من الاضواء في ثوب قشيب لما التقينا والجوانح لاتكف عن الوجيب فهززته وهو الرقيق كنسمة الفجر الرطيب وغمرته وهو الذي لنداء قلبي يستجيب بعواطفي المتكبرة ومشاعري المتفجرة وشرود وجداني الكئيب ) بهذه الانشودة الصاخبة، وبهذه الكلمات البليغة، استطاع الثنائي الجرادة والمرشدي اتقان سينفونية يمانية اصيلة اذهلت كل النقاد, والمهتمين وذوى الاذواق المرهفة من المعجبين والحالمين والعاشقين، وكلهم يتساءل؟ ويهمس كيف تجتمع الكلمات القوية بمفرداتها اللغوية العميقة واللحن الصعب الجميل، والأداء المتقن، في باكورة نتاجات الفنان المرشدي في اولى خطوة له في مسيرة الفن التي بدأها من (غوبة) مدينة الشيخ عثمان الى اعظم وارقى المسارح في الجزيرة العربية، في السعودية والكويت والبحرين ودبي وصنعاء والقاهرة...الخ. "..شيء مذهل بكل المقاييس". لقد سجل فنانا المرشدي الكثير من الاعمال الفنية بمدارسها التراثية اليمنية وألوانها المختلفة من كل ربوع اليمن السعيد، وفي كل مدرسة ولون كان مبدعا متميزا قدم عصارة فنه للملايين من محبي فنه الاصيل. وساهمت اذاعة عدن (تأسست في 1954م)، وتلفزيون عدن الذي تأسس في 1964م، دورا هاما في نشر اغانيه وإبداعاته، وكلنا نتذكر معاً قصيدة (لقاء) للشاعر الكبير/محمد سعيد جراده التي تقول في مطلعها: يا حبيب أي عيد أي سعد سوف تبقى هذه الليلة عندي عندنا وردا حكى رقة خد ومدام اشبهت فرحه وعد وفراشا ناعم المخمل وردي واحاديث صبابه وجد سوف احيا هذه الليلة وحدي وسيحياها رواة الشعر بعدي بهذه الكلمات المشحونة بالعواطف الجياشة والمترفة شعرا عذبا وحديثا ساحرا سطرها بإبداع شاعرنا الكبير الجراده، استطاع المرشدي ان يطوع هذه الكلمات وهذه الابيات الى لحن خالد ستتذوقه الاجيال لمئات قادمات من السنين، لأنه ببساطه كان مقدرة فنيه هائلة استلهمت كلمات الشاعر ووظفت بحرفية المبدع الملحن المرشدي لتنساب لحنا اصيلا عذبا في قلوب المعجبين. ان هذا النجاح الهائل والمكانة الرفيعة التي حظي بها لم تكن الدروب له سالكه، ومعبده بل العكس من ذلك فقد كان السفر ممنوع للجميع من المواطنين إلا بترخيص خاص من السلطة السياسية/الامنية آنذاك وقد سرى المنع من السفر لفنانا لأكثر من مره وحرم من المشاركة في العديد من المهرجانات الخارجية. والفنان كغيره من المبدعين لا يستطيع ان يعطي بسخاء في سجن مغلق وخلف ستار حديدي اسمها اليمن (الديمقراطية), ولكن فنانا بحث بكل الطرق والوسائل للخروج للمشاركة والسفر للخارج كي يحلق كالطيور المهاجرة في الفضاءات الواسعة وفي فضاء فن الحرية والإبداع وتارة نجح واخفق في الاخرى ومع ذلك استطاع ان يقدم فناً اصيلاً في كل رحلاته الخارجية كانت بمثابة رسالة اليمنيين الفنية للوطن العربي كاملاً. قد نستغرب ان هذا العطاء الجزيل والواسع والثري والناضج للمرشدي لم يشفع له ان يحصل على أي تكريم معنوي كبير من خلال منحه مثلاً (ميدالية او وسام) لقد حرم منها طيلة رحلته الفنية الممتدة من نهاية الخمسينات وحتى يوم مماته الحزين باستثناء ميداليتين مهمتين، منحت له من الرئيس السابق/علي عبدالله صالح جزاه الله خير الجزاء, (في عام 1982م منح وسام الفنون من الدرجة الاولى في الجمهورية العربية اليمنية سابقا وفي عام 1997م تم منحه وسام 30 نوفمبر)، "ألم يكن ذلك التصرف هو الجحود بعينه، هو شكل من اشكال التمييز البغيض ضد الابداع الحقيقي من قبل قيادة الدولة والحزب في الشطر الجنوبي آنذاك". ولكنه بالمقابل حصل على العديد من الميداليات والأوسمة من كل من السعودية والكويت ومصر والبحرين وعمان ومن المعهد العربي بباريس. لم ينحصر عطاء الفنان المرشدي في عالم الموسيقى والتلحين والغناء، بل تجاوز ابداعه الى التأليف للعديد من الابحاث والمقالات والكتب التراثية، اذ كتب المؤلفات الاتية: (اغنيات شعبية, اغنيات وحكايات, الغناء اليمني ومشاهيره, صفحات من الذكريات) بالإضافة الى عدد كبير من المقالات والأبحاث. تميز "المرشدي" بسعة ثقافته وثراء لغته وموهبته الخطابية والحوارية في الحوارت والمقابلات في وسائل الإعلام، حينما كان عضواً في (مجلس الشعب الاعلى) في اليمن الجنوبي "انذاك" وعضواً في مجلس النواب بعد توحيد شطري اليمن في 22 مايو عام 1990م. لقد حالفني الحظ ان ألتقي وأعايش الفنان المرشدي في العديد من اللقاءات والمحافل والمناسبات ولكن اجمل اللقاءات كانت في منزله العامر بحي المنصورةبعدن، حينما استضافنا المرشدي وأبنائه الكرام بمعية الشاعر الجميل الدكتور/سعيد الشيباني والشاعر المثقف/عبدالله باكدادة مدير مكتب الثقافه في عدن "وقتذاك"، وعدد من الزملاء كانوا في صحبتي اتذكر منهم الدكتور/علي احمد فضل السلامي والدكتور/محمد طه محمد شمسان والدكتور/علي ابوبكر حسين الزامكي و الدكتور/محمد علي مارم، والأخ/نصر مبارك باغريب والأخ/جمال عبدالمجيد الجوهري والأستاذ/محمد اسماعيل السروري والأستاذ/عبدالله محمد علي العديني (ابا ايمن) والأخ/وهيب عزيبان العقربي، والدكتور/مختار حسن بن لصفوح العولقي رحمة الله عليه, وزملاء كثيرون لا اتذكرهم عندما استقبلنا بمنزله مرتين في العام 2011م وفي العام 1012م، وتحدثنا طويلا وممتعا وشيقا في كل قضايا الوطن وهموم الفن ووجدناه مدرسة واسعة في كل موضوع تحدثنا فيه. ورغم تداعي سنوات العمر على كأهله، إلا انه كان حاضرا ومتقد الذهن والذاكرة يتحدث في كل تفاصيل اليمن الكبير وفي تراث وتاريخ العديد من الشعراء والفنانين الكبار، والذين عمل معهم في رحلته الفنية الطويلة وتعامل معهم ومنهم الشاعر الانيق الجميل/لطفي جعفر امان والشاعر/محمد سعيد جراده والشاعر الدكتور/سعيد الشيباني والشاعر الكبير/حسين ابوبكر المحضار والشاعر/احمد هادي سبيت، ومن الفنانين الكبار الفنان المرحوم/احمد بن احمد قاسم والفنان الكبير/محمد محسن عطروش وفنان العرب الكبير/ابو بكر سالم بلفقيه والفنان المرحوم/محمد صالح عزاني والفنان المرحوم/محمد سعد عبدالله والفنان المرحوم/محمد عبده زيدي والفنان الرائع الصديق/عصام خليدي..، اطال الله في اعمار ممن لا زالوا يمتعونا بفنهم الجميل في حياتنا. لقد استمتعنا واستفدنا كثيرا من التجارب و المعلومات الواسعة التي استمعنا اليها في لحظه صفاء وصدق لفنانا الكبير "المرشدي" واتفقنا في هذا اللقاءات على مواصلة العمل المشترك بين جامعه عدن وفنانا الكبير "أبو علي"، وطباعه كتابه حول المقامات والموسيقى اليمنية, علماً بان جامعه عدن قد كرمته في مناسبات عديدة في السنوات الاخيرة اعترافا وتقديرا لهذه القامه الفنية الثقافية اليمنية الكبيرة..، نسأل الله له الرحمة والمغفرة وان يسكنه فسيح جناته وان تكون الجنة مستقرا ومأوى له. ان جامعه عدن وأسرة الفقيد وأصدقائه ومحبيه نظموا يوم الأحد الماضي (19 مايو2013م) حفلا تأبينيا تخليدا وذكرى وعرفانا للفقيد "المرشدي"، بوصفه واحدا من اعظم الشخصيات الابداعية والثقافية الفنية التي تربعت على عرش الفن في اليمن في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، ولذا نحن فخورون وشديدو الاعتزاز بأننا عرفناه عن قرب وتعاملنا معه وتحدثنا اليه وجالسناه للحظة مهمة من الزمن، ومع هذه الشخصية الاستثنائية القامة..، والقمة..، والقيمة الإنسانية الكبيرة.