أضعفوا الدولة على نحو مستمر لصالح القبيلة حتى أصبحت الأخيرة أقوى منها سلطة ونفوذ وهيبة.. حتى السلطة التشريعية التي يُفترض أن تكون أحد مكونات الدولة وممثلة للشعب، رأيت القبيلة على صعيد الوعي والممارسة تتسرب من سقوفها وشقوقها وجنباتها بل وتتدفق أحيانا من أبوابها وشرفاتها وعلى نحو لم أكن أتوقعه، وبحد أحسست فيه بالزحام والاختناق وانقطاع النفس.. البرلمان هو السلطة التشريعية والرقابية الأولى في البلد، وأحد أهم مؤسسات الدولة المفترضة، غير أن ما وجدته وشاهدته يحكي بؤس الواقع وسوء الحال، بل وتفاجأت بمدى استحواذ القبيلة على وعي أكثر من الثلثين من النواب وبنحو لم أكن أتخيله.. اتضح لي مدى تأثير هذا الوعي على مخرجات المجلس الذي كان يفترض أن تصب قراراته لمصلحة الشعب وبناء الدولة، وبدلا من هذا وجدنا مخرجات له تصب لمصلحة عصبيات ما قبل الدولة، وأولها عصبيات القبيلة ومشايخها الكبار وممثليها في مواجهة الشعب وعلى التضاد مع مصلحته في بناء الدولة.. في عام 2004 اكتشفت أن مجلس النواب صيروه لمؤسسة قبلية أكثر من كونه مؤسسة دولة أو حتى في كونه مؤسسة تمثل الحد الأدنى من المصالح المفترضة للشعب.. وبدلا أن يصير المجلس أداة من أدوات تغيير الوعي والواقع كما كنت آمل ، وجدته أداة من أدوات تكريس هذا الواقع المتخلف، بل وداعما لعصبيات ما قبل الدولة، وبأكثر من وجه، وداعما يقف على الضد من مصلحة بناء الدولة أو إعادة بناءها.. وجدت هذا الأمر شديد الوضوح عندما رفض المجلس مناقشة مشروع قانون ينظم حيازة السلاح..!! كيف تجتمع رغبة وإرادة مئتين عضو بما يشبه الهبة الشعبية في المجلس عنوانها التصدي والرفض الصارخ ابتداء لمناقشة هذا المشروع..؟!! مائتين عضو يستنفرون قضهم وقضيضهم على نحو سريع وعاجل، ويوقُّعون مطالبة بإسقاط مشروع القانون من جدول أعمال المجلس..!! على الرغم من أنه مشروع متواضع جدا، وسقفه متدني جدا عمّا يجب و يفترض.. إنه مجرد تنظيم حيازة للسلاح لا أكثر، و مع ذلك كانت حتى الجدولة لمناقشته في قاعة المجلس محل تعذر واستحالة.. وكان سؤالي الذي بجوس داخلي: هل هذا المجلس يعبر عن تطلعات الشعب بالأمن والسكينة أم يعبر عن مصالح تجار الحروب، ومافيات بيع السلاح، وحماية حيازة كبار المشايخ للسلاح..؟! لماذا الحدّية في موقف ثلثي أعضاء المجلس الذين يرفضون حتى فكرة مناقشة المشروع في قاعة المجلس..؟! إنها فضيحة بكل المقاييس بحق هذا الشعب المنكوب بحكامه وممثليه، أو بمن يدعون إنهم يمثلونه ويعبرون عن احتياجاته وتطلعاته ومصالحه. كل يوم يتم افتتاح جلسات المجلس باسم الشعب، و لكن جل مخرجات هذا المجلس لا تعبر في جوهرها عن مصالح الشعب في بناء الدولة، ولا تمثل تطلعاته في تحقيق الرخاء والاستقرار والأمن والسكينة.. هذا ما تبدى لي في أول خطوة كان يفترض أن تتم في طريق بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية.. إبقاء مشروع قانون تنظيم حيازة السلاح رغم تواضع مطالبة، حبيسا لأدراج ومحابس مجلس النواب سنوات طوال من عمر هذا المجلس وتمديداته المتعددة، يكشف جوهر ومضمون وطبيعة هذا المجلس، ومعه أيضا جل القوى والأحزاب السياسية التي تصدّت واحبطت أهم القضايا والمتطلبات لبناء الدولة الحديثة.. إن مثل هذه المواقف وغيرها تكشف عورة أهم وأغلب القوى والأحزاب السياسية الممثلة بالبرلمان، وهي تقف على الضد من مصلحة الشعب، ومن قضية بناء الدولة اليمنية الحديثة.. إن كان مائتين عضو قد طالبوا بإسقاط مشروع قانون ينظم حيازة السلاح من جدول أعمال المجلس ابتداء، فعليك أن تتوقع أنه في حال التصويت عليه كان سيصوت ضده في قاعة البرلمان ثلاثة أرباع أعضاء المجلس إن لم يكن أكثر.. إنه الخلل التكويني لهذا المجلس والذي هو في الحقيقة كان من صنع تلك الأحزاب والقوى السياسية، التي لم ترتق بوعي الشعب كما كان يجب ويُفترض، ولم تكن بمستوى المسؤولية وهي تقدم مرشحيها للشعب لانتخابهم، وكان الجدير بها أن تقدم أفضل ما لديها، وأكثر من هذا غابت الإرادة السياسية العليا والصادقة لبناء الدولة أو إعادة بنائها *** (ب) الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب ورئيس حزب الاصلاح وشيخ الرئيس كما كان يتعارف عليه، ويردد في المجالس الخاصة، وهو أيضا المنتخب لرئاسة المجلس بتراضي وموافقة كتل الأحزاب، كان شخصيا أحد كبار المتصديين لمشروع قانون تنظيم حيازة السلاح وأكثر المتشددين في مواجهته، وعلى نحو قوي وصارم لا يعطي حتى هامشا للتعاطي معه أو مناقشته.. في إبريل 2004 أغلب غالبية الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الشعبي العام، وتقريبا كل نواب كتلة الإصلاح، ونواب آخرون من كتل أخرى، كانوا في قوام المائتين نائب الذين رفضوا مشروع القانون من حيث المبدأ، وطالبوا بإسقاطه من جدول أعمال المجلس.. لقد كان الاصطفاف واسع بين أعضاء المجلس الذين آثروا الانحياز إلى سلطة القبيلة ضد المدنية وضد تنظيم المجتمع بقانون في أمر كان من شأنه دعم الحدود الدنيا من استقراره والسير في الاتجاه الصحيح لبناء الدولة.. أما الأقلية التي وقفت آنذاك مع مشروع القانون وطالبت بعدم سحبه من جدول أعمال المجلس فكانت تتكون من كتلة أعضاء الحزب الاشتراكي، وأعضاء الحزب الوحدوي الناصري، وقليل من أعضاء كتلة المؤتمر، وكان المنتصر في هذه المعركة الغير متوازنة والتي لم تلج أو بالأحرى لم تصل إلى مرحلة مناقشة المشروع في قاعة المجلس، حيث تم حسمها ابتداء لصالح الأغلبية الغالبة والعريضة، أو الاصطفاف الواسع الذي تكون من ثلثي أعضاء المجلس أو أكثر، والذين سجلوا انتصارهم مبكرا بإسقاط القانون من جدول أعمال المجلس.. من النواب الذين طالبوا بإسقاط مشروع قانون تنظيم حيازة السلاح على سبيل المثال النائب فؤاد دحابه، والنائب علي عشال من حزب الإصلاح، والنائب عبده مهدي العدلة عضو اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام وبعيدا عنّا النائب المستقل الشيخ على عبد ربه القاضي الذي أعتبر مشروع القانون جاء نتيجة ضغوط خارجية وجب التصدي له.. باتت الأسلحة الخفيفة في التحكيم القبلي تقطع الطريق أمام القانون ونفاذه، وترتكب بها كثير من الجرائم في النزاعات القبلية المسلحة، وجرائم الثأر والإرهاب والاختطاف والاعتداء على الممتلكات، وفي هذا الصدد أوضح تقرير حكومي أن إجمالي عدد الجرائم التي استخدمت فيها الأسلحة النارية خلال الفترة من 2004- 2006 بلغ أكثر من 31,7 آلاف جريمة، قُتل وأصيب فيها نحو من 23,5 آلاف شخص، بينهم 4,8 آلاف قتيل. أظن هذا فقط ما أمكن حصره، وأغلب الظن أن هناك عدد غير قليل من الجرائم التي أرتكبت في هذا السياق لم يصل إلى علم سجلات الحصر.. وعندما أثير موضوع تنظيم حيازة السلاح مرة أخرى في عام 2007 أصدر مكتب الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر رئيس مجلس النواب تصريح قال فيه: "إن الهدف من المشروع الجديد هو تفجير خلافات بين الدولة وأبناء الشعب اليمني تحت ذريعة الحيازة وحصر ما لدى المواطنين في المدن والأرياف من أسلحة دون مراعاة للواقع اليمني وإدراك للحقائق". صارت اليمن غابة أسلحة خفيفة ومتوسطة تقدرها بعض المصادر بقرابة الستين مليون قطعة، فيما بعض المصادر تقدرها فقط بتسعة مليون قطعة، ثلاثة مليون منها هي ملك الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، فيما المالكين لها من خارجها يحوزون أكثر مما تمتلكه الدولة بضعفين وأكثر على أقل الأرقام تقديرا.. وذكرت دراسة نفذها مشروع "مسح الأسلحة الصغير" في المعهد العالي للدراسات الدولية بجنيف وجود مائة من كبار مشايخ القبائل في اليمن يتملّك كل واحد منهم مخزوناً من الأسلحة الصغيرة يصل إلى ألف قطعة سلاح تقريبا. وأضافت الدراسة أنه يتم استخدام هذه الأسلحة في الحروب القبلية التي تندلع مرارا في بعض المناطق. وتدخل معظم هذه الأسلحة إلى اليمن عن طريق التهريب. وبعضها مما تم جمعه واقتنائه أو تم تملكه عن طريق النهب والفيد والغنائم، خلال الحروب الداخلية التي شهدتها اليمن في العقود الماضية. وأشارت الدراسة إلى وجود العديد من أسواق السلاح في اليمن أشهرها "سوق جحانة" بالقرب من صنعاء و"سوق الطلح" في محافظة صعدة، والتي تباع فيها أنواع مختلفة من المسدسات، والرشاشات الآلية، والقنابل، والمتفجرات، والمدافع المضادة للطائرات، والقذائف المضادة للدروع، والصواريخ المحمولة، والألغام.. رفض مجلس النواب مشروع قانون تنظيم حيازة السلاح مرارا، وتم حبسه في أدراجه إلى اليوم، وتم ابقاء القانون النافذ الصادر في 1992م، وهو قانون لا يمنع من حيازة السلاح الشخصي, ولا ينظم حتّى تلك الحيازة، بل ويعتبرها حقا لمواطني الجمهورية اليمنية. *** (ج) قبائل تقتلنا وتقتل بعض.. برك من دم وولائم ثأر.. قتل باذخ.. سطو.. نهب.. ثيران تساق إلى ساحات الإعدام.. تجبر ضررا لم تأتيه ولم ترتكبه.. خطايا وأخطأ الغير.. كمد يعترش القلب المسكون بالألم الذابح.. حسرة موت ورثت مدينة كانت في الأمس هنا، واليوم باتت اطلالا ويبابا وخرائب.. ... يتوعدنا الموت.. يترصدنا النهب.. كل الأطراف تقتل فينا حينا، وتنهبنا أحيانا أخرى.. بتنا اليوم في حكم غنيمة صائل.. نتسربل بالدم.. نُنهب.. نتوعك.. نتلوّى بألم من نار.. نحن الشهداء القتلى.. نحن الضحايا والمنهوبين.. ... نُنخس ونُباع في سوق الحرب حراج ببلاش.. النار تشوينا وتأكلنا بشراهة، ولا تشبع.. وحياة بتنا نعيش معها الجور الفادح ووزر الحال.. الغلبة سلطة جور وحشية تسحقنا تحت حوافرها وتستمتع.. حياة باتت بطعم الملح.. شربنا البحر المالح، وهم شربوا دمنا نبيذا، وما ثملوا منها ولا سكروا.. ... حياة أشقاها وجود عابث.. وحقوق يتلهّى بها خطر أعبث.. العبث بات هو الحاكم في قصر السلطان.. بات قصر الحاكم مسكونا بالجور وبالطغيان.. كان الجور ربيبا فصار ربا للقصر وربا للسلطان.. ... ما عاد العز عزيزا.. ما عاد كديدا يجني كدا او شيئا ذو بال.. آل الكد بددا ووبال.. الامل بات حطاما.. وحقوقا كانت ثمرة عمر نضال.. بات يعايرها التكفير، وفيها يقضي إن كانت صالحة أم لا.. هل جاءت من دار الأجداد والأحساب والأنساب، أم جاءت من دار الكفر وبلاد الإفرنج؟! والجوع لديهم ما عاد بكافر.. وبقايا أحلام باتت في قبضة ريح صرصار يذروها في قفر أجرد.. وحرب نتلاشى فيها كالوهم، سراب بعد سراب.. ... بتنا غنائم حرب.. صرنا فرائس تأكلها ضباع يأكلها الجوع.. شعب بات ممنوعا من أن يفرح، أو حتى يأمل أو يحلم.. شعب منكوب مسلوب مقهور.. عقد الماضي وعاهات الزمن الغابر تحتشد وتثأر من رجل يلبس بنطال.. وحذاء مهترئ ورأس أثقله الهم.. كيف يُهجا وكيف يُلام..؟!! الجوع كافر والشعب يجوع.. الشعب بات مسحوقا، مهروس العظم.. ... يعايرني بسروال لا أملك غيره.. وأنا ما عايرت يوما قاتل بلباسه.. تعلمنا أن لا ننهب حين نجوع، بل نحفر بالصخر حتى نقتات أو نشرب من وجه الصخر.. تعلمنا أن لا نأخذ حقا للغير ولا نغتصب حقا رغما عن صاحبه، ولا نقتات حاجة محتاج.. تعلمنا أن لا نتجاوز نفرا في الطابور، ولا نقطع شجرة.. ولا نعتاش على نهب الناس.. لازلنا ننحت في الصخر بأظافرنا.. فيما الاحقاد العمياء لازالت تهاجمنا.. تنهبنا.. تستولي على ما بقي لنا من حق لازال يقاوم.. ... الفقر عري كامل.. الفقر غارق في الكفر.. وهو الأولى باللوم.. قطار الجوع يمر ثقيلا فوق بطون الفقراء.. بطون عجفاء.. خاوية تأكل بعضا.. تتضور جوعا.. بات الجوع يأكل نفسه.. جوع ومظالم وشتات.. أرواح نزفت واعمار أزفت وذوت حتى باتت كالخشب المحروق.. اطلال بعد رحيل.. ... بتنا نتصحر.. نقتات القيض.. نتكوم كالملح.. نلاحق سراب في هجير الصحراء.. الحال خراب ومقابر.. أثقلنا حق تم مصادرته بالسطوة والغلبة وطغيان القهر.. بات النهب جريئا والقتل أكثر جُرأة، ويتم تحت عين الشمس اللاهب، في رابعة نهار يدججه القتلة.. ... أصاب دولتنا التمزيق من الداخل.. اصابها الوهن القاتل.. هزال ومرض عضال.. خنقتنا أعراف ما قبل الدولة.. أناخ الكمد بكلكله فوق الأنفاس.. أقام فينا الحزن مقامه.. صار بعض منّا.. لا فرق يميزنا عنه.. والعدل بات بلا ايدي ولا سيقان.. من يحمله في هذا الزمن المعطوب بالجوع والبؤس؟!! القبيلة خانوق .. القبيلة خازوق.. ونحن رعايا في وطن منهوب.. يسحقنا العوز.. ونهار تلطخه دماء ضحايا الغلبة.. *** (د) تغنوا بالقبيلة و صيروها محاطب تأكلها الحروب الصغيرة والكبيرة.. محارق شرهة تشتعل ولا تخمد ولا تشبع، ويحصد مشايخ وسادة القوم أرصدة الدم مالا ومناصبا ومكاسبا، وحصاد النزيف الطويل والواقع المُر.. بات المثل "الحجر من القاع والدم من رأس القبيلي" حاضرا بقوة دون أن يقولون له هذا، ولكن واقع الحال خير ترجمان.. حروب مقدسة في حضرة الموت، يخسر فيها المواطن الوطن أو بالأحرى ما بقي له منه، ويمضي شباب بعمر الزهور إلى حتفهم، ويمضي الانتحار حتى النفس الأخير.. حروب تجهم وتتجهم مثل جهنم، وهي تقول "هل من مزيد؟!".. ويعلو صوت تلك المرأة التي تقول على لسان جبران: "كيف لا تكون الحرب مقدسة و قد مات ابني فيها". كيف للقبيلة أن تتحرر من وهمها المسقي بالدم والدموع، ولكم هي الصعوبة أن نخوض في المقدس، وأن يتحرر السذج كما قال فولتير من الاغلال التي يبجلونها.. لاسيما في واقعنا المر، وفي ظل غياب النخبة المحترمة التي بإمكانها أن تشعر وتحس وتفكر!! كم كان المثل اليمني صادقا وهو يقول: "القبيلي عدو نفسه" "القبيلة ما خلّت ابن ادم يتوب". ويتجذر السبب في انتشار الجهل، لأن من يملكونه كما يقول فرانك كلارك متحمسون جدا لنشره. *** غيبوا العقل واستعاضوا عنه بغباء يكسر الرؤوس والفؤوس والحجارة.. أكثروا من الوهم الذي يسوق الرجال إلى المهالك والمنايا والمقابر.. ترّهوا بما "لا يغني و لا يسمن من جوع" ولا يسد رمق ولا يروي عطش، بل أشعلوها حربا كارثية بكل المقاييس.. حرب باذخة بالموت والخراب والدمار والمجاعة والمآسي الكبار.. لكم أستعاد ذهني مقولة تلك المرأة التي تساءلت وهي تشاهد إحدى الحروب: بأي قدر لا يحبُّ البعض شعبه لكي يرسله إلى مثل هذه الحرب؟! إنها الحرب التي قال عنها آخر "لا أحدَ ينتصرُ في الحرب سوى الحربِ نفسِها، فهي التي تنتصرُ على الجميع." هذا ما نشاهده اليوم مليا بأم العين.. نتائجها مرعبة ونهاياتها مأساوية وكارثية.. ثمانية عشر ألف قتيل وخمسون ألف جريح في عام واحد فقط من طرف واحد من أطراف الحرب والصراع في محافظة واحدة بحسب تصريح سلطان العرادة محافظ مارب. وقطعا خسائر الطرف المهاجم لا يقل عن هذا الرقم، بل وفق قواعد الحرب المعتادة تكون خسائر المهاجم ضعف خسائر المدافع، ولك أن تتخيل كم ستكون الخسائر البشرية في كل محافظاتاليمن طيلة ست سنوات طوال لكل الأطراف غير الضحايا المدنيين، وغير المقدرات الأخرى التي يتم إحراقها في أتونها، وكم ستكون مترتبات هذه الحرب، وكم ستستمر أثارها وتبعاتها من العقود.. إنها كارثة مهولة دون شك.. ولكن "من يقرأ لعريج خطّها". "من قتل رجلا هو مجرما، ومن قتل الآلاف هو بطلا" بات هذا المثل في هذه الحرب شاخصا وماثلا للعيان.. بات للحرب أمراء و"أبطال" يقلبون مفاهيم البطولة، وفيما الإنسان الضحية بات هو من يدفع ثمن هذه الحرب ولازال ولا نعلم إلى متى سيظل يدفع ومتى تنتهي هذه الحرب التي أكلت كل جميل في نفوسنا!!.. *** استسهال القتل جعل من المجرمين الكبار أبطالا.. بات الشعب أشبه بالسندان الذي عليه أن يحتمل فيما أمراء الحرب ومن وراؤهم عليهم أن يضربوا بالمطرقة، بل الأحرى أن الشعب هو من صار بين مطرقة وسندان.. لماذا لا يضرب الشعب بيد من حديد أو يكون هو المطرقة بدلا من أن ينقلب واقع الحال.. الجميع باتوا يبصقون في البئر.. يصنعون الأصنام .. ورغم أن المثل يقول من يصنع الأصنام لا يعبدها ولكن لدينا الحال يختلف.. نحن من نصنع الأصنام ونعبدها في الليل والنهار، وأكثر من هذا نعبدها حية وميتة.. الإنسان بات بخسا للغاية، والقتل سهلا وباذخ.. العدالة مضروبة بين مطرقة وسندان وسائس.. مذبوحة على المآذن، ومصلوبة على المدائن.. جعلوا القبائل تقتتل وتحترب وتحمل ثأرها الف عام.. سيظل نزيفها والدم من رأسها وهم عليهم دعمها بالبنادق والمعابر وتزين المقابر.. نُفنى ونفني بعض حتى لا يبقى من بقايانا أثر.. وطن تلاشى بقاياه وبات "أثرا بعد عين".. صار ما بقي لنا من نظام وقانون ومواطنة شذر مذر.. جرّفوا الوعي وكرّسوا المزاعم وتحمسوا لكل جهل وبلغوا به أوجه.. ذهبت بقايا الدولة وحل محلها كل هذا الخراب والدمار الكبير.. ***