وحدهم الشباب من يخوض معركة المستقبل ، النخب البارزة المهيمنة على المشهد السياسي العربي للأسف هي نخب عتيقة محاربة في جبهة ماضوية ،الفارق شاسع وصادم ، فالشباب الثائر منافح في سبيل حلمه وحريته وكرامته بينما كهلة الثورة معركته ثأرية وغايتها الاساس اسقاط نظام واحلال نظام. ما نشاهده اليوم في مصر لم يكن هدفه فقط اسقاط حكم الرئيس مرسي وجماعة الاخوان ؛ إنما هدفه اسقاط نظام قديم ليس بمقدوره ان يكون نظاما فتيا وثوريا وعصريا متخلقا من روح الفكرة المثالية الواقعية الثورية المتجسدة بالشباب الثائر المتطلع الى غد اجمل وافضل مليون مرة من اليوم والامس.
طالما قلت بان آمال واحلام الشباب أكبر من تستوعب من كهلة شاخت افكارهم وعطبت عند تواريخ وحسابات ماضوية ، اذكر انني سطرت موضوعا وسمته " ثورة حديثة برأس قديم " وتزامن نشره مع صورة حديثة غير تلكم المألوفة لسنوات ، وقتها اتصل بي امين عام محافظة الضالع محمد العتابي مازحا : قلنا أين ذهب رأسك القديم وبعدها حدثنا كيف صارت الثورة جنبيه برأس قديم ؟.
من يظن ان المسألة مقتصرة على رئيس منتخب ويحظى بمشروعية مستمدة من قرابة 13مليون ناخب مصري وصناديق اقتراع شفافة ونزيهة ؛ فيتوجب عليه العودة الى ما قبل صعود نجم الاخوان او أفوله ، حتما سيجد ان الكثير من هذه الاصوات المناهضة الآن للرئيس مرسي في ميدان التحرير وسواه من ميادين مصر سبق لها منح ثقتها له في سباق الرئاسة .
كما وهي ذاتها التي اطاحت بسلفه مبارك وهي نفسها الرافضة لحكم جنرالات المجلس العسكري ، وهي ذاتها التي رفضت مبارحة ميدان التحرير حتى اعلان لجنة الانتخابات بفوز الرئيس مرسي وبعيد خطبته الشهيرة في حشود التحرير والتي حلف اليمين امامها وفي لحظات سريالية نادرة الحدوث .
من أكبر الاخطاء المقترفة الآن هي اختزال ثورة مصر الثانية وكأنها موجهة فقط ضد حكم الاخوان المسلمين ، او أنها مجرد معركة محتدمة بين ساحتين واحدة في رابعة العدوية والاخرى في التحرير ، أقلية متمسكة بشرعية رئيسها المنتخب الذي تم اقصائه ظلما وعدوانا ومن خلال انقلاب عسكري ، أو اكثرية مناهضة له ومؤيدة وداعمه لقادة مجلس الانقاذ مثل البرادعي وصبحي وموسى وسواهم من رموز المعارضة .
فمن انتخب الرئيس مرسي ليسوا فقط هؤلاء المرابطون في رابعة العدوية او النهضة ؟ فمثل هذا الكلام أعده طعنا وانتقاصا من شرعية يدعي بها انصار واتباع الرئيس المعزول ، ففي كل الاحوال الرئيس لم يكن رئيسا خاصة بجماعة الاخوان وحلفائهم من الحركات الاسلامية المحتشدة في رابعة العدوية او النهضة ؛وإنما الرئيس هنا يمثل ملايين من الشعب المصري وبمختلف اطيافه ومشاربه السياسية والثورية والدينية والمجتمعية .
تذكروا جيدا بان الشباب هم من اسقط مبارك وبن علي والقذافي وصالح ، وعاجلا أم اجلا سيسقطون بشار وسواه من الحكام الطغاة ، ولأن هذه الثورات نتاج حالة مزمنة من الاستئثار والفساد والتخلف والانغلاق والاستعباد والبطش والتضليل والامتهان والاحتقار ؛ فلقد كان لزاما لهذه الثورات ان يتصدرها الشباب باعتبارهم الفئة الاكبر حجما وضررا وحلما وتوقا للتغيير السياسي بكونه مفتاح شفرة لكل العملية المحبطة القاتلة لطاقتهم الهائلة المهدرة عبثا خارج سياقها الحضاري والانساني .
لذا اعتقد انه وما لم يؤخذ بحسبان الانظمة الجديدة بكونها تمثل في المقام الاول أكبر شريحة مجتمعية وثورية ؛ فأنها ستلقي مصير الرئيس مرسي الذي غفل حقيقة هذه الثورة أو ان الوقت لم يسعفه لتذكر هؤلاء الشباب الذين أتوا به من السجن الى القصر ، فالحال انه تذكرهم ؛ ولكن بعد ان صاروا يهتفون برحيله .
أنها ذات المأساة التي وقع فيها الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي حين خطب خطبته الاخيرة قائلا : لقد فهمتكم أيها الشباب ، الآن فهمتكم " اطلق وعده بتوظيف الثائرين الغاضبين ؛ولكن بعد فوات الاوان ، وبعد ان بات حكمه وقصره يردد صدى اصوات الجماهير المطالبة برحيله ، الرئيس مرسي اراد خطب ود الشباب الثائر ولكن بعد ان باتت رئاسته محاصرة بثورة عارمة لا ينفع معها الوعود ؛ بل الرحيل.
ليكن في علم الجميع أن ثورات الشباب لن تهمد بعيد مرسي او سواه من رؤساء العهد الانتقالي ، المسألة هنا لا تتعلق بشخوص واحزاب وتيارات اسلامية او علمانية ؛ إنما المسألة لها صلة بحقبة وعهد جديد متخلق من تضحية وقربان ملايين الشباب الثائر لأجل كرامته وحريته ومعيشته ووطنه الذي يحلم به ويجب أن يعيش فيه بسلام ووئام واعتزاز.
نعم ، فهذه الثورات اصلها ووقودها ومحركها طموحات وآمال اجيال متعاقبة من الشباب الثائر الباحث عن وطن آخر يعثر فيه على حياة لائقة بآدميته المنتهكة لقرون وعقود ، وطن يعيش في سبيله الانسان ومن اجل اعماره وتنميته وازدهاره ، وطن يزهو ويفخر به ابنائه وأين ذهبوا ؟ لا وطن فاقد المعنى ، اشبه بزنزانة كبيرة خانقة للأنفاس ، كاتمة للأحاسيس والمشاعر ، قاتلة للأفكار والافعال العظيمة والجميلة.
قلنا مرارا ، وحذرنا كثيرا من مغبة التعامل مع ثورات الشباب وكأنها مجرد مطية للوصول الى السلطة ، فهذه الثورات ستبقي مشتعلة على أقل تقدير لبضعة عقود قابلة ، لن تخمد وبمجرد انتخاب رئيس من تيار علماني او اسلامي ، كما ولن تهمد ولمجرد انتخابات برلمانية او رئاسية ، فإذا كان الرئيس مرسي وتنظيمه وحلفائه الاسلاميين اولى القرابين التي ينبغي عقرها بقسوة وغلظة الآن ؛ فمسلسل الاطاحة بالحكومات والرؤساء لن يتوقف على مدى السنوات القادمة .
فما من حاكم سيظل بمنأى عن العزل والسقوط بعد هذه الثورات ، انظروا كم هي الحشود المؤيدة للسيسي والبرادعي وصباحي وعدلي محمود ؟ وكم هي القنوات المغردة بسرب قوى الانقاذ والجيش ؟ ارجو ان لا تندهشوا غدا حين ترون ثورات وقنوات مطالبة بسقوط حكم العسكر وبزوال رموز الليبرالية واليسارية ! وما من علماني او اسلامي او حداثي سيبقي حاكما منزها محصنا بعيد هكذا ثورات ! .
إننا إزاء صراع اجيال مختلفة وتتقاطع كليا في افكارها واحلامها ووسائلها وحتى ثوراتها ، لننظر الى حركة تمرد اليوم وقبلها حركة 6إبريل ، فالحركتين اعدهما عنوانا لمن اراد معرفة وزن الشباب في الثورة على مبارك او مرسي ؟ من سيخلف الاثنين بكل تأكيد لن يكون من الشباب ؛ بل من كهلة الزمن القديم ، هذا التضاد ما بين رعيل موغل ذهنيا وفكريا في معركة ماضوية وبين اجيال ثائرة حالمة محاربة لأجل المستقبل الجميل والمشرف ، كفيل ببقاء وهج الثورات مشتعلا دون انطفأ ولو لسنون أتية .