كتب/ محمد عباس ناجي فرضت الضربة العسكرية المحتملة ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، على خلفية اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم الذي وقع بريف دمشق في 21 أغسطس الفائت؛ تداعيات مباشرة على الأرض قبل أن تحدث. ويبدو أن ذلك كان المغزى الأساسي من التهديدات المتكررة بشنها. إذ يمكن تفسير قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالعودة إلى الكونجرس من أجل منحه تفويضًا بشن الضربة ضد النظام السوري، والذي بدا مفاجئًا لكثير من المراقبين، بأن الهدف الأساسي منها كان إنتاج مفاعيل سياسية على الأرض، في سوريا والمنطقة، قبل أن تحدث الضربة نفسها، بشكل يمكن أن يحول دون الإقدام عليها في النهاية، ويعفي واشنطن من تحمل تبعاتها. وبالطبع، فإن تأكيد إدارة أوباما على أنه لم يتخلَّ عن حقه في التحرك أحاديًّا في حالة رفض الكونجرس للضربة، يؤكد أن الهدف من هذا القرار لم يكن التفويض، وإنما إتاحة الفرصة لبدائل أخرى غير استخدام "صواريخ كروز"، ربما تكون أكثر إيجابية في النتائج، وأقل ضررًا في التداعيات. وبالفعل، فقد أنتجت الضربة التي لم تحدث، تأثيرات مباشرة على الأرض، وأهمها موافقة سوريا على المبادرة التي طرحتها روسيا بخصوص إخضاع منشآتها الكيماوية للرقابة الدولية، تمهيدًا للتخلص منها، وانضمامها لمنظمة الأسلحة الكيماوية. ورغم أن الرئيس السوري بشار الأسد قال إن هذا القرار جاء استجابة للسياسة الروسية؛ فإن ذلك لا ينفي أن دمشق أرادت من خلال ذلك الحيلولة دون تعرضها للضربة العسكرية، خصوصًا أن القرار اتخذ بالتزامن مع عودة الكونجرس من الإجازة الصيفية، وبدء مناقشات طلب أوباما بخصوص الضربة (التي تم تأجيلها فيما بعد بناء على طلب أوباما)، ما يشير إلى أن موسكوودمشق سعتا إلى دعم الطرف المعارض للضربة في الكونجرس، وبالتالي حرمان أوباما من التفويض الذي سعى إليه، وحشد من أجله عددًا كبيرًا من المسئولين السابقين والحاليين. واللافت في هذا السياق، هو أن مسارعة روسيا إلى طرح هذه المبادرة التي لاقت استجابة سورية وترحيبًا إيرانيًّا، يفيد بأن الأطراف الثلاثة تدرك أنه رغم الصعوبات التي باتت تواجه قدرة واشنطن على توسيع هامش الخيارات المتاح أمامها لتعزيز نفوذها في المنطقة والعالم، وعلى رأسها الخيار العسكري؛ فإن إقدام واشنطن على توجيه الضربة بالفعل كان يمكن أن يلحق خسائر ليست قليلة للنظام السوري تحديدًا ربما تتجاوز الأهداف "المحدودة" للضربة التي تحدث عنها المسئولون الأمريكيون، بشكل كان سيساعد قوى المعارضة المسلحة -التي أعلنت أنها بدأت تحصل على أسلحة أمريكية "فتاكة"- على تحقيق تقدم ملموس على الأرض باتجاه العاصمة دمشق تحديدًا، وبالتالي إجهاض كل المساعي التي بذلها الأطراف الثلاثة منذ اندلاع الثورة في مارس 2011 للمحافظة على بقاء النظام السوري والشريحة "الضيقة" من الجيش التي ما زالت موالية للنظام، والأسلحة الاستراتيجية التي يمتلكها. سلاح ذو حدين من هنا فإن إفساح المجال أمام المبادرة الروسية ربما يؤدي إلى منح دفعة لفكرة "الحل السياسي" للأزمة، على أساس أن تقارب وجهات النظر بين مختلف القوى المعنية بالأزمة، ربما يؤدي إلى حدوث توافق على ضرورة عقد مؤتمر "جنيف 2" بين النظام السوري والمعارضة، للتوصل إلى تسوية سياسية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الروسي سيرجي لافروف خلال الاجتماعات التي عقداها في جنيف، لمناقشة سبل تفعيل المبادرة، في 12 و13 سبتمبر الحالي. لكن ذلك يبقى مجرد احتمال غير مضمون حدوثه، لا سيما أن النظام السوري وحلفاءه وضعوا شروطًا لتنفيذ المبادرة، ففضلا عن مطالبة الرئيس السوري بشار الأسد واشنطن بالتوقف عن دعم "الإرهابيين" وإعلانه أن دمشق سوف تسلم المعلومات الخاصة بالأسلحة الكيماوية بعد شهر من انضمامها لمنظمة الأسلحة الكيماوية؛ فإن روسيا وضعت جدولا زمنيًّا لتنفيذ المبادرة يشمل أربع مراحل هي: انضمام سوريا للمعاهدة، وتسليم المعلومات الخاصة بأماكن تخزينها وإنتاجها، والسماح لمفتشي المنظمة بالتحقق من ذلك، ودراسة كيفية التخلص منها، وهو ما لاقى رفضًا من جانب الغرب، انعكس في مسودة مشروع القرار التي عرضتها فرنسا على بعض أعضاء مجلس الأمن، والتي تطالب النظام السوري بتسليم الأسلحة خلال 15 يومًا، وإلا تم اتخاذ إجراءات ضده بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ما قوبل بدوره برفض من جانب روسيا، خصوصًا أن الموافقة على المسودة بهذا الشكل يفتح الباب أمام التدخل العسكري في سوريا. كما أن الأسد وحلفاءه ربما يتجهون، بعد "تحييد الكيماوي"، إلى محاولة تحقيق مكاسب على الأرض، وتعزيز موقع النظام، فضلا عن أن القوى الداعمة للمعارضة والمستاءة من تأجيل الضربة وتفعيل الخيار الدبلوماسي، خصوصًا تركيا وقطر، سوف تتجه إلى تكثيف دعمها للمعارضة السورية لتحقيق الهدف ذاته، وربما تتجنب الضغط على هذه القوى من أجل الذهاب إلى مائدة المفاوضات المحتملة مع النظام دون شروطها المسبقة، والخاصة بتنحي الأسد، ردًّا على تأجيل واشنطن الخيار العسكري. ويبدو ذلك جليًّا في الموقف "الفاتر" الذي تبنته تركيا إزاء المبادرة الروسية، حيث قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه "يشك في أن يلتزم الرئيس السوري بشار الأسد بتعهده بوضع الأسلحة الكيماوية السورية تحت السيطرة الدولية"، وأضاف: "إنه يحاول كسب الوقت لتنفيذ مذابح جديدة". إسرائيل: رابح وخاسر لكن تنازل دمشق عن الأسلحة الكيماوية، الذي يبدو أنه لن يكون مهمة سهلة، خصوصًا بعد التراشق الذي أثارته مطالبة الأسد بمنحه مهلة شهر للقيام بذلك، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى اتهام الأسد بالمماطلة، فالسعي إلى كسب الوقت لن يكون بلا ثمن؛ وهذا معناه تكريس الخلل في توازن القوى مع إسرائيل، التي تبدو الرابح الأكبر من "صفقة الكيماوي"، لا سيما في ظل مخاوفها من احتمال قيام الأسد بنقل جزء من هذه الأسلحة إلى الميليشيات المسلحة، وعلى رأسها "حزب الله" اللبناني رغم أن هذه المخاوف كان مبالغًا فيها. لكن عزوف واشنطن عن توجيه الضربة، وإفساح المجال للحل الدبلوماسي؛ عزز مخاوف تل أبيب من أن ذلك سوف يوجه "رسائل خاطئة" لخصومها، وعلى رأسهم إيران التي يمكن أن تعتبر ذلك مسوغًا لمواصلة برنامجها النووي. والأهم من ذلك هو أن هذا التطور الجديد ربما يدفع إسرائيل إلى التفكير في تبني الخيار العسكري ضد إيران بشكل منفرد، رغم أن ذلك يواجه صعوبات عديدة، وهو ما يبدو جليًّا في التصريحات اللافتة التي جاءت على لسان رئيس الوزراء بينامين نتنياهو التي قال فيها: "إن لم أكن لنفسي، فمن لي. إن لم نكن لأنفسنا، فلا أحد لنا"، وهي التصريحات التي أعقبت مطالبة أوباما للكونجرس بتأجيل التصويت على التفويض لإعطاء فرصة للخيار الدبلوماسي الذي طرحته المبادرة الروسية. حلفاء الأسد: قراءة دقيقة تبدو تطورات المشهد السوري محط قراءة دقيقة من جانب حلفاء الأسد؛ إذ حاولت إيران بشكل حثيث تجنب خيار الضربة، ولذا سارعت إلى تأييد المبادرة الروسية، خصوصًا أنها تعتبر أن الحفاظ على بقاء نظام الأسد في الوقت الحالي وتفويت الفرصة على استخدام الخيار العسكري هو "انتصار غير ثانوي".لكن ذلك ليس نهاية المطاف؛ إذ إن المفاعيل السياسية للضربة باتت تخضع لدراسة من جانب طهران، خصوصًا في ظل حرصها على الربط بين تطورات الأزمة السورية وملفها النووي، الذي يبدو أنه مقبل على مرحلة جديدة مع تولي الرئيس الجديد حسن روحاني منصب الرئاسة، وحدوث تغيير ملحوظ في السياسة الإيرانية تجاه هذا الملف تحديدًا. ورغم أن طهران تبدو مطمئنة للصعوبات التي باتت تواجه واشنطن فيما يتعلق باستخدام الخيار العسكري؛ فإنها تدرك أن ذلك لا يعني أن الطريق باتت ممهدة أمامها، لمواصلة سياستها المتشددة في الملف النووي، خصوصًا أنها تتابع بشكل جيد ردود فعل إسرائيل التي باتت قلقة جدًّا من "التودد المتبادل" بين واشنطنوطهران بعد وصول روحاني إلى الرئاسة، فضلا عن تراجع واشنطن عن استخدام القوة في سوريا، بشكل سوف يدفعها جيدًا إلى محاولة قطع الطريق على أي تقارب محتمل في المواقف بين واشنطنوطهران خلال المرحلة المقبلة. أما روسيا، فقد حققت مكاسب عديدة من الأزمة الحالية، ففضلا عن أنها جنبت الأسد حتى الآن ضربة عسكرية غير محمودة العواقب؛ فإنها أثبتت أنها "مفتاح الحل" في الأزمة، وأكدت أيضًا أنها تحولت إلى رقم مهم لا يمكن تجاهله على الساحة الدولية، بدليل مسارعة واشنطن إلى تلقف مبادرتها الخاصة بالأسلحة الكيماوية السورية، على عكس ما حدث مثلا خلال حرب العراق؛ حيث لم يمنع رفض روسيا إقدام واشنطن على شن الحرب. كما أن أي مسار محتمل لهذه الأزمة لن يترجم إلى واقع دون أن يمر عبر بوابة موسكو. وربما يكون ذلك هو ما دفع بعض الاتجاهات إلى التكهن بأن الدور الروسي على الساحة الدولية سوف يكون مختلفًا بشكل كبير عما كان عليه قبل الأزمة الحالية. احتمالات غير مضمونة لكن ذلك أيضًا ليس نهاية المطاف. فالأمر، للمفارقة، لا يخلو من مكاسب محتملة لواشنطن. إذ لا يمكن تجاهل أنه حتى مع حالة الضعف التي باتت تواجهها الأخيرة والتي بدت جلية في الأزمة الحالية؛ فإن مجرد إقدامها على التهديد بتوجيه ضربة عسكرية "محدودة" أنتج مفاعيل سياسية ليست هامشية، ودفع خصومها إلى المسارعة لطرح بدائل سياسية لتجنبها، بشكل سوف تضعه واشنطن حتمًا في اعتبارها في تعاملها مع تطورات المنطقة، وتفاعلها مع خصومها خلال المرحلة المقبلة، بما فيهم إيران، التي لا تبدو في وارد الدخول في مواجهة مباشرة مع الولاياتالمتحدة، في الوقت الحالي. وفي كل الأحوال؛ فإن هذه السيناريوهات في مجملها ما زالت على المحك. إذ لا تبدو نتائج الخيار الدبلوماسي مضمونة، بشكل يمكن أن يعيد الزخم مرة أخرى إلى الأداة العسكرية، خصوصًا مع تعمد إدارة أوباما الإبقاء على حاملات الطائرات بالقرب من السواحل السورية ريثما تتضح مدى فعالية المبادرة الروسية، وحدود استجابة نظام بشار الأسد لها.