تغير في الموقف الدولي من جماعة الحوثي.. وزير الخارجية يتحدث عن تغيير الموازين على الأرض قريبًا    بدون تقطيع.. بث مباشر مشاهدة مباراة الاتحاد والأهلي اليوم في دوري روشن    المبدأ أولاً ثم النجاح والإنجاز    وزير الإعلام يكرم الفائزين بمسابقة أجمل صورة للعلم اليمني للعام 1446 فمن هم الفائزون؟    مليشيا الحوثي تقتحم مستشفى الجبلي للعيون في مدينة إب وتنهب محتوياته    قوانين الأرض ومعجزات السماء    الله تعالى لم يبعث رسوله محمد غازياً بل بعثه مبلغاً وشاهداً ومبشراً ونذيرا وسراجاً منيرا    تناوله باستمرار.. نوع من الخضروات يخفض نسبة السكر في الدم إلى النصف    بدون تقطيع.. بث مباشر مباراة السد والريان بجودة عالية اليوم في الدوري القطري    استشهاد 57 فلسطينيًّا في القصف الإسرائيلي اليوم على قطاع غزة    وفاة 11 شخصاً وإصابة آخرين بحادث مروع في المهرة    البكري يتفقد سير العمل في ملاعب "الميناء، والروضة، والجزيرة" بعدن    مبادرة "انسجام عالمي".. السعودية تحتفي بالتراث اليمني لتعزيز التعايش والتفاهم الثقافي المشترك ضمن رؤية 2030    الرئيس العليمي يبحث مع السفير الأمريكي تعزيز التعاون ودعم الاستقرار وسط تداعيات الهجمات الحوثية    بث مباشر تويتر مشاهدة مباراة الشباب والوحدة اليوم بدون تقطيع في دوري روشن    نجاح مبهر لجولة كرة السلة العالمية FIBA 3x3 في أبوظبي    اليمن يطالب بفرض إجراءات رادعة ضد الاحتلال تضمن توفير الحماية للشعب الفلسطيني    5 قتلى في المطلة جراء سقوط صاروخ أطلق من لبنان    نهاية القلق الغامض!    ريال مدريد يضع رودري على طاولة مفاوضاته في الموسم المقبل    العرادة يوجه بتنفيذ وسائل حماية المواقع الأثرية ويدعو لتضافر الجهود للحفاظ على الآثار    لماذا تجري أمريكا انتخاباتها يوم الثلاثاء؟    وفاة عامل في حفرة للصرف الصحي جوار البنك المركزي بعدن    شجاعة السنوار بين فلسفتين    إغلاق ثمان مدارس يمنية في مصر.. ومناشدات بتدخل عاجل    ما لا تعرفه عن الفنان المصري الراحل ''حسن يوسف'' ومشاركته في ''ثورة اليمن''    هجوم حوثي مباغت على مواقع عسكرية جنوب غربي اليمن.. وخسائر بشرية ومادية    ما الحكمة من دعوة النبي للطهارة مرة كل سبعة أيام؟    الدكتور عبدالله العليمي وبن مبارك يقدمان واجب العزاء للاستاذ عبدالحكيم القباطي بوفاة والدته    مضرابة المرق    فساد الشرعية أصبح يمارس بكل وقاحة وقبح أمام الكل    المسلمون الحقيقيون لا يمكن أن يُهزموا أبدا إلا هزيمة عابرة    نصيحة يافعية لأبناء يافع السلفيين    قصف جوي أمريكي بريطاني على محافظة الحديدة    تباين حاد في أسعار المشتقات النفطية بين المحافظات اليمنية.. صنعاء الأعلى، ومأرب الأقل    خطوة نحو تحسين صورة شرطة المرور الحوثي.. قرار بمنع صعود رجالها على السيارات    شرطة عدن تضبط متهمًا برمي قنبلة صوتية في الممدارة    الانتقالي يحذر من كارثة اقتصادية.. اجتماع طارئ لبحث أزمة عدن    أحزاب تعز تطالب الرئاسة والحكومة بتحمل مسؤوليتهما في انقاذ الاقتصاد الوطني    خدعة الكنز تودي بحياة 13 شخصاً.. حوثي يرتكب مجزرة مروعة في بني حشيش(تفاصيل جديدة)    الحوثي يستغل الشعارات الأخلاقية لابتزاز المجتمع.. صحفي يكشف عن علاقة "مصلحية مؤقتة" مع أمريكا    مشروب القرفة المطحونة مع الماء المغلي على الريق.. كنز رباني يجهله الكثيرون    (أميَّة محمد في القرآن)    عبد القادر رئيسا للاتحاد العربي للدارتس ... والمنتصر عضواً في المكتب التنفيذي    هل يرحل كريستيانو رونالدو عن النصر السعودي؟    قضية الشيكات المختفية.. من يضع يده على الحقيقة ومن يهرب بها في سيارة رسمية؟    وفاة 11 شخصًا في حادث مروري مروع بالمهرة    سُنن نبوية قبل النوم: طريقك إلى نوم هانئ وقلب مطمئن    قيادي في الانتقالي يتهم المعبقي ونائبه بانهيار العملة    الهلال الإماراتي يواصل دعم القطاع الصحي بحضرموت    تعز.. 44 جريحاً يتوجهون للعلاج في مصر    -    وفاة فتاة عشرينية عقب حقن جسمها بمادة غريبة في عيادة بصنعاء    عودة تفشي الكوليرا في تعز والسلطة المحلية تشكل فرقا ميدانية لمواجهة الوباء    تنويعات في أساطير الآخرين    البنك المركزي يبيع 18.4 مليون دولار في مزاد علني بسعر 2007 ريالا للدولار    سلفية اليمن يزرعون الفتنة بالجنوب.. إيقاف بناء مركز في يافع (وثيقة)    الأوقاف تعلن فتح باب التسجيل للراغبين في أداء فريضة الحج للموسم القادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القوميون وبناء الأمة
نشر في عدن الغد يوم 28 - 12 - 2013

(الهويّة" رهان اجتماعي حول التسمية والتصنيف والتعريف، أما صراع الهويّات فيستهدف إعادة إنتاج علاقات الهيمنة أو قلبها؛ حيث يتم بناء الهوية من خلال استراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين) بيير بورديو
يتساءل عالم الاجتماع السياسي جاك باغنارعن السبب الذي يقود جماعة ما كي تحتشد في لحظةٍ محددةٍ من تاريخها لإثبات ذاتها وتأكيد هويتها المتفردة: فهل نستطيع أن نُماثل امتداداً طبيعياً يقود جماعة مُشكّلة لتعميق اندماجها والتحامها مُحركةً أصالتها المحددة بتبرير مطلب الاعتراف النوعي بها ؟.. فالدول الأوروبية التي قامت نتيجة انسلاخ الإمبراطورية الرومانية المقدسة كان الوعي موجوداً، في أساس قيامها، وبصورة أقل أو أكثر غموضاً لهوية جماعية نوعية، وبما فيه الكفاية لاسترداد سيادتها وحكمها الذاتي، وهو ذات الوعي الذي دعا دولاً كثيرة إلى تأكيد وجودها وفرادتها ولو عن طريق حروب تُسمى في العادة حروب تحرير وطنيةٍ.
خلافاً لذلك، ذهب إيرنست غلنر في دراسته المرجعية الهامة عن القومية، فالقومية، من وجهة نظره، ليست صحوة الأمم إلى الوعي الذاتي، بل هي اختراع الأمم حيث لم تكن موجودة. إن القومية مبدأ سياسي، والذي يقول أن على الوحدتين السياسية والقومية أن تتواءمان.
فالهوية الوطنية أو الانتماء إلى الأمة نتاجات ثقافية من نوعٍ محددٍ. ولكي نفهمها كما ينبغي، نحتاج أن نمعن النظر في كيفية بروزها إلى حيّز الوجود التاريخي، وكيفية تغيّر معانيها بمرور الزمن، وما يجعلها تحوز اليوم ما تحوزه من شرعية وجدانية عميقة.
تبدو الأمة، بمعنى الشعب المتصور من قِبل القوميين، كنتاجٍ للإيديولوجيا القومية، وليس العكس. فهي توجد من لحظة أن يُقرِّر فيها عدد لا يزيد على أصابع اليد من الناس المؤثرين أنها ينبغي أن تكون كذلك، وتبدأ، في معظم الحالات بوصفها ظواهر نخبوية متحضرة, من أجل أن تكون أداة سياسية فعالة. وباختصار، فالقومية تُمكِّن الناس من الحديث حول ثقافتهم وهويتهم كما لو كانت دائمة وثابتة، وبعبارة ريتشارد هاندلز الدقيقة، فإن الخطابات القومية هي "محاولات لبناء موضوعات ثقافية مُلزِمة".
فالإيديولوجيون القوميون يلجئون إلى قاعدة ذرائعية بحتة، فيختارون،، دائماً ويعيدون تفسير جوانب للثقافة والتاريخ تنسجم مع شرعنة سلطة معينة،وكذلك يفعلون بالاستخدامات المخترعة للتاريخ والتي تخلق انطباعاً بالاستمرارية، بما يمكّنهم من خلق الولاء والشعور اللازم بالانتماء.
ولعل نموذج القومية النرويجية كما رصدها توماس أريكسن هو نموذج بارز للاستخدام السياسي للرموز الثقافية، وموارد الهوية، وكذلك لفكرة اختراع الأمة. فحتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت اللغة النرويجية الرئيسية المكتوبة هي الدنماركية، قد استبدلت جزئياً بلغة أدب جديدة، اسمها النينورسك أو "النرويجية الجديدة".
وبصورة رئيسية، استمدت القومية النرويجية المبكرة دعمها من الطبقات الحضرية الوسطى. ارتحل أعضاء بورجوازية المدينة إلى الوديان البعيدة بحثاً عن "الثقافة النرويجية الأصيلة"، وجلبوا عناصر منها عند العودة إلى المدينة وعرضوها كتعبير أصيل للنرويجية, الأزياء الشعبية، رسومات الأزهار الملونة (أكاليل الجبل)، الموسيقى التقليدية، الطعام الريفي، أصبحت رموز قومية حتى بالنسبة إلى الذين لم يترعرعوا مع عادات كهذه. في الواقع، كان سكان المدن، وليس الفلاحين، هم من قرر أن تمثل الجوانب المجسدة للثقافة الفلاحية "الثقافة القومية". تم تأسيس تاريخ قومي بطولي، ابتكار "الفنون القومية"، والتي كانت علامات للتفرد والتطور، كانت كذلك جزءاً مهماً من المشروع القومي في النرويج كما في أي مكان آخر. كان المؤلف الموسيقي إدفار غريغ أحد التمثلات النموذجية للمشروع الذي دمج الألحان الشعبية في موسيقاه، والكاتب بيورنستيرون بيورنسون، الذي قرئت حكاياته عن الفلاحين على نطاقٍ واسعٍ.إذن أعيد تفسير جوانب معينة لثقافة الفلاحين ووضعت في سياق حضري سياسي كدليل على أن الثقافة النرويجية كانت مميزة، وأن النرويجيين كانوا أناساً يقفون على حد سواء مع الشعوب الأوروبية الأخرى، لذلك يستوجب أن تكون لهم دولتهم الخاصة بهم, هذه الرموز كانت فعالة لإقامة حدود قومية بينهم وبين من يشبههم ثقافياً كالسويديين والدنماركيين، وشددت في الوقت نفسه على أن النرويجيين الحضريين والريفيين يعودون إلى الثقافة نفسها ويشتركون في مصالح سياسية, مع أن النرويجيين الحضريين في أوسلو لديهم الكثير من المشتركات مع السويديين والدنماركيين الحضريين مما لديهم مع النرويجيين الريفيين، كما يشير إريكسن.
ومع إن ما يُسمى نموذجاً بالعادات النرويجية القديمة، الحكايات الشعبية، الصناعات اليدوية، وما إلى ذلك، لم تكن قديمة، ولا نموذجية ولا نرويجية. رسومات الأزهار الملونة تصور عناقيد العنب من منطقة البحر الأبيض المتوسط. موسيقى كمان الهاردنغر ومُعظم الحكايات الشعبية تجد جذورها في أوروبا الوسطى، وكذلك اللغة، فما زالت لغة التخاطب في مدن النرويج، في التسعينيات، أقرب إلى الدنماركية مما هي إلى بعض اللهجات الريفية النرويجية. ولكن ما تم في الحقيقة، أن الرموز التي سوف تستخدم في تمثيل الأمة لنفسها جاء من منطلقات سياسية بدرجة عالية.
والمفارقة التي لها بعض جوانبها المسرحية، أن النرويج عندما أصبحت مستقلة في العام 1905م، كان ملكها الأول الأمير كارل من العائلة الملكية الدنماركية، ومع ذلك أعيد تعميده باسم "هاكون السابع" كطريقة لخلق معنى بالاستمرارية مع سلالة الملوك الذين حكموا النرويج قبل انهيار الدولة النرويجية في القرون الوسطى ودخولها في "إتحاد كالمار" مع الدنمارك والسويد، والذي دام قرابة 600 عام.
يذكر بندكت أندرسن، وهو من أنصار الفكرة القائلة بأن القوميين هم من يبتكر الأمم/الدول/الهويات في أماكن قد لا يكون لمثل هذه الأشياء من وجود سابق، على أن أهمية هذا الابتكار تكمن في خلق فكرة تفيد بأن الأمة لم تُبتكر أصلاً، أو بتعبير آخر، يجب نسيان ابتكارها. فأسطورة التأسيس يجب أن تقوم على أن الأمة كيان طبيعي، راسخة أعيد اكتشافها من جديد، وليس شيئاً مصطنعاً، واعتباطي، وعرضي في طبعه، حتى لا تبدو هناك أي مشكلة في مصداقية الانتماء إليها. وقد أشار أندرسن في كتابه المرجعي "الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها" وهو يتتبع الطريقة التي تُشكِل بها الجماعات هوياتها القومية والوطنية إلى عدة نماذج :
كانت ولادة القومية الهنغارية حَدَثاً من الجِدّة بما يكفي لتحديد تاريخه بالعام 1772م، ذلك العام الذي نشر فيه الكاتب الهنغاري، متعدد المواهب، جورجي بسنايي بعض الكُتب غير القابلة للقراءة ... فقد أراد بسنايي لعمله "العمل العظيم" [Magna Opera] أن يثبت أنَّ اللغة الهنغارية تُلائِم الأجناس الأدبية الرفيعة، ثم خلفته الأعمال الوافرة التي نشرها فيرنيك كازينسكي (1759-1831م) "أبو الأدب الهنغاري". وفي الفترة بين 1800-1850 أسفر العمل الرائد الذي قام به باحثون محليون عن قيام ثلاث لغات أدبية مميزة شمال البلقان: السلوفينية، والصربوكرواتية، والبلغارية. وفي حين كان يُعتقد على نطاقٍ واسعٍ، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أن "البلغار" ينتمون إلى الأمة ذاتها التي ينتمي إليها الصرب والكروات، إلا أن دولة قومية بلغارية مستقلة قد برزت إلى الوجود في العام 1878م. أما اللغة الأوكرانية فقد كانت تُعامل بازدراء في القرن الثامن عشر باعتبارها لغة فلاحين أجلاف، لكن الشاعر إيفان كوتلاريفسكي كتب "الإنياذة" في العام 1798م، وهي قصيدة ساخرة حول الحياة الأوكرانية كان لها أن تُحقق شعبية هائلة.وفي العام 1804م، أُسِّست جامعة خاركوف وسرعان ما غدت مركزاً لازدهار الأدب الأوكراني. وقد كان استخدام هذه اللغة مرحلة حاسمة في تشكّل وعيٍّ قوميٍّ أوكراني. ولم تمض فترة وجيزة حتى تأسست حركة قومية أوكرانية في كييف عام 1846م،وكان مؤسسها واحدٌ من المؤرخين!.
يبدو وكأن عامل اللغة هو العامل المشترك الذي وقف كمحركٍ رئيسيٍّ وراء تشكل الهويات القومية في كل النماذج السابقة، لكن اندرسن نفسه يرى أنه من الخطأ الفادح أن يتم التعامل مع اللغات بالطريقة المثالية التي يتعامل بها بعض الإيديولوجيين القوميين؛ بوصفها رموزاً للانتماء القومي، مثل الرايات والأزياء والرقصات الشعبية، وبقية هذه الأمور. فالأهم بكثير، بشأن اللغة، هو قدرتها على توليد جماعات مُتخيّلة، وعلى بناء ضروب من التضامن. فلا شيء يوحي بأنَّ القومية الغانية هي أقل واقعية من أي قومية أخرى لمجرد أنَ لغتها القومية هي اللغة الإنجليزية، وكذلك الحال بالنسبة لإندونيسيا وكثير من الدول-الأمم في القارة الأمريكية والأفريقية. فعبر اللغة التي جعلها التاريخ اللغة الأم؛ والتي يصادفها المرء عند ركبة أمه ولا يفارقها إلا إلى القبر، تتم استعادة الماضي، ويجري تخيّل الألفة والزمالة، ويُحلم بالمستقبل. وقد صادف في النماذج الأوروبية المستعرضة أن عملية أحياء اللغات المحلية كانت العامل الرئيسي في بروز الوعي القومي وذلك لسببين: السبب الأول يعود إلى التغير في طابع اللغة الرسمية (اللاتينية) ذاتها، حيث نتج عن الجهود الرسمية التي بُذِلت من أجل أحياء آداب القرون القديمة، فتكوّنت ذائقة جديدة، وراحت اللاتينية تقترب أكثر وأكثر من لغة المناسبات والطقوس المملة والكئيبة، وتبتعد أكثر فأكثر عن الحياة اليومية. والسبب الثاني يعود إلى أن اللغة المحلية كانت من ضمن الأشياء المحلية التي يجري التأكيد عليها والتي تشير بمجموعها إلى صفة الاستقلالية والتمايز عن الإمبراطورية الغربية. وقد لاحظ توماس إريكسن أنه وبينما كان من المستحيل قبل 150 سنة ماضية تحديد موقع اندماج "اللهجات الشعبية" النرويجية ب"اللهجات الشعبية السويدية"، فإن هذه الحدود اللغوية اليوم أكثر وضوحاً وتتبع الحدود السياسية، فكما يُقال:"اللغة لهجة هي مدعومة من قِبل جيش"!. وقد لعبت "الطباعة" دوراً كبيراً في انتشار اللغات المحلية، كما لعبت الآداب من شعر ورواية ومسرح، والصحافة والموسيقى دوراً في تنمية الوعي القومي بذاته.
أما في سويسرا، والتي تُستخدم كنموذج لدحض النظريات القومية القائمة على اللغة، فقد "قررت" الدولة في العام 1891م، وفي خضم احتفالاتها بذكرى مرور 600 عام على الاتحاد الكونفدرالي بين شفيتش وأوبفالدن ونيدفالدن، أن يكون العام 1291م تاريخ تأسيس سويسرا. ومثل هذا القرار، الذي انتظر 600 سنة لكي يصدر، له جوانبه المسلية، ويشير أصلاً إلى أن الحداثة وليس القدم هي التي تُميّز القومية السويسرية. بل إن الأمر يصل بكريستوفر هيوز، في كتابه عن سويسرا، حد رؤية أن احتفالات العام 1891م تَسِمُ ولادة هذه القومية، فيقول إنه "في النصف الأول من القرن التاسع عشر.. كانت القومية تتكئ بخفةٍ على عاتق الطبقات الوسطى المثقفة: مدام دو ستايل، وفوسيلي، وأنجليليكا كوفمان، وسيسموندي، وبنيامين كونستان، فهل هم سويسريون جميعاً؟". وإذا كان الجواب الضمني هو "لا"، فإن أهميته تُستمد من حقيقة أن النصف الأول من القرن التاسع عشر قد شهد، في جميع أنحاء أوروبا المحيطة بسويسرا، تبرعم الحركات القومية المحلية التي لعبت فيها "الطبقات الوسطى المثقفة" (اللغويون والرأسماليون التقنيات) أدوراً مركزية.
وفي تجارب ما سمّاها أندرسن ب"الموجة الأخيرة"، والتي كانت نتاجاً لحالات خروج على القياس خلقتها الإمبريالية الأوروبية اعتباطية الحدود، وضروب الإنتلجنسيا المحلية ثنائية اللغة. وهي تمثل معظم القوميات في قارة أسيا وأفريقيا.
وتشكل حالة إندونيسيا مثالاً معقداً لافتاً على هذه العملية، خاصة بسبب حجمها الهائل، وعدد سكانها الضخم، وتشظيها الجغرافي (حوالي 3000 جزيرة)، وتعددها الديني (مسلمون، بوذيون، كاثوليك، بروتستانت من شتى الأنواع، هندو-بالينيون، وأروحيون)، وتنوعها الإثني اللغوي (أكثر من 100 جماعة مميزة). علاوة على كل ذلك، وكما يوحي أسمها شبه الهيلليني الهجين، فإن رقعتها أو مساحتها لا تنسجم ولو من بعيد مع أي سيطرة ما قبل كولونيالية، وعلى العكس، فإن حدودها، كانت تلك الحدود التي خلّفها وراءهم أخر الفاتحين الهولنديين ( في العام 1910م).
فقد كانت إمبراطوريات أواخر القرن التاسع عشر أكبر بكثير وأبعد من أن تُحكم من قِبل حفنةٍ من المواطنين، فضلاً عن أن الدولة الاستعمارية كانت تناهز الرأسمالية وتعمل على تكثير وظائفها في المستعمرات. وهذه القوى مجتمعةً هي التي ولّدت الأنظمة المدرسية التي قُصِد منها أن تُنتج الكوادر الخاضعة المطلوبة لكلٍ من الدولة والبيروقراطيات المتكاملة في كل واحدٍ. وهذه الأنظمة المدرسية، المركزية والموحدة، خلقت رحلات حجٍ جديدة تماماً كانت لها في العادة قبلاتها في عديدٍ من عواصم المستعمرات. وعادةً ما كانت رحلات الحج التعليمية هذه ما يوازيها، أو يُماثلها في المجال الإداري. ولقد وفّر التشابك بين رحلات الحج التعليمية والإدارية المحددة الأساس الإقليمي ل"جماعات متخلية" جديدة أمكن فيها للمحليين أن يروا إلى أنفسهم على أنهم قوميون.
تتوسع استشهادات أندرسن في طول العالم وعرضه، لكن الفكرة التي تحاول التأكيد عليها، هي فكرة غيلنر، ولكن على نحوٍ أوسع وأشمل، في أن الأمم بناءات إيديولوجية (اختراع) ترمي إلى أن تلحم صلة بين الجماعة الثقافية (المحدد ذاتياً وإقليمياً) والدولة، وأنها تبتكر مجتمعات محلية مجردة من نظامٍ مختلفٍ عن تلك الدول ذات السلالة الحاكمة أو المجتمعات المحلية التي تقوم على القرابة. وفي مهمتها هذه، تستدعي مخزون الذاكرات من الأساطير والقصص العتيقة للهزائم المريرة والتضحيات النبيلة، معيدة تأطيرها وتعريفها بما يجعل الماضي متطابق تماماً مع الحاضر المُعاد تعريفه.
على أن الأمة لم يُعَد إنتاجها من خلال العمليات الكبرى، والذكريات الخارقة المشتركة فحسب، ولكن كذلك من خلال الممارسات اليومية، وهو ما يُذكرنا بخطاب إرنست رينان الشهير عن الأمة والتي اعتبرها بمثابة "اقتراع شعبي يومي".
يشير رينان في خطابه "ما هي الأمة؟"، وعلى نحوٍ مؤثرٍ، إلى أن الأمة توجد من خلال شيئين: الذكريات والإرادة، الأول ناجم عن الماضي؛ بحيازة إرث غني مشترك من الذكريات، والثاني ناجم عن الحاضر؛ الالتزام والرغبة بالعيش سوياً : «في الماضي هناك تراث من المجد والندم لا مناص من تقاسمه، أما المستقبل فله برنامجه الذي لا مناص من تحقيقه.. الأمة إذن هي ذلك التضامن الرائع والمستمر والمكون من مشاعر التضحيات التي تمت والتي يكون على استعداد لتقديمها من جديد. إن وجود الأمة عبارة عن "اقتراع شعبي يومي" يشبه وجود الشخصية القائمة بذاتها، إنها بمثابة تكريس دائم للحياة». وهذا هو التصور الذي اعتمد عليه بندكت أندرسن في تعريفه للأمة بوصفها "جماعية سياسية متخيلة"، أي أن الأمة تعتمد على أعمال متواصلة من الخيال كي تضمن وجودها، والواقع أن "الخيال الأصلي" حول الأمة، كما يرى بورديو، قد أعيد انتاجه عبر انتشار هادف أو رموز وطنية/قومية، ولكن في الأكثر، والأشد تأثيراً، عبر عادات يومية ندركها على نحوٍ خافتٍ أو لا ندركها قط؛ وما العلم الوطني المنتشر في كل مكان، والعملات والأوراق النقدية وما عليها من رموز والتي نستعملها كل يوم إلا مثالان على ذلك، وهذا هو فحوى أن الأمة اقتراع شعبي يومي، وبأنها بمثابة تكريس دائم للحياة. وعلى كلٍ، فإن إرث الذاكرات الذي أشار إليه رينان سيهمن على المحاولات الأكاديمية والفلسفية المستقبلية في تحليل الهوية القومية، أو هوية الأمة السياسية. وأما العنصر الآخر "الإرادة" الجماعية للشعب فسيكون له مع ذلك الوقع السياسي الأعمق انطلاقاً من معاهدة فرساي*، وسيظل الأساس المفترض لشرعية الأمة السياسية حتى الفترة الراهنة.


هوامش
* مقتطفٌ من بحث طويل عن "رهان الهويات".
*معاهدة فرساي: وقعت في 28 يونيو 1919، وهي اتفاقية أنهت الأعمال العسكرية رسميا ضد ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى. أدى توقيع المعاهدة أيضًا إلى إعادة ترسيم حدود مقاطعات معينة في أوروبا ودول أخرى كانت تسيطر عليها الدول الأوروبية في إفريقيا وآسيا وبعض الجزر في المحيط الهادئ، كما دعت إلى تطبيق مبدأ حق تقرير المصير العرقي الذي بموجبه لا ينبغي لأي مجموعة عرقية أن تُحكم بوساطة دولة لا ترضى تلك المجموعة بحكمها لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.