ارتبطت أبين بالأحزان منذ سنوات (طويلة ) وعهود (مديدة ) وكلما خرجت من مصيبة جاءتها أخرى أكثر ألما ً من ذي قبلها !! لكن ليس كمصيبتها اليوم وحالها الآن. عشرة أشهر وأبين ( الأرض ) والإنسان في مهب ( الأحزان ) تتجاذبها المحن والآلام وتحيط بحياة مواطنيها عديد المنغصات ( قتل وتشريد ودمار وضياع ممتلكات وأموال وحلم أجيال واغتيال لبراءة أطفال ) ولا أحد كما يبدو ( مهتم ) وللكارثة الإنسانية التي تعرض لها السكان ( مغتم ) . عشرة أشهر من المعاناة والهموم والجوع والعراء والمرض والتسول والبكاء والنحيب دفع هؤلاء النازحون إلى الصراخ وبأعلى صوت ( مسنا وأهلنا الضر ) !! ولا مجيب غير ( يانازحين هذا قدركم ) !! وفي أحسن الأحوال ( اصبروا ) على مصيبتكم !!.
( تراتيل ) وجع دائم ( ومواويل ) ألم مستبد تعلو كل أرجاء المكان في المدارس والشوارع والحارات وأينما أتجه هؤلاء النازحون أو ارتحلوا ( غرباء ) هم في أرضهم هكذا ( يشعرون ) وعلى وقع تلك الأحاسيس ينامون ويستيقظون وربما يأكلون ويمشون .
( هذا قدركم ) بقدر ماتحمله هذه الكلمة من معنى يلامس الإيمان بالقدر خيره وشره ألا أنها تتضمن نداء ً أنسانيا ً إلى كل الضمائر الحية من أجل الالتفات لواحدة من أكبر المآسي الإنسانية إذ أن نزوح أكثر من 160 ألف من منازلهم بحسب الإحصائيات الأخيرة ليس بالأمر الهين والسهل .
الإحصائية ذاتها أكدت أن محافظة عدن وحدها قد جاوز عدد النازحين فيها ال ( 120 ) ألف نازحا تليها محافظة لحج ب ( 29 ) ألفا ً و( 902 ) والباقي موزعين على محافظات البيضاء وشبوه وحضرموت يافع .
ربما تكون الإحصائية دقيقة وقد لاتكون ولكنها في المحصلة النهائية لاتلق حجم الكارثة التي تعرضت لها أبين خاصة مديرتي ( زنجبار وجعار )
( الله لايسامحهم )
هكذا ابتداء الوالد ( مفتاح عطاء المسعدي ) حديثه معي !! قال وبصوت متهدج وبنبرة أسى كبيره كنت وإفراد أسرتي على موعد مع (الفرح ) قبيل خروجنا من أبين بأيام بسيطة كان بيتنا ( مسرحا ) جالبا للفرح والمرح منذ فترة وقد جهزنا كل شئ للاحتفال بعرس أحد أبنائي !! يتوقف لبرهة وقد (أغرورغت ) عيناه بالدموع ثم يستطرد قائلا ً ( 3 ) أيام فقط كانت تفصلنا عن الاحتفال بزواج ولدي لكن فجأة تحولت أيامنا إلى ( أسى ) وليالينا إلى ( ألم ) انتهى كل شئ فجأة وتبدلت أفراحنا إلى ( أتراح ) 00 ثم أردف ( قد بلغت اليوم من العمر عتيا ولكنني أبدا ً لا أعرف ولم أسمع قط بحدث مماثل أو كارثة مشابهة لما تعرضت له أرضي الحبيبة ( أبين ) والتي تحولت إلى مدينة ( أشباح ) لتغدو أثرا ً بعد عين وإطلال ينوح عليها غراب البين (ولا حول ولا قوة ألا بالله ) .
ثم أستعرض مشاهد خروجه الحزينة من أبين وقال ( خرجت أسرتي في اليوم الثالث من بدء الحرب دون تحديد وجهه معينه لها قبل أن تستقر في مدرسة ( باكثير ) بمحافظة عدن أما أنا فآثرت البقاء في منزلي لأكثر من نصف شهر وبعد أن ضاقت علي الأرض بما رحبت اضطررت وفي القلب حسرة والحلق ( غصة ) للخروج منه بعدما شاهدت بعيني حجم الدمار والقتل في الشوارع ولم يكمن لي من ( بد ) ألا المغادرة وحسبنا الله ونعم الوكيل .
( الوضع المعيشي )
على مقربه من المكان كان يجلس المواطن ( عبدالله فرتوت ) وحيدا لا أدري ما أذا كان قد جالت بخواطره مشاهد المنزل الذي تحول إلى ركام أو متذكرا ً ليال الأنس والصفاء مع الأصحاب والخلان !! سألته فيما تفكر ؟؟ أطلق ابتسامة خفيفة لم تخف تقاسيم الألم البادية على محياه وقال : ( حتى اللحظة غير مصدق ماحصل في أبين ولم أستوعب بعد وضعنا الحالي بعد مفارقتنا لديارنا وتركنا لكل أمتعتنا !! أضاف أعيش وإفراد أسرتي الكبيرة في ( مدرسة ) بداخل غرفة لاتتجاوز ( 4 ) متر تستخدم لكافة الأغراض ( نوم وطبخ وغسيل ) وحتى مشاهدة التلفاز وغيرها من تراجيديا المعاناة اليومية المضافة أصلا إلى الوضع المعيشي الصعب وإهمال الجهات الرسمية المختلفة لنا وتركنا عرضة للجوع والمرض والتسول المتزامنة مع تأخر المعونات المقدمة من الجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية وهي في الغالب الكثير لاتفي حتى لعشرة أيام ،، وقال ( نشعر أن جبال من الهموم قد وضعت فوق رؤوسنا فما أصعب أن تعيش غريبا في وطنك تفترش الأرض وتلتحف البلاط ثم تقف في طوابير طويلة تستجدي الحصول على ( 10 كيلو سكر ومثلها رز ودبة أو دبتين زيت صغير ) قاطعته بالقول : ( محافظ أبين ) أكد في أوقات سابقة لوسائل إعلامية مختلفة أن المنظمات الدولية أغدقت عليكم بالعطايا لدرجة أن الفائض يباع في الأسواق ) !! تساءل بسخرية : ( محافظ من ؟؟ محافظ أبين ؟؟ ليش في عاد واحد محافظ لأبين أنا شخصيا لا أعرفه ولم اسمع يوما أنه زار مكانا واحدا ً.
للنازحين وبالتالي ليس من حقه الحديث عنا ) !! ماذا عملت لنا الدولة حتى الآن ؟؟ غير التشرد والذل والهوان !! من بعيد ألتحق بنقاشنا الشاب ( ناصر باسندوة ) من سكان مدينة الكود يحمل كوبا من الشاي أصر على تقديمه لي وقال ( وضعنا لايعلمه إلا الله إذ لم يعد للبهجة والسرور مكان في نفوسنا نعيش كالمسجونين وسط العنابر أطفال ونساء ورجال في غرفة واحدة ونستخدم جميعنا حمامات مشتركة بداخل المدرسة منازلنا دمرت وممتلكاتنا ضاعت !! بدء صوته في التحشرج وعيناه زائغتان نحو الأرض !! وقال ( كانت لي مزرعة كبيرة في منطقة ( المسيمر) توجد فيها كل أنواع الخضروات والفواكه وهي رأسمالي الوحيد أنا وأسرتي البالغ عددها عشره وكانت تغطي مصاريفنا وزيادة ) ولكن انتهى كل شئ فيها حيث احترقت معظم مساحتها بعد أن طالها قصف الطائرات ،، ودمرت مضخات المياه فيها وغدت كالهشيم !! غابت مروجها الخضراء وحلت الصفرة بديلة عنها حتى الأطيار وروائح الأزهار لم يعد لها مكانا فيها ) .
( براءة طفولة ؟؟ ) على مسافة قريبة كانت أصوات عدد من الأطفال بعمر الزهور تملأ أرجاء المكان !! بدأ وكأنهم مستمتعين بلحظات ( لهوهم ) المعتاد غير آبهين بمعاناة نزوحهم وببراءة رفع بعضهم أشارات ( النصر ) أمامي فور شعورهم بفلاشات الكاميرا .
سألتني أشجان ( 7 ) سنوات : ياعمو متى بنرجع أبين ؟؟؟ بقدر عفوية السؤال ألا أنه كان مربكا ً لي ومفاجئا في ذات الوقت !! قلت لها : لماذا تريدي العودة لأبين ؟؟ قالت : ( عشان أتعلم أنا وصاحباتي ) قلت لها ( ليش يابابا ماتتعلمي هناء في عدن ؟؟ قالت وبأتسامة خجولة : لاء !! هنا مش حلو وما يعطونا كتب وأنا أشتي العب مع صاحباتي ( نادين وسحر ) قلت لها أين هم صاحباتك ؟؟ قالت : ( ما أدري ) ثم تركتني هاربة إلى وسط زحمة الأطفال .
( كوم ) من النساء كن يراقبن حركات الأطفال بعيونهن لكن حتما ً قلوبهن في غير ذات المكان !! دنوت من أحداهن وعرفت نفسها ( بأم أيمن ) وسألتها ما أذا كان لعب الأطفال قد أستهواهن ؟؟ فقالت ضاحكة : لا ( ولكننا نبحث عما نسلي به أنفسنا ونقتل به وقت فراغنا خصوصا ونحن نعيش في المدرسة وكأننا في زنزانة !! هذا يعني أنك تشعرين بضيق شديد هناء ؟؟ نعم حياة ( النزوح ) والتشرد وترك الديار ومفارقة الأهل والخلان ليس بالأمر السهل والهين ، زد عليها الظروف القاهرة التي نعيشها في ( المأكل والملبس والمنام ) بداخل غرفة صغيرة يتقاسم الحياة فيها كل أفراد الأسرة !! سألتها مالذي يمنعك من الخروج واستئجار منزل يضمك وأفراد أسرتك ؟؟ ومن أين لنا بالإيجار ؟؟ كنا نقتات من مزرعتنا وزوجي دون عمل وأيضا أنا خريجة جامعية من عام 2002 م لم أحصل على وظيفة وربنا على الظالم .
ماسلف أكدته زميلتها ( مريم علي ) التي قالت ( كل الأسر الموجودة في المدارس غير قادرة على تحمل أيجار السكن ولم يكن لنا من خيار ألا اللجؤ إلى المدارس 00 وأضافت أعيش هناء أنا وبناتي الأربع وأمي وأبي في غرفة واحدة وظروف الحياة غاية في الصعوبة خصوصا بعد أن تلاشى دعم ( الجمعيات ) الخيرية التي ساعدتنا كثيرا في الأيام الأولى لنزوحنا قبل أن تختفي بالكلية في الأشهر الخمسة الماضية والآن ليس معنا غير ماتتكرم به الوحدة التنفيذية علينا والذي لايغطي حاجتنا الغذائية ولو بنسبة 30 % .
( ضرورة التعايش )
أثناء تجولي في الطابق العلوي في مدرسة البيحاني بكريتر لفت نظري شاب منهمك أمام جهاز الكمبيوتر ، بدأ لي المشهد غريبا نوعا ما خصوصا والمخيم يفتقد لأبسط مقومات الحياة الآدمية فكيف بالتقنية الحديثة !! وبعد تبادل التحايا قال : أسمي ( يسلم مبارك صالح ) من أبناء مدينة زنجبار حي الصرح خرجت مع أفراد أسرتي في اليوم الأول من المعارك لقرب الحي الذي نقطن فيه من المواجهات لم أصطحب معي شئ غير هذا الجهاز الذي يحتوي كل ذكرياتي وأفراد عائلتي وأبناء الحي الذي أسكن فيه ، أجد فيه مايؤنسني ويواسيني في مصيبتي وإن شئت سمها (غربتي !! )غربتك ؟؟ نعم ( أنا هناء لا دار ولا مال ولا مستقبل ) فأنا فعلا ً غريب في أرضي أنتظر مايصلني من فتات أهل الخير وربنا على ظلمنا وكان سببا في تركنا لأرضنا. يقول والد ( يسلم ) ولدي لايحبذ الخروج من هناء معظم وقته كما تشاهده أمام جهاز الكمبيوتر الذي أخرجه معه لأنه وكما يقول يمنحنه شئ من السعادة الضائعة والبهجة المفقودة . وأضاف هذه الغرفة تحتوي أفراد أسرتي جميعا وفيها ننام ونأكل ونطبخ ونغسل الملابس ونشاهد التلفاز الذي يصدر لنا الفواجع صباحا ومساء !! أقوم في الصباح الباكر لعلي أجد أخبار جديدة من أبين !! ولكن كل مايدور فيها محاط عادة بالسرية والكتمان وحتى وسائل الأعلام الخارجية أصابتها عدوى ألا مبالاة بما يدور هناك / لا أخفيك بحثنا عن ( الحقوقيين والناشطين ولم نجد أحد وغدا حالنا كمن يطارد خيط دخان في هواء طلق ) وأستطرد : ( عشرات الآف من الأسر تم تهجيرها وأعلامنا الحكومي وغير الحكومي مشغول بمناكفات علي صالح وحكومة الوفاق ورفع المتارس والطرقات في صنعاء وغيرها بينما أبين لا احد يذكرها أو ( مهتم ) بها أنه موسم ( النفاق ) والمزايدات السياسية وما أكثر المزايدين على حساب الأبرياء ودم الشهداء !! فقط ننتظر من يجيب على سؤالنا ويفتينا في أمرنا ويقول لنا ( لماذا كل هذا العبث ولماذا كل هذا الدمار في أبين دون غيرها ) ؟؟