بكثير من التوتر والشك ومع إرهاصات تراشق إعلامي وشيك قد يتحول مع الوقت لمعركة حقيقية حامية الوطيس، استقبلت الأوساط السياسية اللبنانية تصريحات وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية الشيعية في لبنان، ورئيس الحزب الاشتراكي التقدمي اليساري[ سابقاً ]، وأحد أهم أقطاب الأكثرية اللبنانية المعروفة بقوي 14 آذار، والتي جاءت أشبه ما يكون بانقلاب عسكري من جنس انقلابات العالم الثالث، والتي أعلن فيها أن علاقته بقوي 14 آذار لا يمكن لها أن تستمر، داعياً لعودة حزبه لموضعه الصحيح علي الساحة السياسية داخل لبنان لممثل تاريخي لليسار، كما كان الحال أيام أبيه الراحل كمال جنبلاط تاريخ من الانقلابات وكعادة الرجل صاحب المواقف التاريخية في التناقض والتلون والانتقال من طرف لآخر، كانت تصريحاته مدهشة لاذعة تتسم بالصراحة المفتوحة التي تجعل خصوم الرجل وأنصاره في حالة توجس وقلق دائمين، مما سيقدم عليه في خطواته المقبلة، فوليد جنبلاط الذي وجد نفسه في صبيحة يوم 17 مارس زعيماً سياسياً، ورأساً للطائفة الدرزية، بعد مقتل أبيه كمال جنبلاط، في حادثة ألقي وليد فيها باللائمة علي سوريا ورئيسها حافظ الأسد ، قد أبان عن مواهبه في التلون والتحول من طرف لنقيضه بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إذ دخل في حلف قوي مع سوريا وأصبح من أقوي رموزها داخل لبنان، بعد أن كان يصب عليها اللعنات ويتهمها باغتيال أبيه، وظل وليد بك [ كما يناديه أتباعه وأنصاره في معقله بجبل لبنان ] ضيفاً مستمراً علي شيراتون دمشق طيلة 15 سنة، كان للسوريين وقتها النفوذ الشامل داخل لبنان، وظل علي ولائه لسوريا لسنوات طويلة، وهي السنوات التي كانت سوريا خلالها الطرف الفاعل والأقوى في المشهد اللبناني المليء بالمفارقات والمتناقضات، وبعد غزو أمريكا للعراق بدأ وليد بك بحسه المرهف تجاه تغيرات موازين القوي دولياً وإقليمياً، يعيد النظر في كشف حساب الأرباح والخسائر في علاقته مع الطرف السوري الذي بدأ يعاني من تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية عليه، ولحنكة الرجل في التمهيد لانقلاباته المعهودة، بدأ وليد بك يتململ من الطلبات السورية، ويوجه لها انتقادات علنية، ويظهر تقارباً مع رئيس الوزراء رفيق الحريري الذي دخل وقتها في صراع علني مع الرئيس السوري بشار الأسد، حتى جاءت اللحظة المناسبة للانقلاب علي سوريا بعد حادثة اغتيال رفيق الحريري، إذ أيقن الرجل من صحة توجهاته الانقلابية علي سوريا. وبين ليلة وضحاها، أصبح وليد بك أحد أقوي خصوم سوريا، والشريك الأهم في تحالف القوى المعادية لسوريا داخل لبنان، والذي عرف فيما بعد بقوى 14 آذار، وأصبح أشد منتقدي سوريا، وبل اعتبره كثير من المراقبين للشأن اللبناني، أقصي يمين قوي 14 آذار، وأجرأ منتقدي سوريا في لبنان، ففي الوقت الذي كان الجميع يلمح بالنقد لسوريا، كان وليد بك يصرح ولا يلوح، وتجاوز كل الخطوط الحمراء في انتقاده لسوريا وحلفائها داخل لبنان، وأبرزهم حزب الله الشيعي، وأثار العديد من القضايا الحساسة التي لم يجرؤ أحد من الساسة اللبنانيون علي إثارتها أبداً، مثل قضية سلاح حزب الله، ووجوب نزعه من يد مقاتلي الحزب، حتى بلغ نقده اللاذع مبلغاً أدي لتفجير الوضع داخل لبنان سنة 2008، عندما أثار قضية شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله، و ما تبعه من حرب شوارع شرسة شنها مقاتلو حزب الله الشيعي في بيروت والضاحية الجنوبية، وهي الاضطرابات التي راح ضحيتها الكثير من الأبرياء من أهل السنة، وأظهرت مدي الضعف الشديد الذي عليه أتباع وليد بك من الطائفة الدرزية. فما سر انقلابات الوليد المتكررة ؟ لا نستطيع أبداً أن نعزل الخلفية العقائدية والتاريخية لرجال من عينة وليد جنبلاط الشيعي الدرزي [ وإن كان كثير من الشيعة يرفضون وصف الدروز بالشيعة ]، فالقاسم الأكبر الذي يجمع طوائف الشيعة علي اختلاف مشاربها وتوجهاتها، هو التلون والتغير والتحول، فالشيعة علي مر العصور يسيرون في فلك الطرف الأقوى، فشيعة فترات القوة مختلفين بالكلية عن شيعة فترات الضعف، وتاريخ الدولة العباسية في فترة تسلط الدولة البويهية الشيعية علي مقاليد الخلافة، وما فعله الشيعة وقتها، يختلف تماماً عن تاريخ فترة سيطرة السلاجقة الأتراك، وما فعله الشيعة وقتها، وشيعة العراق أيام العثمانيين ثم الملكية ثم الجمهورية، يختلفون تماماً عن شيعة العراق أيام الاحتلال الأمريكي، وجرائمهم المروعة الآن خير دليل علي ما نقول. فوليد حنبلاط يعتبر تجسيداً حقيقياً للثقافة الشيعية المتلونة والمتقلبة حسب تقلب موازين القوي، والتي لا تري غضاضة أبداً في أن تضع يدها في يد أشد خصومها من أجل مصالحها الخاصة، ثم لا تبالي بعد ذلك بالانقلاب عليه إذا دعت الحاجة لذلك، فالخلفية الثقافية والتاريخية لمن هو مثل وليد جنبلاط تبيح له التنصل من أي قيم ومبادئ وعهود ومواثيق، في سبيل المصالح الخاصة، وبوصلة ولاءاته لا تعرف اتجاه ثابت أبداً. ورغم تاريخ الرجل الحافل المواقف المتناقضة والانقلابات المدهشة، إلا أن هذا الانقلاب يعتبر الأخطر في تاريخ الرجل، إذ يعتبر بخطوته هذه قد قوض دعائم قوى 14 آذار التي تعاني من صراع داخلي منذ فترة، باعتباره أقوي رموزها، ولسانها الحاد في مواجهة قوي 8 آذار، وأيضا هذا الانقلاب جاء في وقت عصيب علي قوى الأكثرية النيابية والتي كان يستعد ممثلها سعد الحريري لإعلان تشكيل حكومته بعد مخاض عسير، ومواجهات حادة مع المعارضة، وأصبحت أغلبية 14 آذار في خبر كان بعد انقلاب وليد جنبلاط ونوابه الأحد عشر، وبالتالي أصبحت مسألة تكليف الحريري نفسه بتشكيل الحكومة موضع شك. أسرار الانقلاب الأخير حار كثير من المراقبين في تفسير انقلاب جنبلاط الأخير، بسبب كثرة الآراء والأسباب المطروحة لتكون مبرراً للانقلاب الجنبلاطي، خاصة وأن هذا الانقلاب يعتبر في غاية الخطورة ويعيد رسم خريطة الداخل اللبناني لمربع ما قبل اغتيال الحريري، ويجعل الطرف السني هو أكبر الخاسرين، بعد أن أصبح التمايز النصراني و الشيعي أكثر وضوحاً وانسجاماً، علي حساب الطرف السني الذي دفع ثمن دخوله في محالفات خاسرة مع أعداءه الدينيين والتاريخيين. وقد تراوحت آراء المتابعين للساحة اللبنانية وتداعيات هذا الانقلاب علي المنطقة في تبريره لعدة آراء، ولكن من خلال قراءة التاريخ والعقلية الانقلابية لوليد بك، نستطيع أن نحدد أسباب انقلابه الأخير في عدة نقاط : 1 اشتباكات مايو 2008 والتي تلت مطالبة وليد جنبلاط بوضع شبكة اتصالات حزب الله الشيعي تحت إشراف الدولة، وهي الاشتباكات التي أثرت في نفسية وليد جنبلاط وكشفت له عن مدي القوة الكبيرة التي يتمتع بها حزب الله، والتسليح القوي والثقيل الذي يوجد بحوزته، وأن الواقع يشهد الحزب الشيعي هو الطرف الأقوى داخل لبنان،والقادر علي إنفاذ إرادته ورغباته حتى علي كل من في الدولة، و يستطيع تحييد الجيش اللبناني الهزيل الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، في أيام معدودة، كما كشفت أيضا عن مدي الضعف البين الذي عليه الطائفة الدرزية التي كان يشهد لها التاريخ من قبل بأنها صاحبة صولات وجولات في الداخل اللبناني، وإحساس جنبلاط بأن الوجود الدرزي قد أصبح علي المحك في منظومة الحكم، في بلد للميليشيات الطائفية فيها كلمة الفصل في فض المنازعات وحسم الأمور، ومع ورود الكثير من الأقاويل عن تهديدات مباشرة من حسن نصر الله نفسه لوليد جنبلاط تستهدف حياته وحياة أولاده وأسرته. 2 التقارب السوري الأمريكي في الأيام الفائتة، بعد الجولات المكوكية للمبعوث الأمريكي في المنطقة [ ميتشل ] والتصريحات الإيجابية الصادرة عقب هذه الزيارات، والتي أعطت وليد جنبلاط إشارات واضحة، لا يخطئها أبداً الرادار الجنبلاطي، في أن ميزان القوة بات يميل ناحية الكفة السورية وحلفائها داخل لبنان من قوى 8 آذار، ثم تحول ظن الرجل إلي يقين بالتقارب السوري السعودي في الأيام الفائتة، ولعل هذا يبرر إقحام اسم سوريا في خطاب الانقلاب أمس، والذي أعلن فيه وليد جنبلاط عن ضرورة بناء علاقات وثيقة ومتميزة مع الجانب السوري، بل ذهب إلي ما هو أبعد من هذا كما هي عادته في الغلو والشطح، إذ قال عن سوريا التي كان يصفها حتى أيام قليلة مضت بأنها الخطر الأكبر علي المنطقة، قال عنها أنه القناة التي يجب أن يتعامل من خلالها لبنان مع العالم العربي والدولي، في نادرة تاريخية لم يعد السوريون أنفسهم يتحدثون عنها. 3 الخوف الشديد الذي داخل وليد جنبلاط علي زعامته للطائفة الدرزية، بعد النمو المطرد في شعبية الزعيم الدرزي طلال أرسلان، والذي يعتبر أحد أقطاب المعارضة، وهو الزعيم الدرزي الوحيد الذي يستطيع أن يطيح بوليد جنبلاط لعراقة أسرته، وشخصيته الآسرة، وانتقاده العلني لجنبلاط أيام موالاته للغرب وذهابه للقاء صقور البيت الأبيض سنة 2006، مما جعل جنبلاط يعتذر علناً عن هذه الزيارة في خطاب الانقلاب، وأيضا خوف جنبلاط علي تمزق الصف الدرزي بينه وبين طلال أرسلان، مما يهدد الطائفة كلها بالانهيار. 4 كثرة الخلافات داخل قوى 14 آذار بسبب الصلح الذي تم بين سمير جعجع قائد حزب الكتائب، وسليمان فرنجية قائد حزب المردة والموالي لتيار المعارضة، والغضب الشديد الذي أعقب هذا الصلح من جانب الزعيم النصراني الآخر أمين الجميل، والتراشق الإعلامي الحادث بين الأرثوذكس والموارنة بسبب زواج النائبة المسيحية نائلة تويني من الإعلامي الشيعي مالك مكتبي، والصعوبة الكبيرة التي واجهت سعد الحريري أثناء مشاوراته لتشكيل الحكومة، مما أعطي جنبلاط انطباعاً، بأن تحالف قوي 14 آذار ليس خياراً استراتيجياً في هذه المرحلة. ومهما يكن من أسباب ومبررات هذا الانقلاب الذي حار في تبريره الكثير من المراقبين، واعتبروه غير مبرر وغير مفهوم، فأن هذا الانقلاب لن يكون الأخير، فوليد بك رجل الانقلابات الأول في لبنان، وطالما ظلت الحياة السياسية داخل لبنان وموازين القوى فيها تشهد مداً وجزراً، فأن الرجل لن يكف عن انقلاباته وتحولاته، فهذا ليس بمستغرب منه، ولكن العجب كل العجب من القطعان عديمة العقول التي تصدق كلام هذا الرجل وتسير خلفه في كل واد، بعد أن أغلقت عقولها، وألغت فهومها، وظلت تري فيه زعيماً سياسياً يستحق التقدير والسماع