خرج النازحون من أيبن هرباً من القتل، إلا أن حالهم بعد النزوح ليس بأهون مما فروا منه، فالجوع والشتات موت قبل الموت، فكيف إذا التقى الفقر والتشرد والمرضى والهوان واجتمعت آلام وأوجاع الجسد والروح في قلب نازح يحس معها بقسوة الحياة والمجتمع ويشعر بانعدام التعاطف والاهتمام واللامبالاة لمحنته من قبل الآخرين والتي أفقدته دفء الإنسانية والانتماء الآدمي، حتى وجد النازح نفسه وحيداً شريداً لأسباب يجهلها وكان ضحيتها دون ذنب، تركته يواجه واقعاً مريراً بروح محطمة يدفعها اليأس والبؤس إلى السخط والنقمة والانزواء. وفي عدن كان لنا نزول إلى بعض المدارس التي تحتضن النازحين فكان البعض منها نموذجاً في الرعاية والاهتمام والبعض الآخر مازالت تعاني شيئاً من القصور. "أخبار اليوم" سطرت الكارثة الإنسانية لنازحي أبين في عدن لعلها تجد طريقها إلى كل من له قلب في هذا الوطن، فإلى الحصيلة: يعيش النازحون أوضاعاً معيشية وصحية متردية توشك أن تتحول إلى كارثة إنسانية مع المدى القريب وبرغم الجهود المبذولة من شباب التغيير رجالاً ونساء بعد أن تركوا الساحات وتفرغوا لخدمة النازحين ومعهم أهل الخير والإحسان، إلا أن هناك صعوبة كبيرة في مواجهة الوضع بسبب غياب دعم الجهات الحكومية ومجالسها المحلية والمنظمات الإنسانية مع انعدام اللجان الإشرافية التي تدير شؤون النازحين من كل النواحي. كانت محطتنا الأولى مدرسة سعيد ناجي بالمنصورة والتي جسدت أروع الصور الإنسانية على رغم شحة الإمكانيات، إلا أن الشباب والشابات بجهودهم المخلصة وجهود أهل الخير استطاعوا صنع معجزة للتخفيف من معاناة النازحين برغم غياب دور المجالس المحلية والمنظمات الإنسانية تجاه النازحين في تلك المدرسة التي يعانون فيها أوضاعاً صحية ومعيشية حرجة للغاية. • إعاقة: شاهدنا رجلاً مسناً ملقياً على الأرض وبجواره كرسيه النقال، فسألنا عنه الناشطة لينا الحسني التي قالت إنه معاق ولا يوجد من يهتم به بعد غياب المرأة التي كانت تأتيه لتنظيفه وتعينه على قضاء حاجته بسبب ظروف طارئة. وعندما اقتربنا من الوالد المعاق/ محمد إبراهيم لنسأله عن حاله لم تخل عباراته من قوله "الحمدلله" على رغم ما هو فيه من بلاء وعند سؤالنا إياه من يقوم بك وأنت في هذه الحالة أجاب: "الله الذي لا ينسى عباده". • مبادرة: أخبرتنا الأخت/ لينا الحسني أنها سعت ومن معها لنقل الوالد المعاق إلى دار رعاية المسنين وقالت: ذهبنا وشرحنا لهم حالته وأتوا لرؤيته ونحن الآن ننتظر نقله إلى دار المسنين بحكم حالته الصعبة التي تحتاج لرعاية خاصة. * عجوز: في ساحة المدرسة كان الوالد أحمد سالم العريس الذي نزح من زنجبار رغم كبر سنه، حيث قال: يا ابني أخرجتنا المدافع والطيران التي قصفت منازلنا ودمرتها ودمرت حياتنا معها، لكن الذي أحرقنا أحرقه ربي. وبدأ الوالد أحمد سالم يجهش بالبكاء حتى قطع قلوبنا معه وتابع حديثه بصعوبة قائلاً: أصبحنا مشردين بلا بيوت ولا رواتب وحالتنا صعبة ولولا هؤلاء الشباب والخيرين لما علمنا كيف سيكون حالنا. * فضاعة: نزح من منطقة الكود بزوجاته الثلاث وأبنائه هرباً من القصف وقال محمد سالم حيدرة: لم نر في حياتنا أسوأ من هذه الحرب لا في حرب يناير ولا في حرب 94، فالدمار الذي لحق بنا وبمنازلنا هو مأساة لا يستطيع أحد أن يصفها وبشرح فضاعتها. وأضاف محمد: أبين اليوم لا ماء ولا كهرباء ولا أمان، فالبيوت دمرت والنساء ترملن والأهل تشردوا شرقاً وغرباً وقد خرجنا بأسرنا فقط، لافتاً إلى أن أجرة نقل الأسرة من أبين إلى عدن هي "20" ألف ريال. وعن وضعه حالياً أجاب محمد: الشباب وأهل الخير بذلوا جهوداً كبيرة معنا، لكن لمدارس ضيقة وتوجد في الغرفة الواحدة "5" أسر، كذلك هناك نقص في الغذاء والدواء والملابس ولقد تركنا أسرنا في المدرسة وذهبنا نحن الرجال لننام في السواحل، لكني بعد الله على أمل بدولة الشباب القادمة التي ستخلصنا من محنتنا، فإلى الآن لم يصلنا دعم لا من المجالس المحلية ولا من المنظمات. • نفسية حرجة: نفسية بعض الأطفال والفتيان والفتيات في صفوف النازحين سيئة ومنها حالة الشاب نبيل بعد أن فقد الاتصال بأهله، فهو لا يعلم عنهم شيئاً ولا هم وكل ما يعرفه أنهم نزحوا قبله إلى عدن وهو الآن يعاني من حالة صرع واكتئاب، كذلك هناك شابة تعاني من حالة اختناق وضيق مستمر، وقد دعا القائمون على النازحين في مدرسة سعيد ناجي أهل الخير والإحسان إلى التكفل بعلاج الحالتين والبحث عن أسرتيهما. • طريحة المرض: في عيادة النازحين في مدرسة سعيد ناجي كانت أم علي طريحة الفراش وقد تحدثت إلينا بصعوبة قائلة: نشكر الشباب وأهل الخير على رعايتهم لنا وألقي اللوم على المجالس المحلية والمسؤولين في أبين الذين ينزلون الفنادق والشقق المفروشة ويستلمون الدعم من المنظمات الإنسانية على حساب حالتنا ونحن لا نجد قيمة الحقنة وأولادنا يتضورون جوعاً ويعانون من الأمراض، بينما هم وأولادهم في الفنادق الفاخرة. وناشدت أم علي أهل الخير ومن أراد تقديم المساعدة أن يقدموها مباشرة للنازحين في المدارس دون وساطة. • خاوية مدمرة: أحمد سالم بابدو تحدث قائلاً: اليوم سكان أبين في شتات وبؤس بعد أن دمر القصف العشوائي منازلهم وحصد قتلى وجرحى وتشرد الآلاف من النساء والأطفال والعجزة. وأضاف: أبين اليوم خاوية ومدمرة لا مياه ولا كهرباء ولا أمن وقد نزحنا بأسرنا وليس معنا سوى ملابسنا ونشكر الشباب على مواقفهم معنا ونحمل الدولة المسؤولية أمام الله لما حصل لنا أولاً وثانياً عندما تخلت المجالس المحلية عنا ولم تقدم أي دعم أو اهتمام واليوم نحن في مدارس ضيقة، ذات أبواب مكسرة ومراوح معطلة ودورات مياه لا نظافة فيها، إضافة إلى قلة الغذاء والملبس والدواء. • صحة وتعليم: شقيقتان لم تكتفيا بمعالجة المرضى وحسب، بل شرعتا في إنشاء مدرسة للنازحين لتعليمهم وتوعيتهم لتكون أول مدرسة تقام داخل مدرسة، لكن الفرق أن مدرسة سعيد ناجي حكومية للمقيمين، بينما الثانية تطوعية للنازحين. فالأخت/ ابتسام صالح ومعها أختها مروى وزميل لهما هم طاقم العيادة الصحية ويعملون من السابعة صباحاً وحتى "12" ليلاً لخدمة النازحين، فهل هناك أنبل من ذلك الطاقم؟ والملفت للنظر التواضع الكبير والرضا في تأدية الواجب دون تضجر أو ملل. • أضرار صحية: عن الوضع الصحي للنازحين تحدثت د/ ابتسام صالح: كان الوضع الصحي في بداية الأمر سيئاً جداً حين بدأت تظهر بعض حالات الإسهال وتكسرات في الدم ونوبات صرع وحالات نفسية، بالإضافة إلى وجود حوامل "9" تقريباً وقد أحلناهن إلى المستشفيات. وأضافت د/ ابتسام: نحن بفضل الله استطعنا معالجة كثير من الحالات على رغم الإمكانات المتواضعة، فنحن نعاني من نقص في الأدوية وعدم وجود أنبوبة أكسجين ومع ذلك تمكنا بمساعدة أهل الخير من معالجة المرضى وإحالة بعضهم إلى مختبرات وصيدليات أبدت استعدادها لمساعدة المرضى، أما الحالات الخطيرة نقوم باسعافها إلى المستشفيات على حساب أهل الخير. وحذرت د/ ابتسام من وجود جراثيم تنقل الأمراض والسبب انعدام النظافة في الحمامات وكذا تراكم أكوام القمامة في الساحة، بالإضافة إلى الإهمال في ترك الأكل مكشوفاً، مشيرة إلى أنه لا وجود حالياً لحالات إصابة بالكوليرا مع أنها ظهرت في بعض المدارس وتسببت في. • نصرهم الشباب: حظي النازحون في مدرسة سعيد ناجي بالرعاية والاهتمام من قبل شباب ناشط ومساعدة أهل الخير، كأمثال المحامية ليلى الشبيبي وإيهاب باوزير وغسان الشعيبي وسامي الشرفي وفتحي بن لزرق ومعهم آخرون. وقالت الناشطة لينا الحسني: أخذنا النازحين من الشوارع بعد أن رفضتهم بعض المدارس وتواصلنا مع أهل الخير وأسكناهم مدرسة سعيد ناجي وكانوا أكثر من "70" أسرة وفي أول يوم لم يقدم لهم أحد أي معونة سوى ما جاءت به كثير من الأسر في المنصورة، أما المجالس المحلية والمنظمات لم تقدم إلى الآن أي دعم ما عدا بعض المنظمات وجمعيات الحكمة والإحسان الذين قدموا الفرش والملابس والغاز المنزلي وبعض أدوات الطبخ. وتابعت لينا: نحن بحاجة ماسة إلى دعم متواصل، لأننا نخشى أن يأتي وقت لا نستطيع فيه توفير الغذاء، بالإضافة إلى حاجتنا إلى الألبان للرضع وكذلك الدواء وإصلاح دورات المياه، فهناك توافد مستمر والمدرسة تضيق ونخشى من حدوث مأساة لا سمح الله. * سوء معاملة: في كريتر يوجد عدد من النازحين الموزعين على مدرسة العيدروس ومدرسة البيحاني وقد شكا لنا عدد منهم في ثانوية باكثير سوء المعاملة من قبل اللجان الإشرافية، مع تردي الأوضاع المعيشية والصحية وغياب الدعم والرعاية من قبل المجالس المحلية والمنظمات. الأخت/ مريم محمد إحدى النازحات، وعضو في اللجان الإشرافية في ثانوية باكثير تحدثت قائلة: نحن أعضاء ولكننا كالأطرش في الزفة لا نعرف رأسنا من رجلنا بسبب العشوائية في التوزيع بحسب المزاج والمعرفة ما تسبب في حرمان بعض الأسر من المعونة وحقيقة نحن في اللجان لا ندري ما الذي يدخل من مساعدة ولا كيف ولا على من يتم توزيعها ونحمل المسؤولية محمد علي رئيس اللجنة وندعو إلى عقد اجتماع وتشكيل لجنة إشرافية تتكون من أشخاص مناسبين حتى تحصل كل الأسر على نصيبها بالتساوي. • على شوك: قبل أن أكمل سؤالي عن حالة قاطعين بعبارة "من خرج من دارة قل مقداره".. وبدأ الوالد/ عبدالله فضل الذي نزح من منطقة الكود هو وأولاده التسعة بعد أن تدمر منزله من القصف وقال الوالد/ عبدالله: تسألني عن الحال باختصار أقول لك: وضع نازح فقد كل شيء حتى كرامته، فكيف تتوقع أن يكون الحال، فأنا أعيش على شوك، فمنزلي مدمر وأسرتي مشردة ونحن هنا نتحمل أي شيء، مع أن الشباب يبذلون جهوداً كبيرة، إلا أن هناك عشوائية وعدم ترتيب ونقصاً كبيراً في الحاجات الأساسية. وأضاف: أهل الخير لم يقصروا معنا، لكن الدولة ومجالسها المحلية لم تقدم لنا أي دعم ولا حتى سؤال عن الحال. • عن ماذا أحدثك: من قرية المخزن الوالد/ محمد عبدالله أبو الهيل يقول: ماذا أحدثك عن أبين يا ولدي، فقد حل بها الدمار والخراب وأهلكت مزارعها ودمرت مبانيها وشرد وقتل أهلها ونحن اليوم أصبحنا في ضياع ولولا جهود الشباب وأهل الخير لكان وضعنا أصعب. خالد أحمد العامري يقول: ما يحصل في أبين وما لحق بنا تتحمل مسؤوليته الدولة واليوم أبين تئن بلا ذنب ولم يسبق أن رأت مثله من قبل ولا ندري بأي ذنب وبعد ذلك تخلت عنا الدولة بكل سلطاتها وتركتنا نعيش مأساة حقيقية وفقدنا فيها كل شيء. • الشباب مواقف: تقول أمل قاسم ناشطة شبابية: اليوم شباب الساحات تفرغوا لخدمة النازحين في عدن بعد أن تخلت عنهم المجالس المحلية والمنظمات الإنسانية، لكننا بفضل الله وبجهود أهل الخير استطعنا أن نخفف عنهم. وأضافت: هناك مأساة وكارثة إنسانية ستحل بالنازحين إذا لم يتم تدارك الأمر. وهنا تشاطرها الحديث أمل سوقي قائلة: ندعو أهل الخير إلى أن يبذلوا جهوداً أكبر لدعم النازحين نظراً لحالتهم المعيشية والصحية الحرجة وعليهم توفير الغذاء والدواء والملابس بدرجة أساسية وتسلم مباشرة للنازحين دون وساطة، لأن هناك من يتلاعب بالمعونات. • تحسبهم أغنياء من التعفف: أم ناصر لديها تسعة من الأبناء ولا يوجد من يعولهم، كما أنها لم تلتحق بأي مدرسة كبقية النازحين نظراً لغياب محرمها "زوجها" وهي حالياً تسكن عند قريبة لها وقد بلغ بها الحال ما بلغ من الحرج والفقر وهي تناشد أهل الخير دعمها ومساندتها في هذه المحنة. وقالت وهي تبكي: والله لولا أولادي ما خرجت لأسأل الناس" فمن يريد أن ينفس كربتها يتواصل مع شباب الساحة. • عزيز قوم ذل: لم يكن من السهل علينا نسيان تلك الصور المأساوية للنازحين ونحن نطوف بمحلات إقامتهم في مختلف المدارس بعد أن التصقت بهم المعاناة لتصحبهم في حلهم وترحالهم، تركتهم بوجوه شاحبة وعيون غائرة، لا يعرفون طريقاً إلى البهجة والسرور ، وما نملك إلا أن نذرف دموع الحزن والأسى على عزيز قوم ذل.