لا يزال توقع إستراتيجيات السياسة الأمريكية المقبلة في عهد الرئيس الأمريكي المنتخب تستحوذ على اهتمام كبار المحللين الإستراتيجيين . فالولايات المتحدةالأمريكية أصبحت منذ أوائل التسعينات و سقوط الاتحاد السوفيتي و نهاية الحرب الباردة الفاعل الرئيسي و الأساسي على حلبة الصراع الدولي و القطب المؤثر في النظام الدولي و الذي يريد رسم أي إستراتيجية محلية أو إقليمية أو دولية لابد له من وضع الإستراتيجيات الأمريكية في الحسبان و في التخطيط و لذلك لا عجب اناستأثرت الانتخابات الأمريكية و نتائجها معظم الأنظار في أكثر بلدان العالم و لم يقتصر الاهتمام بها على النخب السياسية بل تعداه إلى عوام الناس مما يدل على التأثير الأمريكي في العالم ليس السياسي فقط و لكن الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي و الإعلامي و غيرها من المجالات ، و لا يعد هذا من باب الهزيمة النفسية و تضخيم الأحداث و لكن معرفة الواقع و وصفه بدقة دون مبالغة أو إنقاص هو أولى المراحل لفهم الواقع و تفسيره و من ثم وضع الحلول الواقعية لمواجهته . و الملاحظ أنه في الأيام الأخيرة ازدادت التحليلات التي تصدر عن مراكز الأبحاث الأميركية و التي تسمى خزانات الفكر و كذلك التحليلات التي يخطها مستشارين في إدارة كلينتون و هي آخر إدارة ديمقراطية تحكم أميركا قبل وصول بوش و مكوثه فترتين متعاقبتين ثم مجيء أوباما في يناير القادم . و قد لاحظت الصحفية راندة درغام في صحيفة الحياة أن الاستراتيجيات تنهال على الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما بهدف التأثير في التغيير الذي وعد به كعنوان لسياساته الخارجية و هذه الدعوات تأتي بالذات من الذين عملوا في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون - ويتمنون العمل في إدارة أوباما - فيتقدمون بنصائح بعضها بعيد كل البعد عن التغيير الضروري في السياسة الأميركية الخارجية لا سيما نحو منطقة الشرق الأوسط. بعضهم يحتج على المحاسبة وهم يروجون للمكافأة كأداة من أدوات الترغيب بإعادة صوغ تحالفات إستراتيجية جديدة وفي ذهنهم أولاً إيران وسورية. أما عندما يتعلق الأمر بمعادلة المحاسبة والمكافأة في السودان مثلاً يقلع معظمهم عنها بسرعة ويدعون الى تكبيل المكافأة وتصعيد المحاسبة. و لكن في تفسير ذلك التناقض أخطأت درغام عندما بررت بأن السبب الأساسي هو إسرائيل التي لا مصلحة مباشرة ولا دخل لها بالسودان بقدر ما أن أصابع إخطبوطها ممتدة في إيرانوفلسطين وسورية ولبنان. فدرغام العلمانية الليبرالية عاجزة عن إدراك أن النخبة السياسية الأميركية لها منظور عقدي ضمن رؤيتها المتعددة و المتداخلة لكافة القضايا السياسية و حتى حرصها على المصلحة الإسرائيلية فإن النخبة السياسية تنطلق من مفهوم عقيدي فالعقيدة البروتستانتية و التي تقوم على أن نزول المسيح و قدومه الأخير ليقود النصارى في العالم سيكون بعد إقامة هيكل سليمان و الذي بدوره لا يمكن إقامته إلا بعد عودة اليهود إلى فلسطين و إقامة دولة لهم هناك ....هذه العقيدة متغلغلة داخل الفكر السياسي الأميركي بل إن إقامة وطن لليهود في فلسطين كانت مطلبا بروتستانتيا قبل أن تكون مطلبا يهوديا حيث يعتقد اليهود أن إقامة دولة لليهود تقوم بعد عودة المسيح و لكن الاعتبارات البراجماتية في الفكر اليهودي هي التي جعلتهم يرضخون للرغبات البروتستانتية و اندفاعهم بعد ذلك لتأسيس الدولة اليهودية في فلسطين فضلا عن أن هجرة الإنجليز الأولى إلى أميركا و إقامتهم المستوطنات و الحرب التي نشأت بينهم إثر ذلك بينهم و بين سكان البلاد الأصليين ( الهنود الحمر ) جعلت الحرب اليهودية العربية تثير الشجن لدى الأميركيين و تجعل موقف اليهود أشبه بموقفهم عند هجراتهم الأولى إلى الأرض الأميركية . و من بين الإستراتيجيات التي تنهال على إدارة أوباما ما طرحه اثنان من أخطر الإستراتيجيين السياسيين الأميركيين في الحقب الثلاثة الأخيرة ففي مقال لهما في صحيفة الواشنطون بوست الأميركية كتب برينت سكوكروفت مستشار الأمن القومي للرؤساء جيرالد فورد وجورج بوش الأب و هو الآن رئيس منتدى السياسة الدولية ومجموعة سكوكروفت و معه زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر وهو الآن أمين ومستشار مركز الأبحاث الإستراتيجية والدولية فقد كتبا يحثان أوباما على جعل عملية السلام العربية - الإسرائيلية على رأس اهتماماته و مبرراتهما في ذلك عديدة : منها أنه ربما لم يلق انتخاب أوباما ترحيباً اكبر مما لقيه في الشرق الأوسط فالاهتمام الفوري بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني سوف يساعد في تعزيز حسن النية الذي تولد جراء انتخابه أي أوباما و من بين دوافع الاهتمام بالقضية الفلسطينية هو الإحساس العميق بالظلم الذي تثيره لدى الشعوب العربية و هو إحساس حقيقي وسائد على حد تعبير الكاتبين فزوال الاهتمام بالمشكلة سوف يقوي الإحساس بالظلم و الإهمال في المنطقة ويمكن أن يؤدي إلى اندلاع أعمال عنف أخرى بين الأطراف المتحاربة أو في أماكن مثل لبنان أو غزة تقلب التقدم الذي تحقق وتعيد الأطراف إلى المربع الأول . كذلك من بين المبررات الكثيرة التي ساقها الكاتبان لدفع أوباما إلى جعل قضية الشرق الأوسط أولوية له أن ذلك حل الموعود سوف يحرر الحكومات العربية كي تدعم القيادة الأميركية في تعاملها مع المشكلات الإقليمية كما فعلت قبل غزو العراق وسوف يبدد معظم دعاوى حزب الله وحماس المعتمدة على محنة الفلسطينيين وسوف يؤدي إلى تغيير المناخ السيكولوجي للمنطقة معيداً إيران إلى حالة الدفاع عن النفس وواضعاً حداً لتبجحها. ثم يتطرق الكاتبان بعد ذلك إلى لب الحل المطروح و اللذان يدعوان إدارة أوباما إلى تبنيه و التي أطلقا عليها المعايير الأساسية الواجب توفرها لسلام عادل ودائم و التي تتضمن أربعة عناصر رئيسية: 1 . حدود عام 1967 مع تعديلات ثانوية متبادلة ومتفق عليها . 2 . التعويض بدلا من حق العودة للاجئين الفلسطينيين . 3 . القدس كمقر واقعي لعاصمتين . 4 . دولة فلسطينية منزوعة السلاح . ثم تطرق الكاتبان إلى المعوقات و التي تحول دون تنفيذ تلك الخطة و منها ضعف الإطراف المتفاوضة الذي يحد من قدرتها على التوصل إلى اتفاق من دون مساعدة خارجية و كذلك الانتخابات الإسرائيلية المقررة في فبراير المقبل و هي بالتأكيد عامل تعقيد وكذلك الانقسام الحاد بين فتح وحماس و أيضا تسليم الأراضي إلى حكومة فلسطينية غير قادرة على ضمان امن إسرائيل من الأنشطة الإرهابية و بالرغم من حجم و خطورة هذه المشكلات فإن الكاتبان يعتبران أن حلولها ممكنة و يقترحان على الإدارة أنه يمكن التغلب على هذا الضعف بأن يجهر الرئيس الجديد بالحديث بوضوح وقوة بهذه المبادئ كما يجب عليه أيضا أن يدفع هذه العملية بتصميم وطيد بعدئذ يجب متابعة هذه المبادرة - وليس استباقها - بتعيين ممثل رفيع المستوى لهذه العملية يعتمد على التوجيهات الرئاسية المعلنة فمثل هذه المبادرة سوف يثير دعما فوريا محليا ودوليا على السواء ويوفر تشجيعا كبيرا لدى الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. و عند مقارنة هذه الخطة التي وضعها سكوكروفت و بريجنسكي بالخطط السابقة نجد أنها متفقة معها في شيئين وافق عليها الفلسطينيين و الإسرائيليين -نعني بالفلسطينيين المتعاملين مع المفاوضات و التي هي سلطة عباس - و هي الحدود و نزع السلاح أما مسألة القدس فقد سبق رفضها عرفات في كامب ديفيد عام 2000 و التي ن بعدها اندلعت الانتفاضة الثانية حينها أما مسألة التعويض فتبدو سلطة عباس أقرب لها مع رجوع بعض الفلسطينيين كشيء رمزي. و هكذا تبدو الحلول الأميركية كتكريس للواقع الإسرائيلي في فلسطين و لا فرق حين تجيء إدارة جمهورية أو ديمقراطية في جوهر الحلول إنما الاختلاف يبدو في آليات التنفيذ و أساليبه .