كشفت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي باراك أوباما بشأن مصر وإيران عن تطور لافت في سياسة الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، حيث أظهرت انفتاحاً لافتا تجاه طهران ورغبة أمريكية ملحة في إعادة علاقات متوازنة وفتح صفحة جديدة معها، في الوقت الذي أظهرت انحيازا كاملا للانقلاب العسكري في مصر على حساب مبادئها الديمقراطية التي لطالما بشرت بها، مبدية عداء غير مبررا ورفضا للتيار الإسلامي الصاعد وتوجهاً لمحاصرته وإخراجه من المشهد السياسي وغلق الأبواب أمامه للحيلولة دون صعوده كبديل ديمقراطي أفرزته ثورات الربيع وجاءت به ديمقراطية الصندوق. ماذا قال أوباما في الشأن المصري قال الرئيس أوباما في كلمته التي ألقاها في الأممالمتحدة: "إن الرئيس المصري محمد مرسي انتخب بشكل ديمقراطي، لكن لم يتمكن من الحكم بشكل شامل لكل الأطراف، مضيفاً، بأن الحكومة المؤقتة التي حلت مكانه جاءت استجابة لإرادة ملايين المصريين الذين رأوا أن ثورتهم اتخذت منحى خاطئاً". ما يعني اعترافاً صريحاً من الإدارة الأمريكية بالانقلاب العسكري على حكم الإخوان ومباركتها له، رغم اعتراف اوباما أن الرئيس مرسي انتخب بشكل ديمقراطي، لكن طالما وأن هذه الديمقراطية تأتي بأناس غير مرغوب فيهم أمريكياً فلا مانع من الإطاحة بهم وشطب الديمقراطية ذاتها التي جاءت بهم! وهنا تتكشف بجلاء حقيقة الموقف الأمريكي حيال جماعة الإخوان، حيث ذهبت بعض الدراسات إلى القول بأن الولاياتالمتحدة في عهد أوباما كانت قررت الانفتاح على العالم الإسلامي والتصالح مع شعوب المنطقة وعقد تفاهمات مع قواها ونخبها الجديدة وعقد صفقة رابحة مع جماعة الإخوان بصورة خاصة، يتم بموجبها دعم وصولهم وبقائهم في السلطة مقابل حفاظهم على المصالح الأمريكية في الوطن العربي (أنظر د. عبد الخالق عبدالله/ تغيرات إستراتيجية/ مجلة السياسة الدولة- العدد 193- يوليو 2013). لكن الواقع أثبت خلافه، فمن جهة كان لافتاً أن مرسي اختار الصين وليس أمريكا لتكون أول دولة أجنبية يزورها لتأكيد استقلالية القرار المصري في مرحلة ما بعد الربيع العربي، ومن جهة ثانية، فإن مباركة الإدارة الأمريكية للانقلاب العسكري يدحض وجود تحالف أو صفقات إخوانية مع الجانب الأمريكي، ويبرهن على أن واشنطن ما تزال مسكونة بهاجس الخوف من الإخوان، ما يحرضها لأن تبدي ممانعة إزاء تسلمهم السلطة. وبشأن العلاقات الأمريكيةالإيرانية، فإنه وبعد عقود من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين والحصار الاقتصادي المضروب على إيران من قبل واشنطن وجدت الأخيرة أن مصالحها الإستراتيجية تقضي بتغيير سياستها القديمة والبدء بفتح صفحة جديدة مع طهران. وفي هذا السياق، جرت مؤخراً اتصالات بين الرئيس أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني، وتم تبادل رسائل سرية بينهما، بحسب مصادر صحفية، في الوقت الذي أشاد اوباما بالدور الذي لعبته إيران في التوصل إلى الاتفاق الروسي الأمريكي بشأن الملف الكيماوي السوري، إثر ذلك عقدت لقاءات على مستوى وزراء خارجية البلدين في نيويورك، وتوقع جون كيري وزير الخارجية الأمريكي أن يتم التوصل بسرعة نسبيا إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، وقال كيري: واشنطن قد ترفع عقوبات عن إيران خلال الأشهر المقبلة في حال وافقت طهران على اتخاذ إجراءات سريعة للسماح بالمراقبة الدولية لبرنامجها النووي. أمريكا وحلفائها الإدارة الأمريكية ومن خلال سياسة المراوغة وتبنيها لتوجهات المنطقة في احتواء ثورات الربيع والتصدي لصعود الإسلاميين، أرضت حلفائها في مصر ودول الخليج وبخاصة السعودية حين باركت الانقلاب على رئيس منتخب وأدارت ظهرها للديمقراطية لمجرد أن الرئيس (المنتخب) إخواني وغير مرحب به من قبل دول الإقليم، وبذلك تكون واشنطن قد أعلنت اصطفافها إلى جانب الحلف العربي لإسقاط التيار الإسلامي الإخواني الذي تخشى دوائر صناعة القرار في واشنطن والغرب عموماً أن يغدو الممثل الوحيد لثورات الربيع في وراثة أنظمة الحكم في المنطقة. لكن الإدارة الأمريكية التي طمئنت حلفائها بوقوفها إلى جانبهم والتصدي لرياح التغيير التي حملتها الثورات أفسدت عليهم فرحتهم حين ذهبت لمغازلة الإيرانيين وأبدت لهفتها لفتح علاقات جديدة معهم، في الوقت الذي كان حلفاؤها يتوقون لضربة عسكرية أمريكية تقصم ظهر إيران وتبعد مخاوف صواريخها (النووية) عنهم. وأظهرت واشنطن من خلال خطوتها تلك براغماتية شديدة في اللعب على كافة الاتجاهات ومع مختلف الأطراف وبرهنت على أنها تأخذ بالشمال ما تعطيه باليمين. أضف إلى ذلك، فالرئيس أوباما قال أكثر من مرة أنه اُنتخب لينهي حروب أمريكا الخارجية لا أن يبدأ حرباً جديدة، وبالتالي فإدارة أوباما تبدو غير مستعدة في الوقت الراهن لخوض مواجهة مُكلفة وغير مأمونة العواقب مع إيران نيابة عن حلفائها في الخليج، في ذات الوقت الذي تفضل استثمار مخاوف حلفائها تجاه إيران في مضاعفة مكاسبها السياسية والاقتصادية والعسكرية تماماً كما تفعل في ملف الإرهاب، فحيث لا توجد إيران توجد القاعدة والعكس صحيح، عدا الحالة اليمنية بالطبع التي تظل دوماً استثناء. إيران تعزز مصالحها الموقف الأمريكي الجديد تجاه طهران وما حمله من بوادر انفتاح وتعاطي إيجابي مع الرئيس الإيراني حسن روحاني سيسهم بلا ريب في حلحلة أزمة الملف النووي الإيراني وما يرتبط به من عقوبات، وهذا ما بشر به وزير الخارجية الأمريكي. وعلى ذمة روحاني فإن أوباما قد شاركه الرأي وأنه يعتقد بإمكان إيجاد حل شامل، ولم يوضح ماذا يعني بالحل الشامل، لكن مراقبون اعتبروها كلمة السر في التفاهمات الجديدة بين البلدين، واعتبروا أن الولاياتالمتحدة تعاملت بخفة مع الملف النووي الإيراني، ما يوحي بتفاهمات تحت الطاولة، وأن تلك التفاهمات ربما تتجاوز الملف النووي الإيراني لتشمل الملف السوري وربما العراقي والفلسطيني أيضا. وكانت إيران تعاونت في السابق مع أميركا باعتراف نائب الرئيس الإيراني الأسبق محمد علي أبطحي على إسقاط نظامي «طالبان» في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وإبان الحرب العراقية الإيرانية زودت واشنطنطهران بالسلاح فيما عرف بفضيحة «إيران- كونترا». وتعاونت إيران في مكافحة الإرهاب مع الأميركيين رغم إبقاء واشنطنلطهران على قائمة الدول التي ترعي الإرهاب. كل ذلك يحمل دلالات عميقة على إمكانية تأسيس علاقات طبيعية بين البلدين رغم الإرث التاريخي الثقيل ونزعات الصقور في واشنطنوطهران والدور الإسرائيلي ووعورة وصعوبة وتنوع الملفات المطروحة. سوريا أكبر المستفيدين على الجانب السوري، اعترف الرئيس الأمريكي بالدور الذي لعبته طهران في التوصل إلى صيغة الاتفاق الروسي الأمريكي بشأن الملف الكيماوي السوري، وهو ما يحمل مؤشرات صفقة سياسية بين تلك الأطراف مجتمعة، تقضي بصرف النظر عن الضربة العسكرية الأمريكية لنظام الأسد مقابل وضع ترسانته الكيماوية تحت تصرف الولاياتالمتحدة. بعبارة موجزة، تطمين الجانب الإسرائيلي بانتفاء تهديد الكيماوي السوري وتأكيد ضمان أمن إسرائيل إزاء مثل هذا التهديد المحتمل، سواء من قبل النظام نفسه أو من قبل الجماعات المقاتلة الأخرى. ويبدو أن إيران نجحت في إبعاد مخاوف الضربة الأمريكية عن حليفها الاستراتيجي وضمنت بالتالي بقائه على رأس السلطة لفترة زمنية أطول في ظل عجز أي من الأطراف المتصارعة على حسم نتيجة الصراع على المدى القريب أو المنظور، وهذا ما أكده مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، على هامش قمة آسيا-المحيط الهادئ (أبيك) في مدينة بالي الاندونيسية، حيث قال إن “الحل العسكري للأزمة السورية غير ممكن وغير مقبول، كما أن التحركات المتطرفة غير مقبولة”. وأضاف “نحن مستمرون بالخطوات الجدية مع شركائنا بخصوص أزمة سوريا، ونسعى لعقد مؤتمر جنيف-2 وإجراء محادثات سلام بأسرع وقت ممكن للتوصّل إلى حل”، مشيراً إلى أن “هدفنا المشترك مع لافروف هو وضع نهاية أو حد للحرب في سوريا بطرق دبلوماسية في إطار مؤتمر جنيف”. وأعرب كيري عن رضاه بالسرعة التي انطلقت فيها عملية تدمير الترسانة الكيميائية السورية مشيداً بفضل نظام الأسد في امتثاله لقرار الأممالمتحدة حول تدمير الترسانة، وقال إن “الفضل يعود لنظام الأسد في الامتثال سريعاً كما كان من المفترض أن يفعل”. وبناء عليه، فالمطالب الآن لم تعد تتجه صوب تنحية الأسد وإسقاط نظامه، بل تتجه صوب التفاهم معه والإبقاء عليه شريكاً في السلطة، كما النموذج اليمني، وهو ما سيتم التباحث بشأنه في مؤتمر جنيف2، الذي يجري الإعداد له من قبل الدول التي باتت بحكم الأمر الواقع ممسكة بالملف السوري وهي روسيا وأمريكا وإيران، وهؤلاء سيكون عليهم العمل معاً لتقديم مبادرة سياسية تحفظ ماء وجه الأسد وتعيد تقاسم الحصص بين الشركاء ليس في الكعكة السورية وحسب بل وكعكة المنطقة ككل. وطبقاً لقناة العربية، فقد أشارت تسريبات غير مؤكدة من داخل وخارج دمشق إلى احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية في سوريا وفق اتفاق أميركي - روسي، ما يسمح لبشار الأسد بالبقاء في السلطة لمدة عامين بعد انتهاء ولايته في يوليو 2014، حسب نص الدستور. وذكرت التسريبات أن الاتفاق يحبذ بقاء الأسد لاستكمال مسألتي تفكيك ترسانة سوريا الكيماوية والقضاء على الجماعات المسلحة المتشددة. وعطفاً عليه، يذهب مراقبون إلى احتمال تكاثر الانشقاقات في صفوف الجماعات المقاتلة والجيش الحر، بما قد يؤدي إلى حدوث صدامات فيما بينها. السعودية واليمن على الجانب السعودي كانت تصريحات أوباما المنفتحة على إيران مقلقة للمملكة وزادت من مخاوفها وسائر دول الخليج من أن يكون التقارب الأمريكي- الإيراني على حساب مصالحها، لذا سارعت المملكة للتودد لإيران وعلى أعلى المستويات، حيث وجه ملك السعودية، دعوة رسمية للرئيس الإيراني لأداء مناسك الحج هذا العام على أمل اللقاء به في مكة، في خطوة مفاجأة تشي باستشعار المملكة لمخاطر ذلك التقارب، ما يحفزها لإعادة ترميم علاقاتها بطهران. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل لجأت المملكة للاتصال بالحوثيين، وكلاء إيران في اليمن، في محاولة لفتح مجالات أوسع من العلاقات مع طهران وإعادة ترتيب أوراقها في اليمن ضمن سيناريو احتواء الثورة اليمنية، كما النموذج المصري الذي غدا هدفا مشتركا لكل من الرياضوطهران بمباركة اللاعب الدولي الأكبر الولاياتالمتحدة التي باركت الإطاحة بإخوان مصر فيما تدير بشكل مباشر التسوية السياسية في اليمن بما يضمن عملية نقل السلطة وفق مصالحها ومصالح الجيران الذين ذهبت بهم مخاوفهم من صعود الإخوان حدّ وضع أيديهم في أيدي الحوثيين لتتشابك أيديهم في أيدي الإيرانيين ويقفوا من ثمّ صفاً واحداً في مواجهة الربيع الذي يتصدره الإخوان. بالطبع فقد مثّل ذلك فرصة ذهبية لجماعة الحوثي التي ستكون محل رعاية كل من طهرانوالرياض، ما سيعزز بالتالي من مكانتها سياسيا ويمنحها أوراق ضغط أكثر لإحراز مكاسب إضافية، وفي هذا الصدد أعلنت الجماعة عبر ناطقها الرسمي أنها لن توقع على مخرجات مؤتمر الحوار ما لم يتم مساواة قتلاها وجرحاها في حروب صعده الست بشهداء وجرحى ثورة 11 فبراير. ويحاول الحوثيون إظهار أنفسهم كجماعة وطنية مستقلة لا تخضع للنفوذ الإيراني وليست مستعدة لقبول أي دور في السيناريو السعودي بخصوص اليمن، بينما الواقع خلافه. خطب ودّ الحوثيين لا يعني بالضرورة تخلي المملكة عن حلفائها التقليديين، فيما ستراقب إيران لعبة الحوثي مع جيرانه وتقرر حدود وأبعاد تلك اللعبة. أما الدور الحوثي في السيناريو السعودي(تجاه اليمن) فسيظل متلازماً والدور الذي يؤديه علي صالح، فكلاهما مكمّل للآخر. وتدرك المملكة أهمية بقاء صالح في اليمن ليؤدي الدور المنوط به في زعزعة البلد ونظام هادي، ويبدو أنها مارست ضغوطا في هذا الجانب ونجحت فيها، إذ بحسب صحيفة “الخليج” فقد استبعدت مصادر دبلوماسية غربية في صنعاء أن يبادر مجلس الأمن الدولي باتخاذ إجراءات عقابية ضد صالح من قبيل تخييره بين الاحتفاظ بالحصانة أو مغادرة البلاد، معتبرة أن المبعوث الدولي جمال بن عمر لم يضمن مثل هذا الطرح في تقريره الأخير المقدم لمجلس الأمن في السابع والعشرين من سبتمبر المنصرم رغم ما أشيع عن طلب الرئيس هادي ذلك لاعتبارات قانونية. وعزز ذلك ما أشارت إليه سفيرة بريطانيا جين ماريوت، من أن صالح سيلعب دور مهم جدا في مستقبل اليمن خلال الفترة القادمة من خلال دعمه للانتقال السياسي، ما ينبئ بعدم وجود مصلحة دولية في خروج صالح من اليمن، ناهيك عن خروجه من المشهد السياسي، وهو ما يصبّ في النهاية في خدمة مخططات الإقليم ويتساوق معها. وعودة على بدء، فإن تقارب الولاياتالمتحدة مع إيران وتلاقي مصالح البلدين في أكثر من محطة وتوجس السعودية إزاء ذلك التقارب دفعها في نهاية المطاف لأن تحذو حذو واشنطن فتسارع إلى خطب ودّ الإيرانيين بما في ذلك التقارب مع وكلائهم في اليمن في محاولة لاستنساخ السيناريو المصري وإعادة التيار الإسلامي خطوات إلى الوراء وإن كان ذلك سيؤدي في المقابل للدفع بالتيار الإمامي خطوات إلى الأمام، علاوة على الاحتفاظ بما تبقى من نظام العائلة شريكا في الحكم. كل ذلك لا ضير منه لدى جيران اليمن طالما وهو يعيد اليمنيين إلى بيت الطاعة ويحول دون امتلاك قرارهم السياسي ويبقيهم تحت رحمة المانحين وابتزازهم، فثمة من لا يريد دولة حقيقية في اليمن ولا نظاماً يحترم إرادة الشعب ويلبي تطلعاته، بل يريد إعادة إنتاج النظام السابق وإن بدون علي صالح، لكنه يرى أن ليس بوسعه فعل ذلك دون الاستعانة بالحوثيين، على اعتبار أنهم صاروا يقودون جبهة داخلية قوية في مواجهة النظام والإصلاح، وما يهم الممولين في نهاية المطاف هو ضمان عدم وصول الإسلاميين، كما في مصر إلى سدة الحكم، لأجل ذلك يمكنهم قبول أي بديل عنهم سواء أكانوا إماميين أو عفاشيين أو ليبراليين انتهازيين، لا فرق.