تعهدت الجهات المانحة لليمن في مؤتمرها الأخير بتقديم (6.4) مليار دولار لانعاش الاقتصاد اليمني. وتشكل هذه التعهدات نصف ما تحتاجه اليمن لانعاش اقتصاد أنهكته سنوات طويلة من غياب التخطيط لتنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة، وتعمقت مشكلاته إثر توقف الانتاج بسبب تعنت الرئيس السابق علي عبدالله صالح ورفضة الاستجابة لمطالب الثورة. أوضاع اقتصادية وانسانية مزرية ويقدر الخبراء الاقتصاديون حاجة اليمن على المدى القصير والمتوسط بنحو 14 مليار دولار. ويحتاج اليمن هذه المبالغ من أجل إيجاد حلول للقضايا الأكثر الحاحا، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومنع تردي الأوضاع الأمنية إلى أسوأ مما هي عليه الآن. فقد أدت الاضطرابات السياسية في 2011 إلى تدهور كبير في اقتصاد اليمن الذي يعد اصلا من أفقر دول العالم. وتواصل المنظمات الانسانية والأمم المتحدة دق نواقيس الخطر من سوء الأوضاع الانسانية والاقتصادية. وحذرت منظمات انسانية والأمم المتحدة من تدهور الوضع الانساني في اليمن.. عشرة ملايين يمني يعانون من فقدان الامن الغذائي، أكثر من سبعين في المئة منهم يعانون من "فقدان حاد للامن الغذائي"، وحذرت تقارير من أن 700 ألف طفل يمني قد يموتون بسبب سوء التغذية ان لم يتم تحقيق خطوات جادة في مجال الغذاء. ويرزح اليمن تحت ثقل ضعف البنية التحتية، وتزايد عدد السكان بنسبة 3 في المائة سنويا وهي واحدة من أعلى المعدلات عالميا. ويعاني اليمن نقصاً حاداً في المياه، فأكثر من ثلاثة أرباع الساكن لا يحصلون على مياه الشرب النظيفة مما أدى إلى انتشار الأمراض المنتقلة عبر المياه، ويزيد من حجم المشكلة النضوب المتسارع لمصادر المياه في معظم المدن بسبب تخصيص كميات كبيرة لزراعة القات الذي يحتاج إلى كثير من الماء. وفي مقابل المشكلات الحالية فإن الوضع معرض لانتكاسات أكبر في حال عدم تقديم مساعدات وفق برامج واضحة، فموارد الحكومة المالية نضبت إثر توقف الانتاج والسياحة أثناء الثورة، كما أن انتاج النفط انخفض إلى النصف في السنوات الأخيرة، وتسببت الأزمة الأمنية والتخريب المتعمد لأنابيب النفط إلى انخفاض التصدير، مما اضطر الحكومة إلى الاستيراد بالأسعار الدولية، وبيعه بأسعار تشجيعية منخفضة، وهو ما يشكل عبئاً ضخماً على ميزانيتها السنوية التي بلغ عجزها السنوي نحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفوق هذا فإن ارتفاع نسبة البطالة إلى فوق نصف عدد القادرين عن العمل، وجلهم ممن لا تزيد أعمارهم عن 24 عاما يرمي بهؤلاء في أتون التنظيمات الإرهابية، مما يعقد التوصل إلى حلول للقضايا الأمنية الملحة وانتشار القاعدة في الجنوب، والمشكلات مع الحوثيين في الشمال. تعهدات دون المستوى.. ودون التقليل من الالتفاتة الإقليمية والدولية لمساعدة اليمن فإن التعهدات مازالت دون مستوى الطموح المطلوب، ومما لا شك فيه أن المتابع يلاحظ اهتماما عالميا أكبر بتوفير الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. وتبرز مخاوف في الأ تترجم التعهدات إلى واقع عملي خصوصا في ظل تجربة مؤتمر لندن 2006 الذي لم يف بأكثر من 10 في المائة مما تعهد به المانحون. وبلغة الأرقام فإن التعهدات الجديدة لا تزيد عن (2.2) مليار دولار، فأربعة مليارات سبق وأعلن عنها في نهاية مايو/أيار الماضي في مؤتمر مشابه، واللافت أن (3.25) مليارات هي من المملكة العربية السعودية. ما يعني أن اليمن مازال بحاجة إلى الكثير خصوصا أن المسؤولين اليمنيين دعوا المانحين إلى تقديم 12 مليار دولار، منها مساعدات عاجلة تقدر بنحو (4.7) مليارات دولار حتى فبراير/شباط 2013. وماتزال الفرصة سانحة، للمجتمع الدولي والبلدان التي أخرت تعهداتها بسبب اجراءات تتعلق بضرورة موافقة البرلمانات الوطنية قبل الاعلان عن المبالغ المخصصة، لاثبات جديتها في محاولة مساعدة اليمن للخروج من الأزمة، وربما يشكل مؤتمر أصدقاء اليمن في نيويورك نهاية الشهر الحالي المحطة الأهم لدعم اليمن في ايجاد حلول اقتصادية واجتماعية لمشكلاته المتراكمة. ضرورة تغيير النظرة القديمة... وفيما استغل الرئيس السابق صالح وأعوانه "فزاعة القاعدة" لجمع الأموال من المساعدات الخارجية، تعمل الحكومة الانتقالية بجد من أجل محاربة القاعدة في الجنوب، وبدأت بتغييرات طالت الأجهزة الأمنية والعسكرية، كما تقدمت إلى مؤتمر الرياض للمانحين بتعهدات تفعيل برامج الإصلاح المالي والإداري والسياسي والقضائي، بالتنسيق مع المانحين وإشرافهم، وتدعو إلى بناء شراكة فعالة بين الجانبين. وهو أمر إن تم فسيكون عكس ما كان عليه العمل في الحكومات السابقة التي كانت حريصة على الحصول على المساعدات، ولكنها مترددة في توفير الشفافية والمساءلة والإصلاح التي كان يطالب بها المانحون، مما أدى إلى تراجع حجم المساعدات وفتور المانحين. وانطلاقا من الأوضاع الجديدة فإن على المانحين تغيير نظرتهم لليمن وزيادة حجم المساعدات. لماذا مساعدة اليمن وماهو الدعم المطلوب؟ التفت العالم إلى اليمن مع تواتر الأنباء عن افتتاح معسكرات لتدريب الجهاديين في الجنوب، وزاد الاهتمام بعد احباط عمليات إرهابية جرى الإعداد لها في حضرموت وأبين. وضرب الشعب اليمني مثالا رائعا للعالم في سلمية ثورته، رغم قمع قوات الرئيس صالح ، وتواجد قطع سلاح تفوق عدد السكان بمرات. وفيما كان مانحو اليمن يجتمعون في الرياض، أغارت طائرات أمريكية بدون طيار على مواقع في الجنوب وأوقعت قتلى وجرحى. وباتت اليمن في سلم أولويات الولاياتالمتحدة في سياسة مكافحة الإرهاب منذ سنوات، لكن حجم مساعدات واشنطن لليمن تراجع مقارنة بتلك التي قدمت في عهد صالح. وفي المقابل ازداد عدد الضربات الجوية التي باتت تواجه بانتقادات لاستهداف بعضها المدنيين. وتعبر هذه الضربات وشحة المساعدات المالية عن طريقة تعامل واشنطن مع اليمن، تعامل يثبت الواقع قصوره؛ فاليمن مهم لحركة الملاحة العالمية، واستقرار اليمن يعد مفتاحا في استقرار منطقة الجزيرة العربية والخليج حيث احتياطات النفط الكبيرة، لكن التعامل الأمني يبقى قاصرا في حال عدم تبني سياسات تنموية اقتصادية واجتماعية واضحة تجفف منابع الإرهاب البشرية من الفقراء والأميين. واستطرادا، فإن العالم مطالب بترجمة تعهداته، وزيادة مساعداته المادية لليمن من أجل ضمان الاستقرار في الجزيرة العربية والقرن الإفريقي، ومساعدة الحكومة الجديدة لفرض سيطرتها وهيبتها على كامل المناطق تجنبا لتحول اليمن إلى دولة فاشلة تصدر الإرهاب إلى الخارج. وعلى القادة اليمنيين والعالم ألا يفشلوا في اختبار إعادة بناء اليمن على أسس جديدة، بما يضمن الأمن والاستقرار للبلاد ومحيطها، وعلى بلدان الخليج الانطلاق من أن زيادة حجم المساعدات لليمن في الفترة الحالية يصب في مصالحها الوطنية والقومية، لأن جمر الثورة اليمنية مازال مشتعلا تحت الرماد بعد التوصل إلى نصف حل عبر تبني المبادرة الخليجية. وعلى واشنطن أن تعي أنه ليس بالقذائف وحدها يستتب الأمن ويقطع دابر الإرهاب.