بعد إعادة مشاهدتي لمقابلة صالح الأخيرة على برنامج "لازم نفهم" لم أدري أي الانطباعات التي يتوجب عليها ان توجه ناصية قلمي أثناء الكتابة عنها، هل أنجر خلف مشاعر الإعجاب تاركاً كل نواقيس الخطر التي طرقها الرجل، أم اغوص في أغوارها متحملاً مشقة قراءة ما بين سطورها وململماً شبكة رسائلها و إيعازاتها المترامية بين خلفيات المشهد السياسي المتداخل والمعقد وبين سمات "صالح" المقاتل والمنتصر المُهدَد؟! فماذا أراد ان يقول "صالح" مع هذا المشهد وفي هذا التوقيت خلال مقابلته المثيرة والخطيرة على قناة CBC المصرية، وماهي المضامين التي وضحها والرسائل التي بعثها ومن هي الجهات التي خصها بالرسائل؟! لم تنجح الوقفة التحليلية للأستديو المصري في ترجمة المقابلة إجمالاً بما يوفي بأهمية محتواها وخطورة دلالاتها، كما ان ردود فعلها المحلية كانت مفعمة بمشاعر الإعجاب والمؤازرة لصالح من جهة ومخيمة بالصمت والتهميش من قبل المتربصين به من جهة أخرى! لقد شدتني المقابلة وعززت قناعتي بان "صالح" يظل شخصية مختلفة ولغزاً لا يفهمه الأغبياء والكارهون، وبانه كما يجيد الرقص على رؤوس الثعابين يحترف أيضاً عزفه الخاص بأوتار خطابه ثلاثي الطبقات والإيقاع، فانت تقف معه امام خطاب ينسكب من ثنايا شخصيته الخاصة ليبهرك بعفوية وتلقائية طرحه التي تمكنه من مخاطبة الجماهير في القرى النائية، وكما يرهقك التحليل مع رصد دهاءه في توجيه مرجعياته التأصيلية للأحداث، والذي يبعث من خلالها روابط رؤيته العميقة إلى النخب المثقفة والإعلامية، ولتلتقط أخيراً تناغم خطابه الواقعي بين صلابة مبادئه الوطنية ومرونة مواقفه السياسية التي يراسل بها خصومه السياسيين والحلفاء محلياً ودولياً. بمعنى اننا امام خطاب ذو بنية مختلفة، قد تبدو للسطحيين والمستهترين بانها ركيكة اللغة، عشوائية المضامين ومتناقضة التوجيه، غيرانها تبقى في ضوء نظريات الاتصال بنية متكاملة لخطاب ذو كفاءة سياسية عالية، فانت امام خطاب قيادي جماهيري نابع من تلقائية ودهاء شخصية صالح البسيطة المخضرمة ومتوائم مع خصائص المجتمع ومستويات الوعي العام اليمني، وبما يشكل في مجمله خطاب بارع سياسياً في التواصل الجماهيري الإعلامي والاتصال السياسي الموجِه. (ولعل هذا أهم ما يفسر كاريزما الرجل وفشل النخب السياسية المعارضة في خلق خطاب كارزمي يجاري نفوذ وتأثير خطابات صالح الجماهيرية). في هذه المقابلة ظهر صالح بصورة الحاكم العربي المنتصر على مؤامرة دولية ما، وسياسي لازال يتمتع بروح التحدي والقرار، متحدثاً بلغه قومية كحاكم عربي محنك عاصر خلفيات الواقع الدولي والازمة أكثر من كونه رئيس يمني سابق، منتهجاً على غير العادة أسلوب المُرافعة في توضيح مواقفه، حيث كانت جميع احكامه ورسائله في هذه المقابلة غير ملقية على عواهنها بل ارساها على رؤية عميقة لحيثيات وخلفيات الواقع الدولي التأمري والمعادلة الإقليمية المتداخلة للربيع العربي، كما كان حاداً في الكشف عن الدور الأمريكي وفي تفنيد ثورية "الربيع العربي" الذي اسماه "الربيع الصهيوني" موضحاً في ظل هذه الرؤية ما يدور في اليمن من توجهات أمريكية وبريطانية بالتعاون مع تحركات ومكائد قوى الإخوان الداخلية المنصاعة للخارج في سبيل إنجاح ما اسماه بمشروع الربيع الصهيوني، ومنبهاً القوى الإقليمية لخطورة التوجهات الامريكية في المشهد اليمني ولما يجري دولياً في إطار المعادلة الإقليمية المحيطة في اعقاب ثورات "الربيع العربي". لقد كانت المقابلة الأقوى والأكثر جدية في خطابات صالح منذ فترة طويلة والتي جمع فيها بين عقلانيته في التحذير وجديته في التحدي، وقد بدا واضحاً من خلال إطلاقها عبر منبر فضائي مصري ذائع المدى، بأن الرجل ارد ان يعلن بان اليمن يتعرض لموجة جديدة من مؤامرة الربيع العربي تتمثل بالانقلاب السافر على مرجعيات المرحلة الانتقالية وبالتدخل الأمريكي البريطاني المباشر من خلال الضغوط والتآمر المحلي المشترك المتزامن مع حملة إعلامية معادية تسعى إلى استثمار التداخل المعقد للمشهد اليمني في تعكير وتشوية علاقاته الإقليمية مع دول الجوار، محذراً اليمنيين ومنبهاً الجميع بان هذه المؤامرة تسعى صراحة إلى تصفيته شخصياً وإعدام حزبه "المؤتمر" في سبيل إعادة صياغة اليمن سياسياً وبصورة كليه على أُسس المخطط الأمريكي للربيع الصهيوني. أراد صالح أن يزيح الكثير من ضبابية المشهد السياسي اليمني امام الراي العام المحلي والنظام الإقليمي العربي "لاسيما الخليجي والمصري" وبان يوضح مواقفه ومواقف حزبه للداخل والخارج، وكاشفاً عن عدد من خلفيات المؤامرة الجديدة الجارية في اليمن طارقاً نواقيس الخطر التي تعبر عن مدى جدية تحدياتها المحلية والدولية على الشعب اليمني والدولة اليمنية ودول الإقليم، مرسلاً خلالها عدد من التوضيحات والتنبيهات الهامة للنظام اليمني وللنظام الإقليمي العربي. وحتى استطيع ان اوزان بين هامش هذا المقال وبين مضامين تلك المقابلة فإنني مضطر لكتابة اهم النقاط التي أراد "صالح" ان يرسلها ويفهمها للرأي العام المحلي والاقليم في هذه المقابلة، وذلك على النحو التالي: 1 الربيع العربي اخذل الجماهير العربية وظهرت حقيقته كمخطط صهيوني يستهدف الدول العربية في إطار مخططات أمريكية لتدمير الأمة العربية ونشر الفوضى وإقرار مشاريع زائفة تهدف إلى تجزئة الدول واستهداف الجيوش وتمزيق الشعوب. 2 ان جماعة الإخوان تاريخياً صنيعة أمريكية وتمثل أداة أساسية في سياساتها وفي هذا المخطط الصهيوني على المستوى اليمني والعربي. 3 أكد على وجود موجة تآمرية جديدة للربيع الصهيوني في اليمن تقودها السياسة الامريكية والبريطانية وحلفائهم في النظام الرسمي وجماعة الاخوان، متمثلة بالانقلاب على المرجعية السياسية (المبادرة واتفاقية الشراكة). 4 أكد بان حزب المؤتمر يتعرض لمخطط تصفية حقيقي يبدأ بضغوط دولية لإخراجه من اليمن وينتهي بخطوات محلية بتجميد ارصدة الحزب في البنوك، موحياً بان المشكلة ليست فقط في شخصه بل برغبة حقيقية لتصفيته ومن ثم تصفية حزب المؤتمر من المشهد السياسي وإعادة بنية النظام اليمني وفق لمخططات الربيع الصهيوني. 5 تصدى للحملة الإعلامية التي تستهدف علاقاته مع الإقليم من خلال إماطة اللثام حول خلفيات التعقيدات السياسية التي أعقبت توسع الظاهرة الحوثية، موضحاً للقوى الإقليمية الابعاد والأطراف المسؤولة عن اجتياح الحوثي لعمران "حماقات حميد الأحمر" ووصولهم إلى العاصمة "رئيس الدولة ووزير دفاعه". 6 ارسل رسائل تنبيهيه للمملكة السعودية ومصر بعدم الإنطلاء بالحملة الإعلامية الامريكية الإخوانية المستثمرة لتعقيدات المشهد اليمني المتداخل مع الحركة الحوثية محذراً من مغبة الانشغال بهذه المكائد والوصول إلى نتائج عكسية لما يحاك، كما حذرهم من التورط في احتواء مراكز إخوانية خبيثة والسقوط في الموجة الجديدة للربيع الصهيوني، وبما يتنافى مع وعيهم وقراراتهم السابقة باعتبار جماعة الإخوان تنظيماً ارهابياً. 7 دعى اليمنيين باستيعاب المؤامرة وباستشعار المسؤولية وبان لا ينشغلوا بتعقيدات والاعيب تعتيم المشهد السياسي اليمني وبان يركزوا على ثقافة "الحل" المتمثلة بضرورة الوصول إلى الانتخابات العامة من خلال شرعية جديدة. 8 أعتبر ان التجربة المصرية مع الربيع الصهيوني كانت هي الشمعة المضيئة الوحيدة التي استطاعت ان تحافظ على بلادها. وأخيراً لقد حملت المقابلة الكثير من الدلالات وأشعر بانني قد أطلت المقال وقصرت القول ولكنها مقابلة بعنوان ومضمون "لازم نفهم"..! *من صفحة الكاتب بالفيس بوك