راودني البارحة شعور ما استطعت كتمانه.. شعرت أننا أيتام، كلنا في اليمن أيتام.. وهذا ما أظنكم ستوافقونني فيه، بعد معرفة امتيازات الأيتام في غير بلاد، وكيف أنهم مرعيون على الآخر، غذاءً وكساءً ودواءً وتعليماً وتوظيفاً، وتسكيناً، بل وحتى السيارة.. تخصص لكل يتيم منحة مالية ليشتري واحدة، ويصير "حاله حال غيره"، لا ينقصه شيء، حتى حنان الأب أو الأم أو حنان كليهما، يتم تعويضه لليتيم بحنان أكبر وأعم، حنان المجتمع بأسره. قد لا يصدق القارئ الخبر التالي، لكنه حقيقة: ففي المملكة العربية السعودية الجارة الشقيقة، صدر مرسوم ملكي البارحة أو قبل البارحة، قضى بمنح 20 ألف ريال سعودي «مليون ريال يمني» لكل يتيم في المملكة!!.. الخبر لا يسبق انتخابات محلية في السعودية، ولا يدخل ضمن فرقعات ووعود حملة دعائية، بل هو خبر حقيقي جاء في وقت اعتيادي، ونشرته معظم وسائل الإعلام العربية. يقول الخبر إن وزارة الشئون الاجتماعية في المملكة العربية السعودية "قررت صرف حوالي 20 ألف ريال إعانات مالية كمنح للأيتام الذين لم تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً، المنتسبين إلى المدارس والكليات والجامعات الذين قضوا عاما دراسيا واحدا على الأقل بالإضافة إلى الموظفين الحاليين في المؤسسات والشركات الخاصة وموظفي القطاع الحكومي المنتظمين في أعمالهم". أما التفاصيل، فهي وفقاً للمصدر المسئول في الوزارة السعودية: "إن القرار يقضي بصرف 20 ألف ريال لمساعدة الأيتام، وخاصة الذين يحملون رخصاً سارية المفعول مؤمناً عليها والموظفين الذين التحقوا بالمؤسسات التعليمية المختلفة والموظفين على رأس العمل، وذلك لمساعدتهم في شراء السيارات الخاصة بهم".. وأكد المصدر نفسه أنه "يجرى حالياً الإعداد لحصر الأيتام المستحقين لهذه المنحة"، مُنوها "برعاية ولاة الأمر لهذه الفئة لتوفير حياة كريمة لهم". ربما بدا الخبر غريباً، إنما لنا نحن في اليمن فقط، فالرعاية السائدة في دول الجوار للأيتام تثير غيرة وحنق من كان محاطاً بأبويه وأبوي جديه أيضاً!!. وهي رعاية قد تكون مرتبطة بثروات هذا البلد أو ذاك، لكنه ارتباط وظيفي، يتحكم في مدى هذه الرعاية، وشموليتها، وتفاوت حجمها ومجالاتها بحسب تفاوت ثروات دول الجوار، إنما هذا التفاوت لا ينفي وجود رعاية يفتقد الأيتام وغير الأيتام في بلادنا حدها الأدنى!!. قد يقول قائل: وما نفع هذه الرعاية للمحروم من حنان الأب أو الأم أو كليهما؟ وشخصياً، بت أشك في مسألة حرمان الحنان هذه، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، والدخل المحدود، والنسل المحدود أو اللا محدود، والحال المعوج، الذي لا يلتزم فيه الغالبية بالنظام والحدود، فيضيع فيه البسيط ويتكبد تبعاته من هضم للحقوق، وأعباء مادية إضافية لاستحقاق الحقوق، تجعل ظهره مهدوداً، ومزاجه منكوداً، وسلاه منشوداً، وتبعاً السبيل إلى فيض حنانه مسدوداً!! والحق، أن الحنان لا يشترط لمن له صلة دم مباشرة، قدر ما يفترض صلة إنسانية واجبة، وصلة مسئولية حاضرة، ونزعة رحمة صاحية، ومخافة من الله صادقة، ليكون الحنان شلالات دافقة بقوة تفوق شلالات "نياغرا" الكندية الأضخم عالمياً في كمية المياه، وشلالات "إيجواسو" الأرجنتينية الأكبر حجماً، وشلالات "سالتو" الفنزويلية الأكبر ارتفاعاً، وشلالات "دهتيان" بين الصين وفيتنام، الأطول عبوراً للحدود، وشلالات "فيكتوريا" في زامبيا الأكثر جمالاً. صحيح لدينا جمعية الإصلاح الاجتماعي الخيرية، ودار الرحمة لليتيمات، وبعض جمعيات محلية أخرى ناشطة في رعاية وكفالة الأيتام، وبالطبع لا يغيب عن البال رعاية رئيس الجمهورية لمهرجان اليتيم الذي تقيمه جمعية الإصلاح كل عامين، وتبرعه ب(500) مليون ريال لبناء مركز رعاية وتأهيل الأيتام في صنعاء وأعلنه التوجيه بتخصيص مليار ريال من ميزانية الدولة لتعميم فكرة المركز في المحافظات، إنما كل هذا لا يكفي. لا يكفي لأنه لا توجد في بلادنا حقوق لليتيم مكفولة في القوانين المحلية، كالإعفاء التام من رسوم العلاج، ومن رسوم التعليم العام والدراسة الجامعية، وكإعطائه أولوية التوظيف، وغيرها من الحقوق المكفولة لليتيم بقوانين نافذة في غير بلاد من بلدان الجوار، الغنية منها والأقل غناً، وعلى نحو يشيع فيها الحنان ليشمل كافة الرعية، الأيتام منهم وغير الأيتام، الذين حين ينشأون في بيئة الراعي على الرعية، والغني على الفقير، لا بد أن يكونوا آباءً وأمهات لكل يتيم. كما أن دار رعاية الأيتام القديمة ومركز رعاية الأيتام ودور الجمعيات المدنية القليلة والنادرة محلياً، لا يمكنها مهما أخلصت النية استيعاب كل الأيتام في بلادنا ولو استيعاباً شكلياً حتى، لأن أعداد الأيتام في بلادنا أكبر من إمكاناتها عشرات الأضعاف، وقد لا تكون هناك إحصاءات رسمية دقيقة لعدد الأيتام، لكن غيابها دليل على إهمالهم، ولا ينفي أن أغلبية اليمنيين هم أيتام، إما بوفاة أحد الوالدين أو كليهما، وإما بطلاق الوالدين، وإما باغتراب الوالد للعمل، أو إعاقته. المهم أن الحرمان حاصل، والسواد الأعظم عاناه أو يعانيه في بلادنا، والدليل يتحقق بمراجعة سريعة لبيانات مسح ميزانية الأسرة، ومعرفة بنود إنفاق الأسرة اليمنية، التي لا تتعدى الكفاف من القوت والقات والدواء والكساء، والتعليم بنسب مضطربة ومتفاوتة، وليس بينها في محصلة الأغلبية بند مدخرات، ولا مشتريات رفاهية، ولا ممتلكات (سكن)، ولا سيارة، ولا سفريات استجمام، ولا أي شيء عدا العيش لمجرد العيش في أدنى مستويات المعيشة. كما أن سجلات التوثيق العقاري والترقيم المروري والهيكل الوظيفي، تبين بجلاء نسبة المالكين إلى غير المالكين، أراضٍ وعقارات وسيارات وأعمال، وكيف أن النسبة تجسد في بلادنا، أنموذجاً حياً وعملياً محلياً مصغراً، من جوهر النظام العالمي الجديد «العولمة» وتسخيره 80% من البشرية هم الأفقر دخلاً وملكية وتقنية، لخدمة 20% الباقية من البشرية، هم الأكثر دخلاً وملكية وتقنية. الحال إذاً، أن تكافؤ الفرص المنصوص عليه في الدستور والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، لا ينبغي أن يظل نصاً مكتوباً وشعاراً منطوقاً، ولا بد له من ترجمة عملية له في واقع الحياة الاجتماعية المحلية.. يتعين على الحكومة، ووزارة الشئون الاجتماعية أن تعمد لتحقيق هذه المساواة، بدعم المحرومين، للتحرر من حرمانهم وإشباعه، بطريقة أو بأخرى، ليسود الرضا والسلام الاجتماعي. أما إن ظل الحال كما هو عليه اليوم، الأغنياء يزدادون غنىً، والفقراء يزدادون فقراً، وظلت الرعاية العامة تزداد عجزاً وتقزماً وتوارياً، فإن المجتمع المحلي سيغدو رغم أنفه مجتمعاً يتيماً، ليس بالضرورة لفقدان الرعاية الأبوية، بل أيضاً ولفقدان الرعاية الحكومية، التي يمكن أن يأخذ حضورها أكثر من شكل عملي، ليس مثالياً للغاية، ولا كلياً بالضرورة، إنما على الأقل شكل مبادرات فعلية، على شاكلة المبادرة السعودية، مثلاً.