على مدى التاريخ المعروف أثبتت نظرية النموذج السياسي الواحد أنها فاشلة لسبب بسيط جداً يتعلق بكونها تنطوي على إلغاء التنوع الطبيعي في الأفكار والخصوصيات والثقافات. هذه النظرية لاتتوقف على ركام كتاباتها التاريخية الكبيرة والواسعة بل أيضاً في سلسلة النماذج التي قدمت على درب التجارب العملية والتي أفضت في نهاية المطاف إلى طريق مسدود..ويمكننا في هذا الصدد أن نلحظ اللقاء الموضوعي بين نظرية النموذج الواحد والمركزيات التاريخية الخائبة التي كانت سمة النظام الاستعماري أثناء مجد التوسعات الاستعمارية لبعض البلدان الأوروبية التي تاق منظروها إلى تقسيم العالم إلى برابرة متخلفين واقحام أوروبيين متحضرين فكانت النتيجة ما رأيناه من استباحات وتدمير وتقتيل للملايين.. واستيراد ملايين الرقيق السود للفلاحة في القارة الأمريكية بعد أن قام الوافد الأوروبي بإبادة منظمة لملايين الهنود الحمر. تلك السمات الوحشية للنزعة المركزية تواصلت لاحقاً وأفضت إلى الأوهام العرقية النازية التي كلفت البشرية ملايين أخرى بالإضافة إلى الدمار الشامل للقارة العجوز (أوروبا).. ومع انتشار الأفكار الاشتراكية والقومية في أوربا والعالم بدأت الطوباويات اليسارية تكتسي طابعاً براغماتياً ونزعة مركزية جديدة تاق لها عرابو الأمميات الاشتراكية ممن حاولوا إعادة إنتاج المتاهة بإلغاء خصوصيات الآخرين والثقافية والمجتمعية وتعميم خطاب واحد ونموذج أوحد أوصل في نهاية المطاف إلى استالينية الحزب الشيوعي السوفيتي وأزعج أقرب الحلفاء بمن فيهم الصين الشعبية التي كانت تمثل حالة الفتوة المتجددة للتيار الاشتراكي الأكثر استغراقاً في الخطاب الراديكالي. «ماوتسي تونغ» ببصيرته النافذة وشاعريته الملهمة حاول تدوير المعادلة باتجاه تكريس نفسه وحزبه ولكن بلغة أكثر نعومة حيث دافع عن التعددية الداخلية في الحزب الواحد وهو يرفع شعار «دع مائة زهرة تتفتح.. دع مائة مدرسة فكرية تتبارى» ولسنا هنا بصدد مناقشة مصداقية أو ترجمة مثل هذا الشعار على الواقع بل يكفي الاشارة إلى أن القادة الأكثر قرباً من المعرفة والذائقة يقرون بذلك حتى وإن مارسوا عكس ذلك. ولعل هذه المرونة في التنظير تجعلنا نعرف خصوصية الاشتراكية الصينية بوصفها اشتراكية لاتمسك بالنزعة المدرسية إلى أبد الأبدين. وهذا ماحدث بالضبط حينما بدأت الصين في ماسمى حينها بسياسة (العصرنات الأربع) والتي انطوت على انفتاح مدروس مع المناهج الاقتصادية لبعض البلدان الرأسمالية وخاصة اليابان.. الأمر الذي مهد الطريق لتحولات لاحقة مداها(ليس مهماً مالون الهرة بل المهم أن تمسك بالفأر). إن هذه المرونة التجويزية لتجاور المناهج هو مايفسر حيوية الاقتصاد الصيني وقدرته على الصمود أمام طوفان العولمة المركزية للرأسمالية الحديثة الأكثر شراسة ووضوحاً في تعميمها للمنهج الواحد.