هكذا عرف بين الناس بهذه الكنية، ولم يعد أحد يهتم بكنية الشيخ من أين جاءت، لكن هناك من يدفعه حب المعرفة أو الفضول أن يستقصي الأمر في البحث عن البدايات كيف نشأت فإن لم يستطع أن يتوصل إلى معرفة النشأة على حقيقتها، أخذ يضيف إلى ماسمعه من روايات متعددة، روايات من صنع خياله، ثم لايجد غضاضة أو حرجاً في أن يحدث الآخرين حديثاً مسهباً عن أحداث ووقائع بصورة قاطعة كمالو كان قد عاشها هو نفسه واطلع على أسرار وتفاصيل كل مايرويه للآخرين، قال أحد هؤلاء الرواة: لقد كني الشيخ «مفجوع» بهذه «الكنية» لأنه «مفجوع» فعلاً من عدة وجوه..فقد كان شرهاً للطعام إلى حد أنه كان يغلق على نفسه باب صالة الطعام المخصصة له، حتى لايشاركه أحد أبنائه أو بناته أو زوجه وجبة الطعام..أما إذا علم بقدوم ضيف من أصدقائه أو من أقاربه، فقد كانت تعتريه الحمى ويصاب بالرعشة وارتجاف المفاصل، «الخضلة» في اليدين، فيأمر برفع كل الأطباق وكل مايتعلق بشئون السفرة، فإذا مادخل عليه الزوار في أي وقت من الأوقات المعتادة من تلك التي يقدم فيها الناس وجباتهم للإفطار أو الغداء أو العشاء، وجدوه يرتجف فوق سريره، فيطلبون له الشفاء العاجل وينصرفون متعجبين من حظهم السيء في أن يجدوا الرجل معتلاً على ذلك النحو، وقد كان بالأمس فقط يهاتفهم ويلح عليهم أن يشاركوه وجبة الغداء وهو في كامل صحته البدنية والنفسية ثم يتعجبون أشد العجب في ألا تكون تلك هي المرة الأولى التي يدعوهم فيها لتناول وجبة الغداء بمعيته فلا يجدونه إلا متوعكاً تعتريه الحمى والرعشة والاكتئاب لمرات عديدة وفي أوقات متباعدة ومع الوقت صارت تلك عادته مع كل الذين يتورط في دعوتهم لمشاركته في تناول الطعام فأطلقوا عليه كنية «الشيخ مفجوع» أي ذلك الشيخ الذي لايسمح ولايرغب أن يشاركه أحد طعامه!! ومع ذلك فقد كان الشيخ مفجوع يفرح ويبتهج إذا وجد من يطريه أو إذا قيل فيه من الخير ماليس فيه..ويتبرم ويسخط إذا قيل فيه من الشر ماهو فيه.. وعلى مدى حقب كثيرة استطاعت الأيام والسنون أن تنتزع من الشيخ مفجوع رغبته الشرهة للطعام فلم يعد جسمه ينتفع بالشحوم واللحوم التي كان يلتهمها بشهية مفرطة، بل صارت هذه المأكولات تشكل عبئاً خطيراً يهدد حياته إذا استمر في تناولها، فقد كانت هي السبب في تكدس شحوم ثقيلة فوق جسمه وصار كرشه يحجب عنه رؤيته لفخذيه ويمنع يديه من الوصول إلى أماكن حساسة وحيوية من جسمه.. ليس ذلك وحسب لكنه صار يعاني من ارتفاع ضغط الدم وارتفاع الكوليسترول، وتصلب الشرايين وأوجاع في المفاصل وقصور في كفاءة القلب..قال له الأطباء الذين يعرفون قصته مع الطعام: كنت بحاجة إلى من يجبرك أن تتخلى عن ثلاثة أرباع تلك السفرة التي كانت تقدم لك وتكتفي بالربع فقط، والربع كثير ولكن من كان يستطيع فعل ذلك ثلاثين عاماً؟ ولو كنت قد وجدت من يوقف شهيتك المفرطة للطعام عند حدود حاجة الجسم الضرورية، لكان قد أهدى لك عمراً جديداً وصحة لامثيل لها من حيث الجمال والكمال..وعندما أغلقت شهية الشيخ للطعام، اتجهت شهيته لفتح أبواب أخرى لتعظيم الذات، فالتف حوله المطبلون والمزمرون وكل من يأنس في نفسه حب النفاق وكل من يملك القدرة على التزلف ونفخ «الأجواق». أقام الموائد واستقبل الضيوف، فأغدقوا عليه المديح وشبهوه بحاتم الطائي في الكرم وبمعدي كرب في الشجاعة وبالأحنف بن قيس في الحلم وكتم الغيظ، وبأبي موسى الأشعري في الورع والتقى. لكن جهله وحمقه فضحه أمام ضيوفه فضيحة منكرة عندما قام بهم خطيباً: «أقدر مشاعركم الفياضة تجاه مانحن عليه من فضل وتفضل، كما أقدر مشاعركم الفياضة تجاه بطونكم، فليس عيب أن يكون ولاء الإنسان لبطنه وإنما الخطأ هو أن ينسى الإنسان فضل من يملأ بطنه فلا يلبث أن يذمه في ظهره بعد أن مدحه في وجهه، وماأظن أكثركم إلا من هذا الصنف مع أنكم ترونني لم أقصر في حق بطونكم، فلم تؤذونني بألسنتكم بمجرد مغادرتكم موائدي العامرة.? إن بعضكم يأخذ عليَّ أنني فصلتهم عن بعض الضيوف المحترمين ويتساءلون لماذا هذه التفرقة؟ الاجابة ببساطة: لأن بعضكم طبعهم «شمات» لايتقيدون بعرف ولابحياء ولايلتزمون بآداب الطعام، يمد أحدهم يده للمكان البعيد ويرفع «لقمة» إلى حلقه تساوي عشر لقيمات من لقيمات الآخرين!! فلم تفعلون ذلك؟ فالأكل كثير والوقت كاف والطعام وافر والحمد لله..فلماذا أنتم مفجوعون هل تريدون أن تعرفوا عاقبة أن يكون الإنسان مفجوعاً على الأكل؟ انظروا إلى جسمي.