عندما بدأت السماء ترسل حبات مائها رويداً رويداً على مدينة المكلا في ليلة الخميس الماضية ، وأردفتها بانهمارات كثيفة توحي بما تكتنزه السماء من سحب ممطرة امتدت بآثارها إلى كل بقاع حضرموت ، ساحلاً ووادياً ، بحاراً وصحراءَ . في تلك اللحظة أدركت مدى خيبتي في التوسَّل والاستعداد لمواجهة المستجدات التي تواكب مثل هذه الحالات الطبيعية ، إذ أن هطول الامطار بهذه الكثافة والقوة لابد أن يعقبه انقاطاعات كبيرة لتموينات المياه والطاقة الكهربائية ، ولم يدر بخلدي أن الأمر سيصير إلى مأساة عصية على الجميع ، وكعادة ثنائية (المياه والكهرباء) في خذلانها للمواطنين في أيام الصحو فما بالنا في تلك الليلة الملبدة بالسحب والغيوم والمطر النازف على الأرض ومن يقطنها. ليلة لم تصمد هذه الثنائية كثيراً ، وكنّا نمني النفس بالتأسي بصمودهما إلى أن يبزغ فجر الجمعة ، ولكن ، ذهبت الأمنيات هباء مع زخات المطر وهي تدك النوافذ والبوابات والسطوح ، لتغدو الحالة غاية في البؤس والمعاناة ، فالماء ذهب ولم يعد ، والكهرباء قالت حدي ثلاث ساعات مقاومة وقد خارت قواي ، فالمعذرة. في ثوان وجدنا أنفسنا وقد أظلمت جدران المنازل واسودت الأزقة ، ولأن هناك بقايا مياه في الخزانات والأوعية فقد أجلنا البت في الانقطاع إلى حين ، فقد جثمت مشكلة النور والضياء في التو واللحظة ولم نعد بمنأى عن تداعياتها الكثيرة ، فكان لابد من مواجهة الموقف ، بحثنا عن (فانوس) فلم نجد، فالحداثة ألغت دوره ، تحسسنا الأرفف والزوايا لعلنا نجد شمعة ، فتذكرت أننا قاطعناها منذ زمن بعيد . ما العمل؟! : جثوت على ركبتي والأطفال من حولي في حركة متزايدة وصراخ يصعد شيئاً فشيئاً ، الكل يطالب بشمعة واحدة فقط تعيد لنا النور والضوء ولكن هيهات! تدثرت بإزاري وخرجت إلى الشارع بحثاً عن شمعة ، يا الله.. الكل في الشارع يبحث عن هذه المهملة ، لقد وثقنا كثيراً في الكهرباء، حدثت نفسي ، طردت هذا الهاجس ، وتنقلت بين المحلات القليلة التي بقيت مفتوحة ، الكل يؤكد عدم توفرها لديه. عدت ادراجي إلى المنزل ، وفي الطريق تذكرت صندوق أمي الخشبي العتيد الذي تضعه بجوار رأسها قبل أن تغادرنا إلى دار البقاء يرحمها الله رحمة واسعة ، تذكرت ذلك الصندوق ، وتردد صدى صوتها في داخلي يهتف : ألم أقل لك لابد من الاعتماد على النفس لمواجهة أي موقف طارىء؟ ففي هذا الصندوق تجد كل شيء من إبرة الخياطة حتى شمعة الضوء؟.. رددت بصمت : ولكن يا أمي أين الصندوق؟! لقد هرعت مسرعاً إلى المنزل ، دلفت إلى البوابة مستأنساً بجدرانه ، حتى بلغت (الخزانة) التي ترمى فيها المهملات والأشياء العتيدة .. تحسست خطواتي كي لا أتعثر ، ظللت أتلمس الأشياء وأزيحها عن يدي ، وبعد تعب شديد وصبر جمّ ، وقعت يدي عليه .. صرخت فرحاً : وجدت الصندوق ، وجدت الصندوق .. قلت لأطفالي : لقد ألقينا القبض على الشمعة...فعاد النور والضوء، فطلبت من الجميع الفاتحة على روح أمي.. وكفى.