هناك حقيقة في الاستراتيجيات العسكرية تقول: إن النصر في الحروب لا يقاس بالخسائر، وإنما يقاس بتحقيق الأهداف.. وقياساً على محددات هذه الحقيقة ومعطيات الواقع الراهن، فإن الحرب الاسرائيلية الغادرة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لم تحقق نصراً يذكر، نتاج فشل أهدافها واستبسال وصمود المقاومة الفلسطينية وتداعيات هذه الحرب ومخرجاتها وانعكاساتها على كافة الصعد الفلسطينية والعربية والإسلامية والدولية. ففي مقدمة أجندة هذه الأهداف الاسرائيلية يأتي الهدف العسكري والذي يصب في مجرى إعادة الاعتبار للجيش الاسرائيلي الذي تفاخر به اسرائيل بأنه «الجيش الذي لا يقهر».. ونقول بإعادة الاعتبار بعد هزيمته الساحقة في جنوبلبنان في يوليو 2006م.. هذا أولاً وثانياً الترويج التجاري العسكري لترسانة الحرب الاسرائيلية التي كسدت نتاج هزيمتها في لبنان ونتاج الأزمة المالية العالمية. والهدف الثاني، وهو أمني وعسكري في آن واحد على اعتبار أن الحروب الحديثة تعتبر شكلاً من أشكال الدبلوماسية، وينقسم بدوره إلى شقين أولهما: القضاء على منصات ومخزون الصواريخ التي تطلقها المقاومة الفلسطينية على اسرائيل، والشق الأكثر خطورة هو سحق «حماس» نهائياً، مستغلة ما تعتقده أي اسرائيل تخلي فصائل المقاومة الأخرى عن (حماس) لينفرد بها الجيش الاسرائيلي ويقضي عليها.. أما الهدف الثالث وهو سياسي فتقصد من ورائه اسرائيل تعميق الانقسام الفلسطيني وبالتالي القضاء على وحدة فصائل المقاومة الفلسطينية ووحدة الصف الفلسطيني وإضعافه مما يتيح لها العودة إلى ما تعتقده بمفاوضات سلام جدية مع الفلسطينيين في المستقبل. والهدف السياسي الثالث هو تعميق أخدود الخلافات والانقسامات (عوامل التجاذب) العربية العربية وإفراغ مبادرة السلام واخضاعها للشروط الاسرائيلية الأمريكية لتنفرد بالاجهاز على القضية الفلسطينية بالكامل وتعطي للشعب الفلسطيني (الحكم الذاتي) وفق اتفاقية (أوسلو) عام 1993م. أما الهدف الداخلي المتعلق باسرائيل ذاتها فهو الانتخابات الاسرائيلية القادمة في فبراير من هذا العام ليضمن (اولمرت) - الذي اهتزت شعبيته نتاج ملاحقته بقضايا فساد- بقاءه في سدة الحكم بخضوعه لدعم أحزاب الجناح اليميني مثل كتلة (شاس) المتطرفة والتي تضم يهود (أسفوديم) فهل حققت اسرائيل في حربها العدوانية على قطاع (غزة) بعضاً من أهدافها على الأقل لنقول عنها إنها انتصرت في هذه الحرب؟!. طالعوا معنا .. على مستوى الهدف العسكري العام لم يتمكن الجيش الاسرائيلي من حسم الحرب لصالحه، وفي أقل من (أسبوع) وفق ما خطط له مجلس الحرب الاسرائيلي، ولم تتمكن آلة الحرب الاسرائيلية الجوية والبحرية والبرية وطابورها الخامس من الانتصار على المقاومة الفلسطينية الباسلة، كما لم ينجح طيرانها ومروحياتها من كسب عامل (المبادأة) أو المفاجأة كما يتعارف عليه عسكرياً في الأسبوع الأول من الحرب، بل دام قصفها طوال (23) يوماً انتهى بانسحابها من جانب واحد، وبالتالي لم تنجح في إعادة الاعتبار لجيشها الذي لا يقهر. أما على مستوى الهدف العسكري الميداني وهو الأمني فلم تنجح اسرائيل من القضاء على منصات صواريخ المقاومة وسحق (حماس) بل تفاجأت بتوحد فصائل المقاومة الفلسطينية وإمطارها بكم هائل من الصواريخ والتصدي لها في مدن القطاع، وقد تكبدت خسائر في الأرواح والآليات والدبابات لاتزال إلى يومنا هذا تتكتم عليها.. وعلى المستوى السياسي فقد فشلت اسرائيل في تحقيق أي هدف منه.. فقد كانت تعتقد أنها بحربها المدمرة ستضع الرأي العام الدولي والإسلامي وحتى العربي أمام سياسة (الأمر الواقع) بسحقها للمقاومة بسرعة خاطفة وتحييد الرأي العام الدولي ومباغتة الجماهير العربية.. فقد حصل العكس فمنذ الأسبوع الأول عمت المظاهرات والمسيرات والمهرجانات الحاشدة معظم عواصم ومدن العالم منددة بهذا العدوان ومؤيدة للحق الفلسطيني المقاوم، ولاتزال هذه المظاهرات في تواصل بعد وقف اسرائيل اطلاق النار ليل السبت الماضي مما عزز من موقف المقاومة الفلسطينية وزاد من صلابتها.. ومنيت اسرائيل بهزيمة مُرة في هذا الجانب السياسي وهو تعميق الخلافات والانقسامات العربية العربية، إذ خرجت قمة الكويت يوم الاثنين الماضي بوحدة الصف العربي وتوصلت إلى مصالحة عربية بين كل من السعودية وسوريا وكل من قطر ومصر.. في قمة الدوحة (نصرة غزة) فقدت اسرائيل شراكة تجارية مع دولة قطر التي جمدت علاقتها معها بإغلاق المكتب الرئيسي التجاري الاسرائيلي، كما فقدت علاقتها مع موريتانيا بإغلاق الأخيرة سفارة اسرائيل في (نواكشوط). أما الهدف الداخلي والمتعلق بالانتخابات الاسرائيلية فقد خسرته حكومة (اولمرت) بدليل اعتراض حزب (الليكود) وهو حزب الصقور على إعلان الجيش وقف النار من جانب واحد وبدء انسحابه من (غزة) مستخدماً ذلك أي الليكود دعاية انتخابية لكسب أصوات الاسرائيليين الذين اعتقدوا في (أولمرت) المحقق لآمالهم في السلام بسحق المقاومة الفلسطينية، وقد علق ساخراً على هزيمة (أولمرت) رئيس الأركان الاسرائيلي السابق (موشي يعلون) بقوله: «الحرب على غزة لم تحقق شيئاً، وكل ما حققه الجيش هو المراوحة في مكانه). وعلى الرغم من استغلال قادة أوروبا فرصة الفراغ الرئاسي في الإدارة الأمريكية ومبادرتهم إلى قمة (العريش) لينقذوا ماء وجه ربيبتهم اسرائيل؛ إلا أنهم لم ينجحوا في فرض هدف اسرائيل الرامي إلى وقف تهريب الأسلحة إلى المقاومة في غزة، وبقي هذا الهدف متعلقاً بالإدارة الامريكية القادمة برئاسة (أوباما) التي باشرها امس الأول الثلاثاء.. إلى جانب ذلك خيبتهم وخيبة اسرائيل من إغلاق سفارتها في كل من (فنزويلا وبوليفيا) وهذا داخل من حساب الخسارة التجارية والاستخباراتية لصالح ربيبتها أمريكا. ختاماً.. إن هذا العام وإن أهل علينا بمأساة حرب (غزة) الصامدة وتلك الخسارة في الأرواح والممتلكات والبنية، إلا أنه يبشر بخير في نصرة القضية الفلسطينية وتعزيز وحدة الصف العربي وعودة اسرائيل إلى جادة الصواب والتخلي عن غرورها وجبروتها لتجلس في الأخير مع القيادة الفلسطينية الموحدة في مفاوضات سلام بشروط عربية فلسطينية تعيد الحق المغتصب لأصحابه.