شهد مجتمعنا مسلسلاً عصيباً ورتيباً من الأحداث المتلاحقة والمتكررة والمتداخلة، والعصية على الفهم والتفسير، لكن وحده العنف يبقى متسيداً جميع المواقف وردود الفعل الشعبية والرسمية، ولقد جرت الأحداث في تواتر غريب، وتوالٍ مريب، وبدا كما لو كانت هذه الأحداث تترى وفق متوالية أو سيناريوهات معدة سلفاً حددت فيها الأدوار لكل طرف بدقة متناهية، وكأننا ماضون في وجهة واحدة أي في اتجاه تصعيد وتفجير الأحداث، وتأجيج الأوضاع، وزرع الأحقاد والكراهية، بهدف زعزعة الأمن والاستقرار الوطني، وفصم عرى الوحدة وتقسيم الشعب اليمني إلى شعوب وقبائل متناحرة. كما اتضح أن العقل والتعقل والحكمة اليمانية أخذت إجازة وتركت مكانها لوسائل العنف والعنف المضاد، وحل الخطاب الأيديولوجي المتشنج محل الخطاب العلمي الهادئ والعقلاني، وبرز السلاح والقتل وكشر الحقد والتعصب الأعمى عن أنيابه القبيحة ليلغي عشرات القرون وآلاف السنوات من العيش والتعايش بين أبناء الأصل الواحد، والأسرة الواحدة، والمجتمع الواحد، والدين الواحد، والوطن الواحد. هذه الأحداث تضعنا جميعاً في مواجهة مباشرة مع عدد كبير من الأسئلة أو التساؤلات، نعتقد أن محاولة الإجابة عنها صعبة، إن لم نقل إنها مستحيلة إلا من الأطراف ذات العلاقة، لكننا نتوقع أنها ستضعنا على أول الطريق لحل كثير من الأزمات السياسية، وإيقاف ما يجري في مجتمعنا من أحداث عنف دوري ومتصل، وستجعل الأطراف تتفق على عدد من القضايا تصلح أرضية لانطلاق الحوار الوطني من أجل التسامح والتصالح. فهل تمتلك جميع الأطراف السياسية والقوى الحزبية نفس النوايا الصادقة لفخامة الرئيس علي عبدالله صالح ودعواته المتجددة إلى التسامح والتصالح والحرص على سلامة وأمن الوطن والمواطن؟ بداية نعتقد أن من حق القارئ أن يعرف خصائص الأزمة التي عرفها مجتمعنا، والتي تميزت بها دورة الأحداث الأخيرة في مجتمعنا، وهي متداخلة بحيث يصعب فصلها عن بعضها، ومنها: تعدد الأجندات وتداخل اللاعبين: يمكن ملاحظة وجود عدة أطراف ترغب في تسيد المشهد السياسي والساحة الوطنية، بعضها ظاهر وبعضها الآخر متستر وراء أطراف أخرى، وهي: جماعة الحوثيين، وقوى الحراك والقاعدة التي دخلت كطرف جديد ضمن دائرة العنف السياسي الذي شهده مجتمعنا مؤخراً، ويقف سراً أو علانية خلف كل طرف من هذه الأطراف عدد من الأطراف الوطنية والإقليمية والدولية لديها حساباتها الخاصة، وأجنداتها المختلفة. عدم وجود سقف محدد للمطالب: أدى تعدد اللاعبين إلى تعدد القضايا، والمشاريع وتداخلها، وهذا أدى إلى كثرة المطالب والقضايا، وتداخل ما هو مشروع من الحقوق والمطالب الشخصية والجماعية التي كان يمكن معالجتها عن طريق القضاء والمحاكم والجهات الرسمية الوطنية، مع مشاريع أخرى غير مشروعة تحاول أن تسوقها بعض الأطراف الوطنية والإقليمية والدولية، وهذا أدى إلى عدم وضوح أو غياب المشروع الحقيقي، وضياع المطالب المشروعة والحقوقية، لعدم معرفة الأطراف الوطنية سقف أو حدود ما يطلب منها من الأطراف المحركة لها، ولذا فإنها تترقب تعليمات جديدة في كل مرة. الضبابية والتمويه المتعمد: عمدت بعض الأطراف المحركة للأحداث إلى التمويه والضبابية المقصودة، حتى يتسنى لها تحقيق مجموعة من الأهداف الموضوعة بدقة متناهية؛ فهي تتعمد ذلك حتى يسهل عليها خداع المواطن العادي. كما أن هذا التمويه والتعمية المتعمدين يفيدان في تصوير الأمور على عكس حقيقتها، وإصباغ الشرعية على كافة الأعمال السلمية والمشروعة منها، والإجرامية من جهة أخرى، وإطلاق التسميات الخادعة عليها، مثل: الحراك السلمي، بدلاً عن الخراب، والتعطيل، والتقطع، والتخويف، والإرهاب. الرتابة والتكرار: من يتابع الأحداث الأخيرة، ويعود بذاكرته إلى الوراء سيجد أنها تدور في حلقة واحدة تتكرر باستمرار؛ فهي تبدأ بمسيرات «سلمية»، ثم تتحول إلى تجمعات خطابية لجمع الأنصار والمؤيدين، ثم اعتصامات، فمظاهرات واحتجاجات، تتلوها مشاهد من العنف المصطنع والمفتعل والمقصود، تقود إلى تدخل قوات الأمن لاحتجاز المشاركين في هذه الأحداث، وحماية المواطنين وممتلكاتهم، تتلوها مطالب جديدة بالإفراج عن هؤلاء، وتدخل منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، وهكذا لتبدأ العملية من جديد بنفس الرتابة والتكرار، حتى تتصور الإنسان كما لو كان يتفرج على مسلسل ممل. التصعيد وتجاوز حدود ما هو مسموح: ويتمثل ذلك في مهاجمة رجال الأمن ومراكزهم والمجمعات الحكومية، ونصب الكمائن والتقطع والقتل المتعمد للمدنيين المسالمين بدون ذنب، وحرق الأعلام الوطنية، ورفع أعلام التشطير وترديد شعارات الانفصال، وكلها جرائم يعاقب عليها القانون بشدة في جميع أقطار الأرض الديمقراطية منها وغيرها، ولعل أخطر ما في هذه الخاصية أنها تقود في كل مرة إلى خلق عداوات ونزاعات جديدة، وتفتح الباب أمام قضايا ثأر جديدة بسبب سقوط الضحايا والقتلى من الجانبين وهذا أمر يؤدي إلى عدم الوصول إلى حل للأزمة وتجددها في كل مرة. غياب الرغبة الحقيقية والصادقة في حل الأزمات: يضاف إلى كل ذلك غياب الرغبة الحقيقية والصادقة لدى كثير من الأطراف في حل تلك الأزمات، وبخاصة أمراء وتجار الحروب، وسماسرة السلاح، وأعداء المشروع الوحدوي والنهوض اليمني والعربي، والمتضررون من مشروع الوحدة اليمنية، وهم كثيرون.. واستمرار تجدد الأزمة معناه أن هناك أطرافا تجد مصلحتها في تجدد الأزمة، وافتعال المزيد منها، وسد الباب أمام أي حوار وطني جاد قد يقود إلى حل الأزمات. ما العمل؟ يمتلك صانع القرار السياسي الوطني عدداً لا بأس به من الخيارات للتعامل مع هذه الأزمة أو غيرها، منها: خيار المواجهة والتصعيد أو خيار التغاضي، وأخيراً، خيار الحوار، ولكل خيار منها فوائده، ومحاذيره. وسيكون لنا دعوة لتناول هذه الخيارات بالتفصيل في تناولة قادمة، إن شاء الله.