تستمد الثورات قوتها من قوة إرادة شعوبها، وتكتسب عظمتها من حجم التغيير الذي تحدثه ، وجسامة التحديات التي واجهتها، لذلك ما زالت ثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963م في اليمن بنفس ألقها رغم اقتراب عمرها من نصف قرن، لكونها الأساس الذي ارتفعت عليه قواعد الحياة العصرية التي يعيشها اليمن اليوم. إن من الخطأ بمكان اختزال ثورة أكتوبر بمدلولها الحركي في مناهضة الاستعمار البريطاني، إذ إن اتقاد شرارتها بردفان بعد زهاء عام من ثورة 26سبتمبر 1962م يؤكد أنها كانت امتداداً طبيعياً لها وإحدى حلقات ثورة يمنية كبرى تجاوزت خرائطها التشطيرية في حالة وعي نضالي بحتمية الانعتاق من براثن الزمن الاستعماري الذي تقاسمت أدواره الدولة العثمانية وبريطانيا. ولو عدنا إلى وثائق النضال الثوري في اليمن لاستوقفتنا حقيقة أنه لم يكن بوسع أحد الحديث عن ثورة سبتمبرية تطيح بالعرش الإمامي الملكي بغير حديث عن عمق استراتيجي «جنوبي» ترعرعت في أحضانه حركة التنوير الفكري، والتعبئة الجماهيرية لرواد الحركة الثورية من أبناء الشطر الشمالي.. وبالمقابل لم يكن بالوسع الخوض في أية رهانات ثورية، وكفاح مسلح ضد الانجليز في ردفان من غير الحديث أولاً عن عمق استراتيجي «شمالي» مثّل جسر عبور الأسلحة والذخائر ومختلف متطلبات العمل الكفاحي الذي تعهد أبناء الشطر الشمالي بتغذية المقاومة الوطنية بها.. وفي كلا الحالتين كان هناك مناضلون يدفعون ثمن مواقفهم المؤازرة للطرف الآخر. إن ذلك اللون من التلاحم النضالي بلور تجربة فريدة للعمل النضالي التحرري على مستوى الشرق الأوسط كان يستحق فيضاً من البحوث والدراسات نظراً لتنوع مصادر القهر التي استدعت الثورة عليها، في الوقت الذي قهرت الإرادة الشعبية اليمنية خرائط التشطير السياسي، وفرضت ذاتها اليمنية الحقيقية على ذلك الواقع لتخلق حالة وحدوية على خرائط شطرية.. وهو الأمر الذي فرض الهدف الوحدوي في الأجندة السياسية الثورية لثوار «الشمال والجنوب» على حد سواء حتى بعد أن فوجىء الجميع بإعلان «جمهورية اليمن الديمقراطي» خلفاً للبريطانيين، بدلاً من التوحد مع «الشمال». ومع أن التحديات اليمنية كانت في غاية التعقيد - خاصة الاقتصادية - لكن ذلك لم يمنع من النضال لترجمة أهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر على أرض الواقع.. ومن هنا كانت مرارة الظروف التي كابدها اليمنيون، وحجم التضحيات التي بذلوها لتغيير مفردات الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي هي النكهة العذبة التي منحت الثورة وهج التألق وجعلتنا نحرص على الاحتفاء بذكراها كل عام. وأعتقد أن حالة الشراكة النضالية التي عاشها اليمنيون منذ الأربعينيات من القرن الماضي كانت عاملاً مهماً في تذويب جليد الحقب الاستعمارية والملكية وإعادة إنعاش الروح الوحدوية بعد عزلة تاريخية، وسياسات طمس للهوية الثقافية، ومتغيرات جمة طرأت على الحياة اليمنية، ولم يكن بمقدور المجتمع عمل شيء إزاءها في ظل ما كان يعيشه من استلاب إرادة وظلم وسياسات قمعية. لاشك أن التعاطي مع زمن الثورة يميط النقاب عن كثير من القيم الأخلاقية والإنسانية التي حملها الثوار إلى صفحات التاريخ اليمني الجديد.. وهو الأمر الذي يجب أن يقاس عليه كل ادعاء بزمن ثوري جديد في الألفية الثالثة.. فشتان ما بين ثوار البناء وثوار التخريب.