وحدها القيم والمواقف النبيلة تبقى حاضرة بقوة وإن تقادم عهدها، تبقى لأنها تُحفر بأحرف من نور على صفحات ذاكرة التاريخ، ويبقى ذكر أصحابها حيث لا يقدر أحد على تجاهلهم أو نسيانهم.. يذكر التاريخ أنه بعد انتهاء معركة «هوازن» وبعدما هُزمت تلك القبيلة وتفرق شمل من بقي أبنائها سلك «دريد بن الصمة» وهو من هوازن طريقاً فلحق به رجل يريد قتله، وعندما أمسك به سأله دريد ماذا تريد مني؟ فأجابه الرجل: أريد قتلك،فسأله دريد: ومن أنت؟ فقال: ربيعه السلمي، وضربه بسيفه فلم تصبه الضربة بأذى، فعلّمه دريد بن الصمة كيف تُضرب أعناق الرجال، وطلب منه بأن يخبر أمه عندما يعود ويقول لها بأنه: قتل دريد بن الصمة، فلم يفهم الرجل هذا القول ومضى في مهمته وقتل دريداً على نحو ما علّمه كيف تضرب الأعناق..كان دريد بن الصمة حسب أغلب الروايات التاريخية طاعناً في السن يبلغ من العمر قرابة مائة وعشرين عاماً..وعندما عاد ذلك الرجل إلى منزله قال لأمه أنه: قتل «دريد بن الصمة» فعاتبته أمه على مافعل وأخبرته أن لدريد بن الصمة جميلاً كبيراً، فقد ذاد عن عرض بضع نساء من نساء ربيعة السلمي هذا في يوم من الأيام عندما اعترضهن قطّاع طرق فتصدى لهم دريد بين الصمة ومنعهم من ذلك..على هذا الأساس لاتذكر قصة وفاة دريد أو مقتله إلا ويذكر معها موقفه مع نساء السلمي ،وهناك شواهد مهمة ينبغي إدراكها جيداً من باب العظة والعبرة ومنها أن قيم ذلك الزمن والتي جسدها «دريد» بدفاعه عن نساء من غير قبيلته أوعشيرته وقد أتضح أنه كان على علم بتلك النساء وقبيلتهن، لكنه فعل ما فعل إيماناً منه بتلك القيم وبنخوته التي لم تلتفت لكل الاعتبارات التي كانت سائدة ولم يكن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً بدليل أنه لم يفصح لمن أراد قتله وقد عرفه وعرف علاقته بالنساء اللائي دافع عنهن ذات يوم لكنه اكتفى بطلبه بأن يقول ربيعه لأمه حال عودته: أنه قتل دريداً وقد أبت عزة النفس عنده أن يستجدي قاتله بالصفح عنه أو استلام ثمن موقفه من قطّاع الطرق ودفاعه عن عرض نساء ربيعة السلمي، بل علمه ماكان يجهل من خبرة في ضرب أعناق الرجال وهو ما سيحتاجه في الحروب والمعارك حتى لا يُعذب المقتول على يد من لا يحسن القتل..في مقابل ذلك وبعيداً عن دوافع ربيعة وعن الأسباب التي دفعته ليلحق بدريد بهدف قتله فقد تجاهل عمر دريد وتجاهل الكثير من القيم والأعراف والتي لاتجيز له مافعل ولو كان دريد أسيراً فالأسرى لايقتلون لا بضرب الاعناق ولا بالشنق وبذلك اتضح الفرق بين قيم الرجلين وبين مواقفهما التي جسداها..لقد خاطر دريد بحياته قبل ذلك دفاعاً عن نساء لاعلاقة له بهن وقد كان يعرفهن ويعرف من أية قبيلة هن، لكن هذا لم يدفعه نحو التردد والتراخي ففعل ما فعل وهكذا أوردته الروايات على صفحات كتب التاريخ، ولغيره قصص من هذا النوع أكثر وأعظم لم يكن لها من دافع سوى القيم والأعراف السائدة..قيم تحرم الاعتداء على النساء وتحرم الاعتداء على عابر سبيل.. كانت للحروب ميادينها وأساليبها وطرقها وفي كل ذلك كانت القيم حاضرة ولا تحتاج للتذكير بها أو الحث على التمسك بها..وفي غير أوقات الحرب كانت القيم وبالأخص تلك التي نسميها عربية حاضرة في زمن الجهل والجاهلية، وفي زمن الإسلام الذي جاء ليتمم مكارم الأخلاق فأضاف على القيم النبيلة قيماً أكثر نبلاً، واثنى على القيم النبيلة التي كانت سائدة في عصور الجاهلية..في حكاية دريد بن الصمة ينبغي الالتفات إلى الجانب المشرق من القيم والمواقف وتجاهل ما لا يروق من المواقف والآراء وغيرها من التصنيفات..فقط لنقرأ وندرك ونتعلم من قيم الأولين ونعيد إحياء قيماً أوشكت على الانقراض وربما أنها قد انقرضت عند البعض قولاً وعملاً..