من أبدع الكتابات النثرية في الأدب الفرنسي ما ينقل عن الفيلسوف (باسكال) في فكرة اللانهايتين. فهو يقول: عندما أتأمل الكون حولي ينتابني الخشوع بين العدم الذي خرجت منه واللانهاية التي أنا باتجاه الذهاب إليها، وعندما أتأمل نفسي بين العوالم أرى أنني محاط باللانهاية الكونية فوق رأسي ولكني عندما أنظر الى موضع أقدامي أرى أيضاً لانهاية من نوع جديد. فأنا محاط باللانهاية مرتين. أنا كل شيء عندما أقارن بالعدم ولكنني لست بشيء عندما أوضع بجنب اللانهاية. وعلى الرغم من التعقيد في الكلام ولكن تأمله في غاية الجمال، والذي دفعني الى الاستشهاد بقوله هو العالم الأصغر الذي انكبّ عليه رجل متواضع من هولندا طوال حياته هو (انطوني فان ليفنهوك1632 1723م) فأثبت أن هناك عالماً كاملاً تحت أقدامنا مغيب عن أنظارنا ولكنه أحياناً يفتك بنا بأشد من الجن والغيلان هو عالم الميكروبات. وعندما كان الطاعون يهاجم المدن فيمحو محاسن الحضارة ويزلزل بنيانها ويصنع التاريخ على طريقته لم يكن يعرف أحد من هو المتسبب ولم يتفطن أحد الى ثلاثة كائنات تتراكب فوق بعضها فتفعل بمدفعية من نوع بيولوجي بين فئران السفن التي تحمل البراغيث في جلدها والبرغوث الذي يحمل مكروب الطاعون، والجرثوم الذي يتغلغل الى دم الانسان فيقضي عليه في أيام معدودات. كان الناس ينسبون الأمراض يومها الى فعل الشياطين أو تعكر مزاج المريخ أو ذنوب الناس، وهو من جهة فعلاً من عمل الشياطين والجن الذي (جن ) فاختبأ عن أعيننا من نوع خاص، وهي فعلاً من ذنوب الناس ولكن أيضاً على نحو خاص. وعندما يذكر القرآن عقوبة أهل سبأ بتفجر السد وتمزّقهم شرّ ممزّق فهو يقول إنهم وقعوا في الذنوب ولكن ليس كما نتصور نحن، فالذنوب أنواع ولعلنا لانتفطن إلى ان الكسل من أعظم الذنوب مع أن الحديث استعاذ منه. عاش (ليفنهوك) الى مافوق التسعين وبقي نشيطاً لآخر يوم من حياته وكان موظفاً حكومياً بسيطاً ولكنه كان عاشقاً للمعرفة واكتشاف المجهول وقام بنفس بتطوير جهاز (الميكروسكوب) وبلغ فيه الى قدرة تكبير 270 مرة واستطاع أن يدخل عالم اللانهاية السفلي فاجتمع بقبائل وفصائل عجيبة وعرف أن كل الأنسجة والأعضاء مكونة من حجيرات صغيرة لانراها كما أن أفواهنا وجلدنا يعج بقبائل جرثومية شتى وكان بارعاً في التصوير والوصف فقام بصبر وجلد يصور ويكتب هذا العام الأصغر وعمد بدون خجل في يوم ففحص السائل المنوي ورأى للمرة الأولى في تاريخ الطب الحيوانات المنوية وفي قطرة ماء واحدة عثر على عالم قائم بذاته فعثر على كائنات دقيقة متحركة ووصف الكريات الحمر. وقام بإلغاء فكرة التوالد الذاتي فالجراثيم تأتي من الجراثيم وليس أن الماء العفن هو الذي يولدها وهذا ينطبق على كل الكائنات ونحن اليوم نصدق هذا بسهولة ولكن يومها كان يخالف عقيدة الناس. قام بعد هذا بالاتصال بأكاديمية العلوم الفرنسية والجمعية الملكية البريطانية ولم يكن يتقن غير الهولندية كما لم يكن رجلاً أكاديمياً بحال وانتخب عضواً فيهما بسبب مثابرته وعلى الرغم من تواضع مركزه الاجتماعي فقد أثارت اكتشافاته العديد من العلماء ورجال السياسة أن يزوروه وكان منهم قيصر روسيا بطرس الأكبر وملكة بريطانيا. ولم تعرف أهمية اكتشافاته الى 200 عام عندما جاء باستور فاهتدى الى التعقيم. وهكذا نما العلم من خلال عمل تراكمي.