نقلت كلمة الإستراتيجية من الحضارة اليونانية عن الكلمة الأصلية إستراتيجيوس strategos و التي تعني علم الجنرال. وارتبط مفهومها بشكل صارم بالخطط المستخدمة لإدارة قوى الحرب ووضع الخطط العامة في المعارك. وقد اختلف في مفهوم كلمة الإستراتيجية عبر التاريخ وفقا لتطور التقنية العسكرية في كل العصور كما أنها تختلف باختلاف المدارس الفكرية والسياسية ولهذا يصعب وضع تعريف شامل ومانع لهذه الكلمة . أما التخطيط الاستراتيجي فله عدة تعريفات أبرزها: · هو العملية التي تجسِّر الفجوة بين ما نحن عليه الآن وما نريد أن نصل إليه . · هو عملية تحديد غاية ورسالة وأهداف المنظمة ، وتحديد الوسائل والطرق التي توصل إليها. · هو دراسة وتحليل وتقييم البيئة وصياغة الإستراتيجية. · هو دراسة البيئة الخارجية والداخلية وتحديد مهمة المنظمة وأهدافها وإستراتيجيتها . ويُعَدُّ التخطيط ضرورةً من ضرورات الحياة للإنسان، وذلك بسبب خوفه المستمر من المجهول، والأخطار، والكوارث التي تحدق به؛ لذا حتَّمت عليه الظروف توخي الحيطة والحذر لمواجهة ذلك المجهول، فبدأ يُخطط لنشاطاته المختلفة؛ للتغلُّب على ذلك المجهول وما يتعلق به من متغيرات وتقلبات في ظروف البيئة الطبيعية التي يعيش فيها؛ من تعاقب الليل والنَّهار، وتتابع الفصول الأربعة صيفًا وشتاءً، وربيعًا وخريفًا؛ لذا فالإنسانُ يَهدف بالتخطيط إلى تنظيم شؤون حياته، ولتطويع المستقبل المجهول لأهدافه وأغراضه. ولقد اهتمَّت الحكومات والمنظَّمات بالتخطيط كوسيلة للتحكم في ظروف المستقبل؛ لتسخيرها لمشروعاتِها وأهدافها عن طريق تَحديد الأهداف، ووضع السياسات، وتصميم البرامج، وتحديد الخطوات والإجراءات والقواعد في إطار زمني محدد، فالتخطيط يُساعد على عدم ترك الأمور والأحداث لعامل الصُّدفة أو الصواب والخطأ. أمَّا مفهوم التخطيط في الإدارة الإسلامية، فيعرفه الدكتور فرناس عبد الباسط بأنه: “أسلوب عمل جماعي، يأخذ بالأسبابِ لمواجهة توقعات مستقبلية، أو يعتمد على منهج فكري عقدي يؤمن بالقدر ويتوكل على الله، ويسعى لتحقيق هدفٍ شرعي، هو عبادة الله وتعمير الكون”، ويرى الدكتور حزام المطيري أنَّ هذا التعريف يُلغي الدورَ الفردي في التخطيط؛ لهذا يورد تعريفًا آخر أكثر شمولية، فيقول: إنَّ التخطيط الإسلامي هو “التفكير والتدبر بشكل فردي وجماعي في أداء عمل مستقبلي مشروع، مع ربط ذلك بمشيئة الله - تعالى - ثم بذل الأسباب المشروعة في تَحقيقه، مع كامل التوكل والإيمان بالغيب فيما قضى الله وقدره على النتائج”.. إنَّ العالَم الإسلامي في مُختلف مراحله وعصوره قد شهد أنواعًا كثيرة من التخطيط، اشتمل على جميع عناصر التخطيط الحديثة من حيث الإعداد والتنفيذ، شاملاً جميعَ نشاطات الدولة الإسلامية، وهو تَخطيط لا يَختلف كثيرًا عن التخطيط المعاصر إلاَّ في نواحٍ قليلة؛ مثل: حجم الخطة، والوسائل والأدوات. وما يُميز التخطيط الإسلامي للسياسات العامَّة والمبادئ التي تستند إليها الدولة الإسلامية، هو أنَّ الله - سبحانه وتعالى - مبدعُه وواضعه، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وخلفاءه هم مَن يقوم بتنفيذه، وفيما يلي عرض لماهية التخطيط في القرآن الكريم .. يزخر القرآنُ الكريم بالعديد من الآيات التي تُمثل التخطيطَ، والتي لا يُمكن حصرها هنا ، ومن أهمها الآيات التي نزلت في سورة يوسف - عليه السَّلام - والتي تُمثل التخطيطَ الاستراتيجي الاقتصادي الربَّاني؛ حيث يقول - تعالى -: « وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ » [يوسف: 43 - 49]. وقد جاء في كتب التفاسير لهذه الآيات أنَّ المطر والخصب سيأتي لمدةِ سبع سنوات متواليات، وأنَّ البقرَ هي السنون؛ وذلك لأَنَّها تثير الأرضَ التي تستغلُّ فيها الزروع والثمرات، وهن السنبلات الخضر، ثُمَّ قام يوسف بتوجيههم إلى ما يفعلونه في تلك السنين، وذلك بادخار ما استغلوه في السنوات السبع في سنبله؛ ليكونَ أبقى له، وأبعد من إسراع الفساد إليه، إلاَّ القدر أو المقدار الذي يَحتاجونه للأكل؛ بحيث يكون قليلاً، ونَهاهم عن الإسراف؛ لكي يستفيدوا في السبع الشداد، وهن السبع المحل التي تعقب السنوات السبع المتواليات، وقد بشَّرهم يوسف بأنه سيأتي عام غيث بعد عام الجدب؛ حيث تغل البلاد ويعصر الناس الزيت وغيره، كما كانت عليه عادتهم في السابق، كما اعتُبرت من قِبَلِ بعضِ الكُتَّاب بأنها موازنة تخطيطية عامة؛ حيث قام يوسف - عليه السَّلام - بعملية الموازنة بين إنتاج ادِّخار واستهلاك القمح في مصر ، كما وضح لنا القرآن اضطلاع يوسف بدَوره الإداري المالي الفَعَّال في إدارة أموال الدولة؛ « قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» [يوسف: 55].