صدور الميثاق الوطني للجبهة : في شهر يونيو 1965م حددت الأهداف العامة للثورة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال وثيقة الميثاق الوطني، والتي اشتملت على تحليل للأوضاع الاجتماعية على مستوى الجنوب، وتحديد القوى المحركة للثورة. ولقد كان الميثاق الوطني للجبهة مستلهماً ومتأثراً بالتجربة الناصرية بمصر، وميثاقها الوطني،لهذا فقد كان إقرار الميثاق بصورة فوقية، ولم يناقش قبل الإقرار «في أوساط الأعضاء أو يناقش جماهيرياً،بل ولم يكتمل العمل على تعميق المفاهيم الواردة فيه حتى داخل طليعة الجبهة القومية نفسها التي لم تشترك بكل إطاراتها القيادية في وضع الاتجاهات العريضة لهذا الميثاق وصياغته بالحبكة اللغوية التي تجاوزت مستوى الوعي لدى القواعد والجماهير معاً»173ص.ولهذا فإن الأفكار الواردة في الميثاق «لم تجد طريقها إلى وعي الأعضاء بصورتها الناضجة والمنظمة بسبب الاندفاع المبكر والانحشار في ضيق الوقت، إلى جانب انشغال القيادة بالمهام النضالية اليومية التي حالت دون إعطاء أي اهتمام لجانب التوعية الفكرية للأعضاء أو الجماهير الملتفة حول الثورة وأهدافها»179ص. علاقة متوترة مع المخابرات المصرية : لقد كانت علاقة الجبهة القومية مع المخابرات المصرية أساسها التوتر والصراع، رغم أنها الجهة الداعمة للجبهة القومية، إلاّ أن شعور قيادة الجبهة القومية بمحاولة ورغبة المخابرات المصرية في التحكم بمسار الثورة جعل قيادة الجبهة في اختلاف دائم معها، فلقد تبنت هذه الأجهزة حملة ضارية على الجبهة وهي «تتدثر بثوب الناصرية وفي حقيقتها تسيء إلى الثورة في الجنوب وتضمر الكراهية والعداء المبطن لزعامة عبدالناصر وتجربتة الثورية الرائدة»، وهو ما أفصح عنه الرئيس جمال عبدالناصر حين حدد مكامن الضعف في تجربته مع هذه الأجهزة حين قال: «أجهزة المخابرات كانت هي المشكلة دائما..لقد تطورت الثورة ولكن الأجهزة إلى عام 1967ظلت عاجزة عن ملاحقة الثورة، بل وبدأت تتآمر ليس عليكم فقط بل عليّ وعلى الثورة المصرية نفسها «هذا الكلام ينقله الكاتب من لقاء ناصر بوفد الجنوب، قبل أن يغادر إلى جنيف لمفاوضات الاستقلال»183ص...ويسرد الكاتب أهم المواقف التي أثرت على مسار النضال الثوري في الجنوب والمتمثل بمحاولة التوحيد القسري للقوى الوطنية مع الجبهة القومية، فالتيار المتشدد داخل الجبهة «حال دون إنجاز عملية التوحيد المبكر مع حزب الشعب الاشتراكي وعبدالقوي مكاوي في إطار الجبهة القومية، وهو الأمر الذي أدى تفجير مفاجأة الدمج القسري التي دبرتها المخابرات العربية في الثالث عشر من يناير عام 1966م»183-184ص،ف«الوكيل عزت سليمان رئيس الجهاز العربي للمخابرات المصرية في اليمن كان وراء إخراج عملية الدمج بتلك الصيغة القسرية والتوقيت المحدد لها..وأثبتت التطورات بعد إصدار البيان أن الأخوين عبدالله عبدالمجيد الأصنج من جانب منظمة التحرير وعلي أحمد السلامي من جانب الجبهة القومية اقتصر دورهما على توقيع البيان وعدم إفشاء السر حتى يذاع البيان من إذاعات صنعاءوتعز والقاهرة»187ص، حتى لا تعمل الجبهة القومية على إفشاله، وحتى لا يحدث اقتتال واغتيالات وصراعات دموية «وهي التوقعات التي فوت الفرصة عليها البلاغ الذي أصدره في اليوم التالي للدمج قحطان محمد الشعبي الأمين العام للجبهة القومية، والذي نشر في الصحافة المحلية والعربية، وتم توزيعه على نطاق واسع في مناطق الشمال والجنوب، حدد فيه موقف الجبهة من الوحدة الوطنية، ونفى أن يكون لقيادة الجبهة أية صلة ببيان الدمج، واعتبره تعريضاً بتوجه الجبهة وتشكيكاً بمواقفها الوطنية، وتعبيراً عن نوايا مسبقة لإثارة نوازع الانقسام والبلبلة في صفوف الجبهة القومية وحلفائها»187ص. يتحدد موقف الجبهة القومية من منظمة التحرير التي صدر بيان الدمج القسري ليجمع بينهمافي إطار جديد هو «جبهة تحرير جنوباليمن المحتل» بما نشرته صحيفة الأمل آنذاك، والتي وصفت منظمة التحرير بالقول: «إن منظمة تحرير الجنوب المحتل التي أعلن عن تأسيسها في عام 1965 تتكون من حزب الشعب الاشتراكي، وهيئة تحرير الجنوب، ومجموعة من السلاطين، ويشترك قادة حزب الشعب المنصهر في المنظمة مع هؤلاء السلاطين في قياداتها، وطبيعة هذا التنظيم شاذة وغريبة؛ إذ لا يمكن لأي تنظيم سياسي أن يعمل بفعالية وأن يثبت وجوده ما لم تتوافر فيه أو في قياداته –على الأقل - عناصر الانسجام الفكري والتجانس النوعي، وما لم تحركه نفس الأهداف والدوافع، وإلاّ فما معنى أن يقبل حزب يدعي الثورية والتقدمية أن ينصهر في بوتقة واحدة مع أناس كرسوا جل طاقتهم للقضاء على المد الثوري التقدمي وعلى كرامة الانسان في الجنوب»189ص. لقد كان الدمج القسري حسب تعبير المؤلف أحد أبرز التدخلات من قبل الجهاز العربي «على أوضاع الحركة الوطنية في الجنوب، بل شملت التدخل المباشر واليومي في شئون الإدارة للأوضاع السياسية على مستوى ساحة الشمال، وتأجيج الصراعات والانقسامات داخل النظام الجمهوري، وتقييد حركة النضال الثوري في اليمن كلها، وهذه الرؤية والموقف من وجهة نظري ينقصها الكثير من الإنصاف، واستحضار التحديات التي كانت تواجهها القوات المصرية وهي تقاتل في اليمن، والعالم الغربي يتآمر لجعل اليمن مستنقع لإغراق مصر به، وهو ما كانت نتيجته من وجهة نظري هزيمة 1967م.هنا يتشابه موقف الأخوة في الجبهة القومية مع أعضاء مؤتمر خمر، الذين يريدون من مصر أن تدعم بالمال والسلاح والرجال دون أن يكون لها رأي، أو تدخل في المسار الثوري في اليمن، وهذا من وجهة نظري فيه أنانية سياسية لا ترى الآخر الثوري سوى مضح ومعط فقط! لقد كانت مصر حريصة على توحيد القوى الوطنية في الجنوب، وتوحيد فعالياته المسلحة، لكن التباين في الرؤى وفي منظورهم لطريقة الحكم حالت دون أي توحيد، وهذا هو جوهر المشكلة، الذي انتقل بعد ذلك ليعبر عن نفسه بعد جلاء البريطانيين، من خلال تصفية عناصر التنظيم الشعبي وغيره من التنظيمات المسلحة، المغايرة في تفكيرها لطريقة تفكير الجبهة القومية، مما جعل الصراع بعد ذلك ينتقل إلى داخل صفوف الجبهة القومية بإزاحة الرئيس قحطان الشعبي ثم قتل سالمين، وصولاً إلى الصراع الأوسع في أحداث يناير1986م. كل ذلك المسار الدامي كان تعبيراً عن تباين في الرؤى وفي مفهوم الحكم!. يرى المؤلف نقلاً عن كتاب «نظرة في تطور المجتمع اليمني، لسلطان أحمد عمر» أن السياسة المصرية بالنسبة للثورة في الجنوب كان هدفها «تقوية الضغط السياسي على بريطانيا، لكي تعترف بالجمهورية العربية اليمنية، ووقف الدعم الذي كانت تقدمه بريطانيا للقوى الملكية التي تقاتل ضد الجمهورية من داخل أراضي الجنوب»255ص. وأن «الجبهة القومية غير مستعدة لأن تعطيها الولاء المطلق والرضوخ لدبلوماسيتها التي تفرضها ظروف طبيعة النظام القائم في مصر ومحيطها الدولي الواسع»255ص. وفي هذا الطرح إجحاف واضح بالموقف المصري تجاه الثورة في الجنوب، فإذا كان الغرض منه تشكيل ضغط على بريطانيا كي تتوقف عن دعم الملكيين، ذلك يمكن التوصل إليه باتفاق وتوافقات سياسية، وهو ما لم يحدث، فلقد بين خطاب عبدالناصر الذي ألقاه في تعز موقف مصر المبدئي تجاه تحرير الجنوباليمني، وضرورة الرحيل القسري للاستعمار البريطاني، وذلك يتفق مع الأمن القومي المصري. البناء التنظيمي للجبهة القومية : الهيكل التنظيمي للجبهة القومية يبدأ باختيار الفرد وإعداده لمدة ستة أشهر أو سنة بحسب قدرات الفرد واستعداده وثقافته،ثم بعد ذلك يتم تنسيبه في الجبهة كعضو في «الحلقة» ثم «الخلية» ثم «الرابطة» ثم «الشعبة»، ومن الشعب تنتخب القيادة العامة ومن القيادة العامة ينتخب المجلس التنفيذي -321 322ص. هذا هو الهكيل التنظيمي للجبهة القومية، وهو منقول عن البناء التنظيمي لحركة القوميين العرب، وهو بناء تنظيمي تشترك فيها التنظيمات القومية سواء البعث أو حركة القوميين العرب أو الناصريين وقد فرضته ظروف العمل السري، لكنه يصبح عاجزاً عن تجسيد الديمقراطية في ظل وصول الجبهة القومية للحكم، أو في ظل العمل العلني للأحزاب؛ لأنه يكرس البيروقراطية، ويحد من الطاقات والمشاركة الديمقراطية الحقيقية التي تعمل على تجديد الدماء في المستويات القيادية، بدلاً من تكريس القيادة في أعضاء محددين يتداولون المواقع القيادية فيما بينهم فقط لاغير. مفاوضات الجلاء : حرصت قيادة الجبهة القومية على أن يبدأ وفدها الذي سيذهب إلى جنيف، بعد أن طلبت الجبهة من الجانب البريطاني أن تبدأ المفاوضات يوم الاثنين 20 نوفمبر ، حرصت على أن يلتقي رئيس الوفد قحطان محمد الشعبي وبعض أعضاء الوفد بالرئيس جمال عبدالناصر قبل ذهابهم إلى جنيف، للاستفادة من خبرة مصر في التفاوض مع الإنجليز، وقد أرسل معهم الرئيس ناصر موفداً شخصياً يعينهم بالمشورة، وكذلك نصحهم باصطحاب موفد شخصي للرئيس هواري بومدين، وقد أصر الوفد على أن تشمل وثيقة الاستقلال على التزام بريطانيا بدفع مبلغ ستين مليون جنيه استرليني، وهو حق منقوص للجنوب إزاء استغلال ميناء عدن لقرن وبضعة عقود من الاحتلال البريطاني، كذلك أصر الوفد على أن تشمل الوثيقة تأكيد السيادة اليمنية على الجزر، وقد حاولت بريطانيا التنصل من ذلك ثم اعترفت مع بعض التحفظ -451 452ص.