بإمكاننا أن نرحل من الوطن حين يضيق علينا .. أو بالأحرى حين يلفظنا .. وييأس من جدوى وجودنا كحشوة حجارة في بالونة ريح تثقل كاهله وتمنعه عن التحليق. لكن كيف سيرحل هو حين يضيق بنا ومنا .. ويتآكل ثراه تحت همجية حوافر خيول النشاز .. وييبس اخضراره تحت لسعات شمس الترصد والخيبة ! إنّ الوطن المُثقل بخيبات أبنائه لا يُنجب إلا المزيد من القفر والفقر .. واللعنات المتوارية في شقوة حظوظه .. وانخراطه العمليّ في بؤس الحاجة .. وأنين الخطوات .. وحشرجة المدى الموبوء بحُمّى الصراعات .. وألسنة الفوضى والشتات. وحين يرحل الوطن عن دماء نخوتنا .. نفقدُ أهميّة الوجود .. ولغة التفاهم .. وسلطة الانتماء إلى رائحة الزهو .. وتتيبّس في ضلوعنا مقامات العطاء .. لنغدو أشباحاً متلاشيةً في ليل القلق ونهارات الإحباط. وليس أمام الوطن الكئيب بعقوق أبنائه .. إلا نسيان أمانيه بهم .. وارتباط طينته بالغريب وهو يُعرّي عن جلدهِ لباس الأمان .. ويمنحُ معالمه بصمة الانحلال .. وخشية الوصول إلى حيث أفنى أمله .. وانتهى من حيث بدأ. أيها الوطن المنسيّ في زحمة الحادثات .. خذ رائحتك وامضِِ .. واترك نشيدك المترهّل يركض في عبثيّة الجواب المسكون بطغمة الخراب .. ولا تلتفت خلف لوعتكَ .. فلن ينجو من بعدك إلا من أخلص وفعل .. والتحقَ بدائرة خلودك في دمهِ .. علّه يستعيد بعضك. [email protected]