إلى حد كبير يجد المرء صعوبة حين محاولته بحث العلاقة بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، ودورهما في ثورة 14 اكتوبر1963م، بسبب الغموض في علاقة هذين الفصيلين ببعضهما من ناحية، وبالقوى ذات الصلة من ناحية أخرى، سواء أكان الاستعمار البريطاني أو مصر عبد الناصر.. في وقت شهدت أدوارهما تبدلات وتغيرات كما الرمال المتحركة حين تغير مكانها من حين لآخر... أو هكذا يتبدى لنا الأمر بسبب نقص المعلومات وتضاربها، ومحاولة كل طرف ان ينسب لذاته ما ليس لها. تضارب المعلومات وغموضها، يستتبعها إشكالية منطقية عقلية، سيما عندما تجري الأحداث عكس التتابع المنطقي، لتأتي النتائج متعارضة مع مقدماتها.. فكيف لجبهة قومية نشأت كفرع لحركة القوميين العرب ذات التوجه الناصري وكانت الجبهة الناصرية احدى مكوناتها، ان تصبح على عداء مع مصر عبد الناصر، بل ان بعض قياديها اضحى سجينا في مصر كما حدث لفيصل عبد اللطيف الشعبي.. فيما جبهة التحرير التي تكونت من فصائل واحزاب كالشعب الاشتراكي ورابطة ابناء اليمن وبعض سلاطين الجنوب، ورفضت الكفاح المسلح بدعاوى النضال السلمي بل تندرت عليه حينما وصف أحد قادتها ثوار ردفان بالدراويش وبأنهم متمردون قبليون.. ثم بعد ذاك تحظى بدعم عبد الناصر على حساب الجبهة القومية...؟! علاقة الجبهتين بالاستعمار البريطاني، لها حظها من الغموض والالتباس، ففي حين ان انصار جبهة التحرير لا ينفكون يعلنون،تصريحا وتلمحيا، من أن الجبهة القومية حظيت بدعم بريطانيا، لأنها اضحت على عداء مع مصر عبد الناصر العدو الأول لبريطانيا، لتفضل بريطانيا ليس فقط تسليم الأمور لها بعد اعلان الاستقلال، إنما دعمها قبله إما إيعازا لجيش الاتحاد الاستعماري بالانضمام اليها في صراعها مع جبهة التحرير او بتسهيل سيطرتها على مناطق الجنوب، بدعم عسكري مباشر وصل حد قصف الطائرات البريطانية لمواقع جبهة التحرير.... وعوض ان تتجه الجبهة القومية بعد تسلمها الحكم الى التحالف مع بريطانيا كما يفترض من مقدمات الاحداث اتجهت شرقا للتحالف مع المعسكر السوفياتي، المناصب العداء لبريطانيا .. في المقابل، انهالت على جبهة التحرير اتهامات معاكسة من الجبهة القومية، انها حتى منذ نشأة فصائلها الأولى، صنيعة استعمارية، بمؤشرات رفضهم الكفاح المسلح حتى وقت متأخر من اندلاع ثورة اكتوبر، وبعد فقدانهم لرصيد كبير من شعبيتهم.. وفيما لو صحت هذه الاتهامات، كيف ولماذا تحولت الى النقيض، لتحظى بدعم مصر عبد الناصر بالمال والسلاح..؟!! ورغم الغموض والالتباس الذي ألقى بظلاله على كتابة التاريخ، والرغبة المحمومة لكل طرف ان ينسب لنفسه ما ليس له، ويغمط دور الآخر، بل يكيل له الاتهامات جزافا.. الا ان ما اتضح بجلاء ان الصراع بينهما على السلطة تزامن مع صراعهما ضد المستعمر، ليزداد ضراورة واحكاما كلما لاحت بشائر الاستقلال، في محاولة كل منهما فرض الأمر الواقع، وبسط سيطرته على أكبر مساحة ممكنة، ليغدو بمفرده ممثلا للجنوب.. ورغم محاولة دمجهما العام 1966م في تنظيم موحد هو جبهة التحرير، غير انه سرعان ما خرجت الجبهة القومية من هذا التحالف لتعود الى العمل المسلح بمفردها.. المؤكد أيضا ان تمدد الجبهة القومية في عدن بعدما كان لها السيطرة على الريف فقط، جاء على حساب جبهة التحرير حيث كانت عدن بؤرة نشاطها، ما دفع الأخيرة الى القيام بأعمال هستيرية ضد اعضاء الجبهة القومية، واغتيال احد قادتهم، ، وترهيب وملاحقة آخرين.. وبعدما تسلمت الجبهة القومية مقاليد الحكم في الجنوب في 30 نوفمبر 1967م، ، غادرت قيادات جبهة التحرير جنوباليمن الى شماله، وبالمثل لم تسلم الجبهة القومية ذاتها من الصراع، بين جناحيها اليميني بقيادة الثنائي قحطان الشعبي وفيصل عبد اللطيف الشعبي، وجناحها اليساري بزعامة عبد الفتاح اسماعيل وعبد الله باذيب ومحاولة كل فصيل القضاء على الآخر، حتى كانت حركة 22 يونيو 1969م التي كتب فيها النجاج للتيار اليساري في الجبهة القومية لينفرد بحكم الجنوب .. وليتم اعلان الحزب الاشتراكي الذي تولد في رحم الجبهة القومية بعد اقل من عشر سنوات، وبدوره لم يسلم الاشتراكي من صراعات داخلية وصلت ذروتها في يناير 1986م.. .. ومن المفارقات، ان قيادات الصف الأول للجبهة القومية في معظمها هي الآن في ذمة الله : قحطان وفيصل الشعبي من التيار اليميني اطاح بهما الصراع الداخلي للجبهة القومية في نهاية الستينيات، عبد الفتاح اسماعيل، صالح مصلح، علي عنتر، وعلي شائع، من التيار اليساري، قضوا في احداث يناير 1986م الدامية.. بخلاف قيادات جبهة التحرير: عبد الله الاصنج ، ومحمد سالم باسندوة، وعبدالرحمن الجفري، إذ ما يزالون أحياء يرزقون، بل ان باسندوة اضحى حاليا رئيسا لوزراء اليمن، وربما هي ارادة الله سبحانه وتعالى لهم في البقاء ليظهروا ما في جعبتهم من رصيد تاريخي ونضالي، بعد عشرات السنين من الشكوى من ان الجبهة القومية، ثم الحزب الاشتراكي، تغافلا عن الدور النضالي لمنظمة التحرير.. وان كانت قيادة الاشتراكي عادت مؤخرا الى مراجعة تجربتها النضالية لتعترف بدور جبهة التحرير في الثورة المسلحة ضد الاستعمار، ولتمنح بعض قياداتها أوسمة مختلفة. التعرض لأخطاء الماضي، لا يقلل بحال من الأداور النضالية لتيارات الجنوب السياسية في التحرر من الاستعمار، وفي دعم الثورة السبتمبرية خاصة في حصار السبعين، بيد أن هكذا فعلاً، ضرورة لتصويبها، لئلا نسير في ذات النهر مرتين، وكي لا نكرر الخطأ ليستحيل خطيئة..فالصراع الذي شهده الجنوب، وكان في بعضه دامياً مؤسفاً، هو امتداد للصراع التاريخي على السلطة، باعتبار ان الحاضر دوما في هكذا مجتمعات هو فقط مفهوم السلطة القائم على الغلبة وتفوق طرف على آخر، فارضا توجهاته على ما سواه،..حدث الأمر في الشمال، ويحدث دائما في المجتمعات المتماثلة سياسيا واجتماعيا، وهي مجتمعات لا تنفك ترتع من نهج شمولي يرفض الآخر ويقصيه، عوض القبول به والتعايش معه،..ولم تشهد بعد ولادة دولة وطنية تكفل للجميع ممارسة العمل السياسي دونما اقصاء او تمييز وتضمن مشاركة فعلية لكافة مكونات المجتمع في الحكم بطريقة أو بأخرى.