من عنوان الديوان( قصائد مُلوَّنة) للشاعر محمد إدريس نستشف دلالة أساسية تتعلق بموضوعه، والحقيقة أن مصفوفة النصوص الشعرية في الديوان، “الملونة” من حيث تنوع الموضوعات، واحدة من حيث السياق العام للتعبير الذي يتوسَّل الشعرية من خلال النثر الموصول بشكل من أشكال السجع الذي أُسميه “ السجعشعرية العامِّية”، من حيث أن شعرية الكلام تكمن في “ لوغاريتمات” التعبير المنطلق من أساس الكلمة وتجاورها الشرطي مع أُخرى، مما لانجده بسخاءٍ في النصوص الماثلة. والحاصل أن الشاعر يُقدِّم نفسه ضمن مسافة للتَّجسير بين النثري والشعري، بل إنه يقول بذلك في تناوله لسيرته الشعرية، مُقدماً بياناً نافلاً عن تلك السيرة، ودونما انتظار لآراء النقاد، وفي نوع من البوح الموشَّى بتغريداته المتناثرة وسط المجموعة الشعرية. هنا سنلاحظ تقاطع الشهادة الذاتية مع النصوص الشعرية، بالترافق مع تقديم أحكام قيمة سابقة على القراءة، وهذا ضرب من الاجتهاد الذي يتوخَّى منه الشاعر قولاً على قوله، ورأياً سابقاً على شعره!. إذا وقفنا على بعض النصوص الشعرية المختارة، يمكننا القول بأن نص ( ياحبيبتي يابلادي ) يتَّسم بسهولة المفردات، وعدم تنكُّب مشقة التخييل الشعري الزائد، وانتظام السياق الدلالي بطريقة “شعرنثرية”. وإذا وقفنا على قصيدة (أُحبك) سنجد أن السجع يبرز من سطح النص كما لو أنه “مفتاح صول” الموسيقي الذي تنتظم حوله الُّلحون .. وبالمقابل، إذا توقفنا أمام نص (الحب سيمفونية مشتركة) سنلاحظ أن العنوان يقدم بياناً ناجزاً عن المعنى، الأمر الذي يخل بتلك العتبة بالغة الأهمية في القصيدة، فيما يُمثل تُرجماناً سابقاً لما يريده الشاعر. وأخيراً وليس آخراً، إذا توقفنا أمام نص ( جدوى الشعر) سنجد أنفسنا أمام ذات الحالة، فمنذ البداية يقدم المؤلف دالة قيمية عن ماهية النص ذاته وكأنه يُفسِّر جدوى الشعر بالشعر!، وفي ذلك شيء من الإخلال الدلالي الكابح لرونق الشعرية القادمة من الشفافية العذبة الغامضة للنص، التي كعذوبة الألم !!. وفي ذات النص يعتمد المؤلف لازمة تنطلق منذ الكلمة الأولى لتعيد إنتاج تدويرها في كامل النص. وهنا سنجد درجة الشغف السجعي التكراري عند الشاعر، وهو مايتناسب في أُفق ما مع نصه السهل المُتداعي ضمن نسق وانتظام للمعاني واضحة البيان. ومن خلال السرد الذاتي الذي يتوزع النصوص المختارة للمؤلف يعترف صديقنا الأستاذ محمد إدريس بأنه صادر عن ثقافة الحداثة الشعرية، متجوهرٌ في قصيدة النثر، مختلفٌ ضمناً مع أنصار قصيدة العمود والتفعيلة، وله في ذلك واسع النظر المعهود عند كل من يكتب، مختاراً درباً من دروب الإبداع. بين النصوص الذاتية الوجدانية، وتلك الواصفة الشارحة، نصوص أُخرى تجاور سؤال الحال والمآل، فهو يتغنَّى بالقدس والجنوب، فيما ينبري للقضية، مُعبراً عن آماله وأحلامه المشروعة. هذه التناولة العابرة لنصوص محمد إدريس تقتضي بعض الاستنتاجات الهامة، ومنها على سبيل المثال: اللغة الشعرية الواضحة البسيطة أبعدته تماماً عن منطق التخييل، وفجوات المعنى، وتنوُّعات المَبْنى، التي تَسِم الشعر بالخصوصية الإبداعية لجهة الدهشة والغموض الشفيف المحمول على خوارزميات الكلام، وتعدد الدلالات، وغياب الحاضر، وحضور الغائب، وما إلى ذلك من قيم جمالية ما ورائية. وبهذا المعنى أرى في نصوص الشاعر وعداً إبداعياً يصلح لأدب الإرشاد والتوجيه التربويين، بالنظر لتكرار اللوازم السجعية كما أسلفت، ولكونها واضحة البيان حد الاحتياط. تقاطعه الحميد مع النثر الفني جعله يراهن على موسيقى الظاهر في الكلام، ويتوارى عن مشقَّة الموسيقى النابعة من تضاعيف الكلام، مما لسنا هنا بصدد تفسيره الزائد عن المدى المتاح في هذه العجالة. انتظام المعاني في “كرونولوجيا” الكلام تجعل من نصوصه المتنوعة والملوَّنة كما يشير إليها في العنوان .. تجعل منها مائدة شهيَّة للقارئ الفتي الذي لا يبحث عن المعاني المُقعَّرة، والأمواج المُترجرجة. حالات الاستغراق في الأنا الرائية، تجعل المسافة بين الشعري والوجداني في حالة تماهٍ شبه تام. وهذا شكل من أشكال الترف “الرواقي” الذي نلمسه في نصوص الشاعر. تلك المقاربات العابرة كالسحب المسافرة لا تغني عن قراءة نصوص الشاعر. في النص دوماً ما يتجاوز حد القول الواحد، والرأي الأوحد. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك