يدور في أروقة مؤتمر الحوار جدل واسع حول القضية الجنوبية وحلولها المطروحة، وأكثر الحلول ضفافاً على السطح الآن هو ما يسمى ب “الفيدرالية أو الحكم الذاتي” ويكاد أن يجمع المؤتمرون عليه كحل جذري للقضية مع بقاء الخلاف حول عدد الأقاليم.. فما هي الفيدرالية؟ وما خصائصها؟ وما شروط تطبيقها؟ وما مدى ملاءمتها للواقع اليمني الحالي ؟ ماهية الفيدرالية وخصائصها ومشروطياتها الفيدرالية بحسب موسوعة ويكيبيديا هي شكل من أشكال الحكم تكون السلطات فيه مقسمة دستورياً بين حكومة مركزية (أو اتحادية) ووحدات حكومية أصغر(أقاليم أو ولايات) ويكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة معتمداً أحدهما على الآخر وتتقاسمان السيادة في الدولة. والفيدرالية في النظرية الفيدرالية توفر نظاماً دستورياً قوياً تستند عليه التعددية الديمقراطية، وبأنها تقوم بتعزيز الديمقراطية النيابية عبر توفير مواطنة مزدوجة في مجمع جمهوري، فمن خصائصها أولاً: بإمكانها الحد من قدرة الدولة على انتهاك الحقوق عبر تقليص الصلاحيات الدستورية للبرلمان والصلاحيات التنفيذية للحكومة. ثانياً: أن العمليات القانونية لصنع القرار في الأنظمة الفيدرالية تحد من سرعة الحكومة على التصرف. أما بالنسبة للشروط اللازمة لتطبيق هذا النظام، فسأسرد باختصار ما ذكر في مجلة السياسة الدولية العدد 189 في الملحق الدوري ص8، أولاً: أن تحوي الدولة ذاتها عرقيات وإثنيات مناطقية متجذرة لم تنجح آليات الاندماج الوطني في صهرها في الدولة المركزية . ثانياً: أن تملك الدولة مساحة جغرافية شاسعة ومشتتة سكانياً، بما يجعل من الصعب سيطرة الحكومة المركزية عليها. ثالثاً: وجود اتفاق اجتماعي وديمقراطي بين المنضوين على بقاء الدولة الفيدرالية نظراً لوجود مصالح سياسية واقتصادية متقاطعة. رابعاً: صياغة سياسات وسلطات فيدرالية متوازنة بين المركز والأطراف تمكن الجانبين من تحقيق مصالح مشتركة، وبما لا يدفع أي إقليم إلى الاستقلال عن الدولة الفيدرالية. نماذج فيدرالية بالنظر إلى تلك المشروطيات فإن هناك دولاً فيدرالية عدة كرست كل أو بعض تلك المشروطيات، فالولاياتالمتحدة مثلاً لديها مساحة جغرافية واسعة تبلغ أكثر من 9 ملايين كم وملايين السكان وبها تعدديات عرقية وإثنية ودينية كبيرة ، وهي حقيقة لم تقسم إلى ولايات على أساس تلك التعدديات فكل التعدديات تعيش مجتمعة تحت سقف الدولة الأميركية، ولكنها قسمت نظراً للمساحة الجغرافية والديمغرافية الواسعة، بغية الحفاظ على وحدة الدولة ورغبة في توزيع الصلاحيات بطريقة عادلة بين الولايات ومع استئثار الحكومة الاتحادية بكاملها . هذا مثال على المستوى الغربي، أما على المستوى العربي، فجمهورية العراق مثلاً، ليست قائمة بالكامل على النظام الفيدرالي ولكنها جعلت للأكراد إقليما خاصاً سمي “إقليم كردستان العراق” وبحكم ذاتي مستقل نظراً لتمايزهم الإثني عن باقي العراقيين، واعتبر حلاً مناسباً للمشكلة الكردية إذ دعت الضرورة إليه. قد يقول قائل هناك نماذج فيدرالية أخرى لم تقم بالاعتماد على إحدى تلك الشروط، أقول نعم قد تكون تلك النماذج مرت عبر مراحل تطور ديمقراطي أو أنها تمتلك قدرة اقتصادية كبيرة مكنتها من تطبيق ذلك النظام، فدولة الإماراتالمتحدة رغم مساحتها الصغيرة إلا أن اقتصادها القوي ومواردها الاقتصادية الغنية جعل منها نموذجا عربياً فريداً للفيدرالية . هل بالإمكان فدرلة اليمن؟ وهذا هو المعترك السياسي الأصعب الذي تمر به اليمن، فالخيارات المقترحة لحل القضية الأكثر تعقيداً تكاد تكون غير مقبولة عدا الخيار الفيدرالي الذي سيعمل على تشطير اليمن إلى إقليمين من شمال وجنوب .. فهل بالإمكان تطبيق هذا النظام في الواقع الحالي؟ لو أسقطنا المشروطيات السالفة الذكر على الواقع اليمني لاستحال العثور على ما يعزز قيام نظام فيدرالي، فمساحة اليمن ليست بالكبيرة جداً وليس بها من التعدد الإثني والعرقي الذي يتطلب تقسيمه إلى أقاليم، وليست أيضاً بذات التطور الديمقراطي الراسخ الذي يؤهلها لتطبيق هذا النظام ؛ نتيجة للشرخ الكبير الذي تعرضت له مؤسساتها ومكاسبها، وغياب المؤسساتية في أدائها ومعاملاتها، ناهيك عن الدمار الاقتصادي والسياسي الذي أصابها ولا زال، لذلك فإن اعتماد النظام الفيدرالي في اليمن في الوقت الحالي قد يؤول إلى تفككها إلى دويلات عدة في ظل الاحتقان الحاد القائم في مناطق عدة ومع استمرار حيازة المجموعات الإرهابية للسلاح النوعي كالقاعدة والحوثي . كما أن الدعوات التي تنادي بالفيدرالية من إقليمين هي لا شك تضمر في باطنها شراً، وقد أعجبني تحليل للأستاذ عبدالناصر المودع في مقال أسماه “ الفيدرالية من إقليمين ووهم الانفصال المخملي “ والذي تم نشره يوم الاثنين 16 من سبتمبر في صحيفة عدن الغد، حيث قال “ فعلى عكس ما يدعو له الكثيرون، من انفصال ناجز وفوري، نجد أن الانفصاليين المشاركين في مؤتمر الحوار، من بعض قادة الحزب الاشتراكي ومن يدعون تمثيل الحراك الجنوبي، يطرحون خطة انفصالية أكثر واقعية وذكاء من أولئك. فهؤلاء يدركون أن الانفصال الناجز والفوري ما هو إلا ضرب من الخيال، في حالة الجنوب الراهنة، حيث لا وجود لمؤسسات إدارية وأمنية وسياسية قادرة على استلام وإدارة الدولة الجنوبية التي يحلمون باستعادتها. ونتيجة لهذا؛ فإنهم يخططون لتأهيل الجنوب ومؤسساته خلال الفترة الانتقالية (3 سنوات) ليتمكن من إقامة الدولة الجنوبية الموعودة “ وهذا تحليل واقعي جدا ويوضح مدى حجم الخطورة والشر الذي يحدق باليمن في قادم الأيام إذا لم يتم التعامل بحذر مع المعطيات الحالية وصياغة القرارات السياسية بأسلوب يحفظ الوحدة الوطنية ويقلل من فرص الانفصال. اليمن بحاجة إلى «فيدرالية بحكم الواقع» لا يمكن استبعاد الحل الفيدرالي بتاتاً لمعالجة الأزمة اليمنية ، فهناك ما يسمى ب “فيدرالية بحكم الواقع” وهو نظام مشابه لمضمون الفيدرالية غير أنه لا يتبنى تقسيم البلاد جغرافياً إلى أقاليم أو ولايات وبقانون رسمي ينص على ذلك، كما هو الحال في جمهورية الصين الشعبية . فالدولة الاتحادية (الموحدة) قد تشبه الفيدرالية في البنية الإدارية، وذلك عبر منح السلطات المحلية في المحافظات صلاحيات واسعة (أو كاملة) للتعامل مع القضايا الاقتصادية ولتطبيق السياسات الوطنية عن طريق قرار من مجلس النواب وبرقابة حكومية، وبهذا يتم تحويل الحكم بيروقراطياً من المركزية الإدارية إلى اللامركزية الإدارية . وأعتقد أن (الفيدرالية بحكم الواقع) هي الحل المناسب للواقع اليمني حالياً خصوصا في هذه المرحلة الانتقالية العصيبة. خاتمة المرحلة الراهنة بحاجة أكثر إلى التفكير بموضوعية والتروي في اتخاذ القرارات المفصلية وإلى التعامل مع القضايا الوطنية الحساسة بأسلوب هادئ غير متهور، وعلى أعضاء مؤتمر الحوار الوطني استشعار المسؤولية الملقاة على عاتقهم وأن لا يلقوا باليمن إلى الهاوية باتخاذ القرارات السلبية على خلفية تعصبية أو حزبية أو لإرضاء أطراف داخلية أو خارجية مشبوهة لا هم لها سوى تدمير اليمن والعبث بمكتسباتها ومقدراتها وزعزعة أمنها وتفريق مواطنيها، والله الموفق . [email protected] رابط المقال على الفيس بوك