قديماً كتب المفكر ابن خلدون مقدمته التي أسهب فيها عن الاستبداد, واصفاً بيئته وحاضنة فكره العبودي, ليأتي بعده الكواكبي في سفره الخالد ومؤلفه العظيم طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, منظراً أيضاً لطبيعة المستبدين التي ربما عايشها ونعايشها نحن اليوم, كما عايشها ثوار 26 سبتمبر التي أرادوا منها تقويض الاستبداد فوقعت في مشكلات كثيرة وحروب أخرت كثيراً دون تحقيق أهدافها كاملة غير منقوصة.. فكل ما نعرفه عن ثورة 26 من سبتمبر أنها ثورة ضد الاستبداد والجهل والتخلف والمرض, وهو الاستبداد الفردي الذي طالما وصف بالكهنوتي والظلامي الذي رزح الشعب تحت وطأته, يعاني من كافة الأمراض والآفات, التي فتكت وأنهت كل معنى سام للحياة فيه, فتحولت العربية السعيدة إلى بلاد واق الواق البعيدة عن سبل الحضارة والرقي والتقدم, فكانت الثورة حينها بعد إرهاصات كثيرة ومقدمات, أفضت إلى حكم جمهوري وإن كان صورياً وديكورياً أي فردياً ومستبداً كما كشفت عن ذلك ثورة شبابية ربما كانت رد اعتبار لتضحيات الثوار الأوائل, ممن حلموا بيمن تسود فيه قيم الحرية والعدالة والحق.. فحين نسترجع هذه الثورة ونتوغل في أدبياتها يجب أن نبتعد عن التمجيد والتغزل وإلقاء العنتريات التي لم تفد طيلة عقود, فلا مجال للحديث عن منجزات وهمية، والتقعر بمصطلحات أخرى من قبيل الحرية والعدالة والحق والتشارك, فهي قد تظل مجرد مسميات منقولة حرفياً فقط ما لم يكن هناك عمل على أرض الواقع, فالحرية والحق مثلاً كمصطلحين قد تكتب عنهما المقالات وترطن بهما الخطب، ما لم يوجد فكر يسعى لأن يتطور وينتج واقعاً تحررياً يسود فيه التقدم والبناء, بأن نحيا بحرية وسلام, فهي الحرية بمعناها السامي, وهو الحق بأصالته وتوافقيته مع تكويننا ووجودنا في هذا الوجود الذي ارتبط بالحق وهو الله عز وجل.. فهناك من يريد لنا حرية ولكنها مفصلة لأهوائه, لا للحق الذي يجب أن يتبع حرية لصيقة بالاستبداد ومتناغمة مع القوي, ومن يمتلك السلاح ومن لديه القدرة على الطغيان والظلم والقتل والاعتقال ومصادرة الأموال, فهو يستأثر بالسلطة دون خضوع لقانون، ودون النظر إلى رأي المحكومين، بل هو حكم قائم على الاستقلال بالرأي، والأنفة عن قبول النصيحة، وافق الشرائع أو خالفها.. فثورة 26 سبتمبر التي نعيش اليوم ذكراها كثورة خالدة, قاومت الاستبداد ودكت من معاقله وحطمت من قيوده, التي أدمت أيدي اليمنيين عهداً طويلا, كل ذلك نعم..! لكن تظل بأنها ثورة رافقت ثورات أخرى في الوطن العربي, أتت بحكومات ادعت الديمقراطية، وتفننت في إذلال الشعوب بطرق أخرى من الاستعباد والظلم, فهي ديمقراطيات لا يوجد دليل واحد على تطبيقها، أي لم ينته الاستبداد تماماً, والشاهد ثورات ربيعية ومخاضات مازالت تتكون هنا وهناك, فاضحة لطبيعة النفسية للحاكم العربي منذ الجاهلية التي تطغى عليها عظمة الاستبداد والطغيان, متوهماً الكمال، وامتلاك الحقيقة الكلية التي لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.. فالاستبداد مازال يتسيد المشهد, ترنو الجموع الثائرة هنا وهناك للقضاء عليه وتأسيس حكم مدني عادل يقضي على عقلية طالما تسيدت وصالت وجالت وسامت الناس صنوفاً من العذاب, تحت مسميات عدة ومرجعيات ما أنزل الله من سلطان من باب الفحولة والذكورة والبطولة المزيفة فغدت مثل هذه الأفكار هي المسيطرة حتى على الرجل البسيط في بيته الذي يُعد في أغلب الأحيان ديكتاتوراً مصغراً ونموذجاً للاستبداد.. فثورة 11 فبراير جاءت أيضاً للقضاء على التوريث وتمجيد الأشخاص, أي على الاستبداد فمن هنا يظل الاحتفال بذكرى سبتمبر واسترجاع أدبياتها أثيراً على النفس وضرورياً ومهماً؛ لما له من تحفيز لإحياء كل القيم التي قامت من أجلها, والعمل من أجل إنهاء الصور المزيفة للحلم الحقيقي الذي حلم به آباؤنا وأجدادنا حين أسقطوا المستبدين وإن بقي سدنتهم, كما أن الاحتفال هذا العام له نكهة أخرى ومزيج آخر من الحلم, فللحلم بقية من وطنية وحب لهذه الأرض ولهذا الوطن الذي يريد منه البعض أن يتشرذم وينتهي ويزول, إذ نحتفل بعد ثورة شعبية عارمة أرادت تجديد الطموحات بقيام دولة قوية عادلة, كما هو الاحتفال في ظل حوار وطني نريده أن يتمخض ديمقراطية حقيقية تنتهي في إثرها الفوضى والمزاجية، فتحترم حقوق الإنسان وكرامته في جميع أنحاء البلاد، شمالاً وجنوباً، في حضرموت وصعدة والمهرة وتعز وعدن وصنعاء العاصمة, عندها سنجد الحل لجل مشكلاتنا, إذ سيحيا الناس سواسية في عقد اجتماعي لا مكان فيه للامتيازات القبلية أو الجهوية وغيرها.. رابط المقال على الفيس بوك