أعترف بأني عدتُ مندهشاً, ومشبعاً بالاندهاش في بيروت لا تستطيع كزائر - تطأ قدمك لبنان لأول مرة – إلا أن تمارس فعل الانبهار, ليس فقط لجمال الطبيعة, فكل البلدان فيها من روعة الطبيعة نصيب, ولكن لجمال الناس، تشعر هنا أن الجمال منبعث من الداخل, ليس مصطنعاً إنه جمال الروح الذي تأخذك معه نهدة لتتمنّى: لِمَ لمْ أولد هنا! تتأمل طريقة الناس في التعامل وأسلوبهم في التخاطب تصدّق ما يقوله المؤرخون أن لبنان كلمة سامية تعني الأبيض, وأنت تشم روائح الشوارع والعمارات وحتى الناس, تشعر بأن هناك «عطر واحد معمّم على السكان» - بتعبير صديقي هشام السامعي, وهي رائحة يؤكدها المؤرخون حيث يشيرون إلى أن إسم لبنان مشتق من «اللبنى» أي شجرة الطيب «اللبان او البخور», فللناس هنا رائحة الشجر, وللشجر رائحة الناس, ولا عجب أن تجد هنا العشق ما بين الشجر والبشر، ففي كل شارع وكل عمارة وكل بلكونة منزل شجرة تعانق لبنانياً, وزهراً يحتضن لبنانية. هذا الجمال «جمال الطبيعة و البشر», وهذا العشق الروحي بين الناس والشجر, انعكس على السلوك اليومي في الشارع العام, فرغم كثرة السيارات التي تنتشر كالجراد في شوارع ضيقة, إلا انك تستغرب من عدم وجود أزمة مرورية, يقود الناس سياراتهم بهدوء وذوق, وتستطيع أن تقطع الشارع بدون قلق على حياتك, يؤمن الجميع هنا بأهمية احترام الخصوصيات لا أحد يلتفت إلى التنصُّت على أحد, ولا أحد يفكّر بالتجسّس على غيره لا شيء مصطنع، الكل يحترم الجميع, الفضول غائب هنا تماماً كلٌّ يعمل ما يقتنع به ليس كمثلنا نحن قد نفعل الصواب إرضاءً للغير وقد نرتكب الخطأ مجاملة أو خوفاً ولا تستغرب أن تكتشف أن 65% من الدخل القومي للدولة اللبنانية معتمد على السياحة, والسياحة هنا مصدرها جمال الطبيعة والناس. في لبنان يدهشك التعايش العملي بين الأديان, والسلوك الراقي للمتدينين هناك ماذا يريد الله من عباده غير أن يعبدوه بدون تعصُّب وبدون صراخ وبدون احتكار لإسمه أو قتل للناس تحت سمائه, وفي وسط بيروت يمكنك أن تجد ثلاثة مبانٍ متجاورة, المسجد والكنيسة والمرقص, تتناغم بشكل مدهش, وترى المسلم والمسيحي واللامتدين في علاقات سلمية التعايش مدرسة هنا، 18 طائفة في بلد سكانه لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة, «سنّة وشيعة وموارنة وروم ارثوذكس وروم كاثوليك ودروز وطوائف أخرى». الأجمل هنا في مسألة الاحتراب الطائفي الذي اكتوت به لبنان هو أن الشعب اللبناني قرّر أن يحصر هذا الصراع في الأعلى حيث النُخب السياسية والثقافية, وقرّر أن يعيش؛ لقد «عشنا سنوات مريرة من الحرب, وفي كل لحظة يمكن أن تندلع, ولذا قررنا أن نعيش» – خاطبني لبناني, ويمكن القول: إنهم أدركوا أن مقرّرات الحياة سهلة, ولا داعي لتعقيدها, وكم اكتشفت أنا اليمني هناك قيمة الأغنية الأيوبية, «عش حياتك..». اللبناني ليس فقط جميل المحيا ولطيف المعشر هو أيضاً مواطن يحترم بلده الغني بتعدّد الثقافات وتنوّع الحضارات، صحيح أن بلده لا يستطيع أن يوفر له كل فرص العمل لكن لبنان علّمته القدرة على ابتكار الفرص من العدم حتى وهو مهاجر عنها، فنظام التعليم من أرقى النظم التعليمية في العالم، أغلب اللبنانيين يتعلّمون ثلاث لغات رئيسية «العربية والفرنسية والإنجليزية», بالإضافة إلى بقية اللغات عن طريق المعايشة, مثل: الأرمينية والسريانية, وعندما يهاجر اللبناني «أكثر من 8 ملايين نسمة مهاجر» إلى بلد آخر يعطيه هذا التعليم المتعدّد اللغات القدرة لخلق فرص عمل بدون أن يلجأ إلى التسوّل, بل إن الروح الحضارية التي تكمن في عمقه تجعله سهل التناغم مع البلد المستوطن فيه ليصبح جزءاً منه, وقد دهشت من لبناني يسكن في غانا يقول لي: لبنان هي موطني الثاني. أحياناً يحلو لي أن أتساءل: لماذا كل إنسان في العالم يجد ذاته في لبنان؟ هنا تجد الأسيوي والأوروبي والمشرقي والمغربي ووووإلخ, هل للأمرعلاقة بالموقع الجغرافي المتوسط؟ حيث تمثّل لبنان؛ الشمال الأوروبي والجنوب العربي والشرق الأسيوي والغرب الإفريقي, فيجد كل منا جزءاً من موطنه فيها, هل له علاقة بالامتداد الحضاري؟.. حيث سكن الجميع لبنان؛ المصريون والأشوريون والفرس والإغريق والرومان والعرب والأتراك والأوروبيون ووووإلخ, ومنذ القدم سكن الفينيقيون هنا «من أصول يمنية», وعملوا بالملاحة والتجارة. في مطار لبنان – والمطارات هي الوجه المعبّر عن أيّ بلد – يمكن أن تجد فيه موجزاً إعلانياً عنها عندما تراه من الأعلى لا تصدّق, صغير وبسيط, يطل على البحر بهدوء, وعندما تهبط, يستقبلك العاملون الأنيقون بذوق رفيع, يشعرك أنك في بيتك, وما أن تدخل بيروت وتحلّق عيناك في سمائها, ترى سرب الطائرات تهب من وإلى المطار في كل عشر دقائق, ومع هذا الإقبال الكثيف على مطار صغير, إلا أنك تجد المطار هادئاً والطائرات تُقلع وتهبط في أوقاتها المحدّدة, والمسافرون رغم كثرتهم يمرّون بشكل طبيعي وبدون ضجيج. ترنيمة: بيروت أنثى ساحرة تخطف لبّ الغريب, يكتحل بعينيها, وتغتسل بجسده.. لكنها سرعان ما تفر عائدة بجسدها تاركة قلبها معه, ويعود هو مترنماً بفيروز «راجعين يا هوى». [email protected]