في كل مساحة نظام لا بد أن يبقى حيز من الفراغ لبعض الفوضى، وفي كل مساحة فوضى كذلك لا بد أن يبقى حيز من الفراغ لبعض النظام. وهكذا فإن كل حركة مساحة سكون، وهذه المساحة من الفوضى أو السكون تشبه تماماً ذلك الشريط المصوّر بحركة بطيئة قادرة على إظهار التفاصيل الدقيقة التي لم تكن العين لتدركها في حالة النقيض منها. وإذاً فالوصول إلى مثل هذه المحطة الديناميكية أو الساكنة أمر في غاية الأهمية لأنه يصوّر باختصار نقاط الضعف أو القوة التي تميّزت بها فترة زمنية محددة من عمر المجتمع بكل ما يتغشاه من أحداث. وتعتبر حالة الفوضى التي يمرُّبها شعب ما خطوة أولى لتحقيق مساحة نظام متكاملة في شتّى مجالات الحياة تحت مظلة نظام قانوني مختلف عن ذلك الذي خضع له هذا الشعب أو ذاك، إن حالة الفوضى تلك تمثّل سلة نفايات ممتلئة بكل الأخطاء والتجاوزات والتجارب الفاشلة التي مارستها السلطات المختلفة وفق آلية خاطئة ومتناقضة مع احتياجات الشعب، لكن لا ينبغي أن تطول تلك الحالة من الفوضى وتستمر لدرجة أن يحدث التنافر بين قوى اجتماعية متطرّفة أو غير متطرّفة تسعى للاستفادة من كل فرصة صغيرة كانت أم كبيرة للنفاذ إلى قلب السلطة واستغلالها في مسألة التنظير وازدواجية الرؤى التي أصبحت حرفة البعض ومبتغاهم من الأوضاع الراهنة، ربما يكون باطن الأحداث اليوم مختلفاً عن ظاهرها، لكن يبدو أيضاً أن عوامل تطويرها وتوجيهها ستؤدي إلى إيجاد هوة كبيرة بين أهدافها المرئية وغير المرئية واقعياً، وفي كل هدف سيؤدي التخطيط للوصول إليه خسائر وطنية فادحة من الصعب تخيُّل مداها. من الجيّد أن يكون للسياسة محطات تاريخية تتوقف عندها دواليب الحكم أمام إرادات الشعوب ونزعاتها إلى الحرية والاستقرار والشعور بالأمن الاقتصادي، لكن ما يحدث في مساحة الفوضى السياسية في اليمن يسعى البعض إلى تقييد تلك الإرادات والحريات ويطمع في السيطرة على أمنها الاقتصادي داخلياً وخارجياً، حيث بدأت مسألة التناقض بين أهدافها منذ وقت مبكر، ولا زال الأمر معلّقاً بين فكّي السلطة القبلية والحكومية بعد ظهور نوع جديد من تلك الأهداف تقف خلفها بعض القوى بقصد التصفية لا بقصد التصنيف وتعديل الرؤى السياسية والاجتماعية، فيبدو أن الحسابات في سياسة البعض بدأت تتخذ طابعاً جديداً ومغايراً يتجه نحو العنف أكثر من توجهه إلى تعديل نظرية الدين والدولة بشكلها الحقيقي لا بهيئتها المستهلكة اليوم. إن مساحة الفوضى الوطنية التي عشناها في الفترة الماضية قد لا تبدو ذات آثار مرئية عميقة لكنها في الحقيقة تزداد اتساعاً وفق آلية قسرية لا تختلف كثيراً عن آليات سياسية قديمة سعت إلى إفقار الدولة لوظائفها الرئيسية لتكون حكراً على الأحزاب واتباعها من أصحاب النفوذ القبلي. لا بد من وجود الفوضى، لكن لا بد من وجود النظام أيضاً فبقاء أحدهما أو اختفاؤه مرتبط ببقاء أو فناء الآخر.