العرادة يعرب عن أمله في أن تسفر الجهود الدولية بوقف الحرب الظالمة على غزة    فلكي يمني يحدد أول أيام شهر ذي القعدة 1445    "القضاء في لحج يُثبت صرامته: إعدام قاتلين عمداً"    سقوط نجم الجريمة في قبضة العدالة بمحافظة تعز!    قصر معاشيق على موعد مع كارثة ثقافية: أكاديمي يهدد بإحراق كتبه    قناتي العربية والحدث تعلق أعمالها في مأرب بعد تهديد رئيس إصلاح مأرب بقتل مراسلها    "علي عبدالله صالح والزوكا شهيدان ماتا بشرف": دبلوماسي يمني يوجه رسالة ليحيى الراعي    دوري ابطال اوروبا .. الريال إلى النهائي لمواجهة دورتموند    أحذروهم في عدن!.. المعركة الخطيرة يقودها أيتام عفاش وطلائع الإخوان    الضالع تحت نيران الحوثيين: صرخة مدوية تطالب بوضع حدّ للعدوان الحوثي    أوامر بالقبض القهري وتجارة خمور وكمين أمني!.. بيان فاضح لمليشيات الحوثي بشأن محاولة اغتيال نقيب الصحفيين بصنعاء    اختيار المحامية اليمنية معين العبيدي ضمن موسوعة الشخصيات النسائية العربية الرائدة مميز    إنطلاق بطولة مأرب لكرة القدم بمشاركة 14 ناديا    مطالبات بمحاكمة قتلة مواطن في نقطة أمنية شمالي لحج    انفجار مخزن أسلحة في #مأرب يودي بحياة رجل وفتاة..    حقيقة ما يجري في المنطقة الحرة عدن اليوم    تراجع احتياطيات النقد الأجنبي بالصين في أبريل الماضي    دورتموند الألماني يتأهل لنهائي أبطال أوروبا على حساب باريس سان جرمان الفرنسي    اكتشاف مقبرة جماعية ثالثة في مستشفى الشفاء بغزة وانتشال جثامين 49 شهيدا    فريق شبام (أ) يتوج ببطولة الفقيد أحمد السقاف 3×3 لكرة السلة لأندية وادي حضرموت    الوزير البكري: قرار مجلس الوزراء بشأن المدينة الرياضية تأكيد على الاهتمام الحكومي بالرياضة    مدير عام تنمية الشباب يلتقي مؤسسة مظلة    الولايات المتحدة تخصص 220 مليون دولار للتمويل الإنساني في اليمن مميز    قمة حاسمة بين ريال مدريد وبايرن ميونخ فى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    مورينيو: لقد أخطات برفض البرتغال مقابل البقاء في روما    تستوردها المليشيات.. مبيدات إسرائيلية تفتك بأرواح اليمنيين    الاشتراكي اليمني يدين محاولة اغتيال أمين عام نقابة الصحفيين اليمنيين ويدعو لإجراء تحقيق شفاف مميز    لماذا تقمع الحكومة الأمريكية مظاهرات الطلبة ضد إسرائيل؟    عصابة معين لجان قهر الموظفين    الحكومة الشرعية توجه ضربة موجعة لقطاع الاتصالات الخاضع للحوثيين.. وأنباء عن انقطاع كابل الإنترنت في البحر الأحمر    سيتم اقتلاعكم عما قريب.. مسؤول محلي يكشف عن الرد القادم على انتهاكات الحوثيين في تهامة    استشهاد وإصابة 160 فلسطينيا جراء قصف مكثف على رفح خلال 24 ساعة    تحديث جديد لأسعار صرف العملات الأجنبية في اليمن    رغم إصابته بالزهايمر.. الزعيم ''عادل إمام'' يعود إلى الواجهة بقوة ويظهر في السعودية    إغلاق مركز تجاري بالعاصمة صنعاء بعد انتحار أحد موظفيه بظروف غامضة    الحزب الاشتراكي اليمني سيجر الجنوبيين للعداء مرة أخرى مع المحور العربي    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    نيمار يساهم في اغاثة المتضررين من الفيضانات في البرازيل    زنجبار أبين تُودّع أربعة مجرمين... درس قاسٍ لمن تسول له نفسه المساس بأمن المجتمع    قصة غريبة وعجيبة...باع محله الذي يساوي الملايين ب15 الف ريال لشراء سيارة للقيام بهذا الامر بقلب صنعاء    وداعاً صديقي المناضل محسن بن فريد    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين وتسقط طائرة مسيرة في خليج عدن مميز    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن الكريم أصل اللغة
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 29 - 11 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.وسأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن لغة العرب هي أولى اللغات، وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفاً(1)، أو اصطلاحاً، واستدلوا بأن القرآن كلام الله هو عربي، وهو دليل أن لغة العرب أسبق اللغات. ومنهم من قال: لغة العرب نوعان: إحداهما: عربية حمير، وهي التي تكلموا بها من عهد هود ومن قبله، وكانت قبل إسماعيل. والثانية: العربية المحضة التي نزل بها القرآن، وأول من نطق لسانه بها إسماعيل عليه السلام. فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة يحتمل أمرين، إما أن يكون اصطلاحاً بينه وبين جرهم النازلين عليه (النازل عليهم) بمكة، وإما أن يكون توقيفاً من الله(2). هكذا كان كلام بعض القدماء، وكان البعض الآخر يعرف أن إسماعيل لم يعرف العربية إلا عن طريق جرهم، الذين كانوا أسياد مكة، وهم يمنيون، حكموا مكة من وقت مبكر، وقد صاهرهم إسماعيل عليه السلام فتكلم لغتهم العربية بدلاً من السريانية لغة أبيه. وإن كان الأصل من اليمن من (كلد يافع).والقصة معروفة ومبسوطة في أمهات الكتب القديمة ولا غبار عليها، ومن الكتابات الجاهلية التي تعود عهود بعض منها إلى ما قبل الميلاد (بزمن طويل) حصل الباحثون على علمهم بلغة العرب الجنوبيين وبحضارتهم، وقد تبين لهم منها أن تلك الكتابات تمثل لغة متطورة ذات قواعد نحوية وصرفية، وأنها كانت لغة التدوين عندهم، وقد استعملت مصطلحات فنية تدل على وجود حضارة لدى الكاتبين بها، وقد دام التدوين بها إلى ظهور الإسلام.
هذه شهادة على أن اليمنيين كانوا يمتلكون منذ القدم خطاً له قواعد وأصول ونحو وصرف، وأنه كان معروفاً ومتداولاً بين الناس، وأن اليمنيين كانوا يكتبون تاريخهم وثقافاتهم في أكثر من مادة وبأكثر من وسيلة، وأنهم كانوا يتداولونها ويحتفظون بها كابراً عن كابر. أما علمنا بقواعد نحو وصرف اللغة العربية الشمالية، التي نسميها اللغة الفصحى، فمستمد من الموارد الإسلامية فقط، لعدم ورود نصوص جاهلية مدونة بها، ولهذا اقتصر علمنا بها على ما جاء عنها في الموارد الإسلامية ليس غير. أما النصوص المعدودة القصيرة التي تبدأ بنص النمارة. وتنتهي بكتابة (حران اللجاء) التي يعود عهدها إلى سنة (463) من سقوط (خبر) (خيبر) المقابلة لسنة (568) للميلاد فإنها وإن كانت قد كتبت بعربية قريبة من العربية المحضة، إلا أنها تمثل في الواقع لهجة من اللهجات العربية الشمالية، متأثرة بالآرامية (النبطية) ولذلك لا أستطيع اعتبارها نصوصاً من نصوص العربية الفصحى الخالصة، ثم إنها قصيرة، أطولها نص النمارة المدون بخمسة سطور فقط، ويعود عهده إلى سنة (328) للميلاد، ولهذا لم نتمكن من استنباط شيء مهم منه، يفيدنا في تعيين صرف ونحو العربية الفصحى، أو هذه العربية التي دونت بها؛ ولهذه الأسباب صار علمنا اليوم بقواعد وبنحو كتابات المسند، والكتابات الثمودية، واللحيانية، والصفوية، والنبطية مستمدين موارد هي أقدم جداً من الموارد الإسلامية، يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد، ووثائق هذه العربيات جاهلية أصيلة لا يشك أحد في أصالتها. أما العربية الفصحى فنصها الوحيد الذي لا يشك أحد في أصالته هو القرآن الكريم فلا نص بها قبله، وهو أطول نص ورد إلينا بهذه العربية وبسائر العربيات الأخرى بغير استثناء.
ولعلماء العربية بحوث مستفيضة في الإعراب، كما أن للمستشرقين بحوثاً فيها وقد ذهب بعض منهم إلى أن بعض اللهجات العربية القديمة مثل لهجة قريش لم تكن معربة، أو أنها لم تكن على هذا النحو من الإعراب الذي ثبته وضبطه علماء العربية في الإسلام، حتى ذهب (كارل فولرس) إلى أن القرآن لم يكن معرباً في أول أمر نزوله، لأنه نزل بلسان قريش، وهو لسان غير معرب، وإنما أعرب حين وضع علماء اللغة والنحو (قواعد العربية) على وفق لغة الأعراب المعربة، التي أخذوها من تتبعهم الشعر الجاهلي وكلام الأعراب.
ولا شك أن اللغة العربية شاملة لكل جوانب الحياة، واسعة المدى، كثيرة المترادفات، وأنها على حد تعبير بعض العلماء لغة لا يحيط بها إلا نبي، وأن الذي وصلنا من كلام العرب علماً وأدباً (شعراً ونثراً وحكماً وأمثالاً) ما هو إلى القليل؛ لأن معظمه ضاع بفعل عوامل كثيرة، منها تطاول العهد وضياع البعض وتلفه، وإلغاء البعض الآخر، وعدم الاكتراث به باعتباره من أعمال الجاهليين ...إلخ.
أما خصائص اللسان العربي التي تميزه عن كثير من الألسن فهي الأصالة وهي الإيغال في القدم (الجذور) وهو العنصر الأول للأصالة والثمار، أي أنه ما زال مثمراً حتى يومنا هذا، وهو العنصر الثاني للأصالة، ويتجلى العنصر الأول في الصفات التالية:
أ- الكلمة الجملة، وهي مرحلة أولية من مراحل نشأة الألسن، وتتجلى بوجود الضمير المتصل، والضمير الغائب، كقولنا (قلنا) وبأسماء الأفعال فكثير من الأفعال العربية ما زال يحاكي الطبيعة حتى يومنا هذا (عواء- مواء- فحيح نعيق- صهيل- خرير- حفيف- ضجيج...إلخ.
ب- التطابق بين الحركة الصوتية للفظ الحرف، وبين مدلول الحرف مثل (ف) فعند لفظها يفتح الفم (الشفتان) فترى الأفعال التي تبدأ بها ك(فتح، فرق، فك، فض، فقر، فلق، فرض، فلس) تدل على فتح، والميم بلفظها عبارة عن ضم الشفتين، فترى أن كل التحام بين اثنين يبدأ بالميم (مبارزة، مقاتلة، منافسة، مجابهة، مقاومة، مشاركة...إلخ) ومكان تجميع الأشياء تبدأ بالميم (مكتب، ملحمة، متجر، مدرسة، مصح، معسكر، ملعب، ملجأ، مصب...إلخ) فإذا جمعنا الفاء والميم نتجت لدينا كلمة (فم) وهو عضو الفتح والضم كفم الإنسان، وفم المعدة، وأما عضو الفتح بدون ضم فهو (فوهة) البندقية وفوهة البركان، ولا نقول: فم البندقية أو فم البركان.
ج- كثرة الصفات، النعوت للاسم الواحد، فللسيف اسم واحد ونعوت كثيرة، فالمهند هو السيف المصنوع في الهند (بلد المنشأ) وهذه تعكس مرحلة من مراحل تطور الألسن حين لم يكتمل التجريد. بهذا نرى أن اللسان العربي يعكس كل مراحل تطور نشأة الكلام الإنساني في منطقة الشرق الأوسط. وعليه نستطيع القول أن جميع الألسن التي كانت في هذه المنطقة واندثرت ما هي إلا مراحل لتطور هذا اللسان الذي وصل إلى مرحلة اللسان العربي المبين عند نزول الوحي، وأن سكان هذه المنطقة هم عرب بالمفهوم التاريخي، لا بالمفهوم القومي؛ إذ لا يوجد شيء اسمه القومية السامية، لأن القومية يحددها اللسان، فما هو اللسان السامي؟ والقول بالسامية وهم من وجهة نظر القرآن. والذي يدعي أن اليهود ينتسبون إليها (سام بن نوح) واهم أيضاً، لقوله تعالى عن بني إسرائيل أنهم {ذرية من حملنا مع نوح (الإسراء3( .يورد نصاً آخر معززاً لما هو مؤكد من أن قريشاً لا تملك لغة مستقلة، كما أنها ليست فصيحة بما يكفي... لقد وصلنا اللسان العربي المبين من حيث المبنى في التنزيل الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، أما المعنى فهو نسبي إنساني يشارك السامع المتكلم في صنعته. هذا اللفظ الفصيح وصلنا من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش) والفصاحة في اللسان (اللفظ) فهو يبين هنا أن قريشاً ليست فصيحة، وأن النموذج الفصيح للتنزيل الموحى هو نطقه صلى الله عليه وسلم، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً بالخط، وجاءه التنزيل منطوقاً لا مخطوطاً، فنطقه صلى الله عليه وسلم هو اللسان العربي الفصيح، علماً بأن نطقه للتنزيل كما نطقه هو صلى الله عليه وسلم ليس له علاقة بنطق قريش للسان العربي، وهذا النطق وصلنا إلى اليوم عن طريق تواتر الحفظ لنطق التنزيل كما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم).
وعن أهمية اللغة جاء في المجلد الأول: واللغة والكتابة لهما دور خطير في عملية الاتصال بين البشر، ونقل المعلومات من شخص أو مجتمع لآخر، في شكل أصوات منظمة أو كتابة منتظمة، واللغة هي السمة التي يتميز بها الجنس البشري عما سواه من الكائنات الحية، وقد يشمل كل الوسائل التي تجعل الإنسان قادراً على اكتساب خبرة، ومعرفة معاصريه وأسلافه، وهي في نفس الوقت وسيلة لتطور وصقل العقل البشري. فالمقولة (في البدء كانت الكلمة) قمة التعبير عن عمق مدلول اللغة وخطورة الكلمة، وأهمية التعبير المنطوق. فالكلمة حددت بداية الإنسان وفصلته عن سائر الحيوانات غير العاقلة. ونعني بها الكلمة الهادفة ذات الدلالة والمعنى، وليس هنالك اختراع يساوي في أهميته وقوته هذا الاختراع، فبالكلمة صار الإنسان إنساناً، وأصبح بالتالي معجزة الله في الأرض). طبعاً هذا بعد نفخ الروح.
(لقد بدأت الإنسانية حين جلس مسخ نصفه حيوان ونصفه إنسان، جلس متربعاً في كهف أو شجرة، يشحذ رأسه شحذاً ليخلق أول اسم من الأسماء الكلية، أول رمز صوتي يدل على طائفة من أشياء متشابهة، كاسم منزل الذي ينطبق على المنازل كلها، وإنسان الذي يدل على أفراد الإنسان جميعاً، وضوء الذي معناه كل ضوء لمع على يابس أو ماء.فبهذه الأسماء الكلية تمكن الإنسان من إدراك الأنواع كونها مغايرة للأشياء، كما أدرك صفات الأشياء أشياء كونها متميزة عن موصوفاتها. وبالتالي لقد فهم الكثير من الأشياء المجردة عن صفاتها. أما عن الأفعال فقد أعطى كل حركة أو فعل مدلولاً أو مصطلحاً يدل عليه ويمنحه المضمون. ويضيف: واللغة إحدى صور الحضارة، ولا يمكن وليس بالإمكان تصور حضارة ما دون أن تكون لها لغة تعبر عنها. فالحضارات الإنسانية القديمة اليمنية والسومرية والفرعونية (وكلها متأثرة بالحضارة اليمنية) (عاد وثمود) والهندية والصينية، والحضارات الأفريقية والأمريكية التي رافقتها، أو جاءت بعدها كالرومانية واليونانية ...إلخ كلها كان لها لغة تعبر عنها وتصورها للآخرين (واللغة تعبر عن الحضارة من وجهتين رئيسيتين: المفردات، والتراكيب، فالمفردات تدل على مدى سعة خبرات المجتمع وعمقها؛ وبالتالي على نوع الحضارة التي تميز بها، فحينما تكون الخبرات محدودة بحكم غلبة الطبيعة الجغرافية أو التخلف الاقتصادي أو العلمي أو سواه، تأتي مفردات اللغة محدودة المعاني ضيقة الدلالة.فاللغة إذن هي إنجاز إنساني عبقري، وإبداع فكري، استلهمها الإنسان من معاناته وخبراته وتجاربه، تلبية لاحتياجاته ولدواعي تطوره، وهي قاسم مشترك بين الناس تختلف باختلاف الأرومة وتتأثر بعاملي الزمان والمكان وحينما نطق الإنسان بكلمات ذات دلالة، واستطاع إيصالها إلى غيره، صارت الكلمة همزة الوصل ووسيلة الاتصال ونقل الأفكار والمعلومات، وكانت الرموز لغة الاتصال قبل ذلك (واللغة مقدرة بشرية عالمية، ولم يسمع بجماعة بشرية (إنسانية) لا لغة لها. وإذا أخذنا هاتين الحقيقتين معاً، فإن ذلك يوحي إلينا أنه قبل أن ينتشر الإنسان العاقل على سطح الأرض في المحيط الحيوي من شرق إفريقية المدارية إذا صح أن هذه هي المنطقة التي ظهر فيها هذا الصنف من النوع البشري لأول مرة، فإن البشرية ككل ولا ريب في سبيل استعمال النطق ولكنها لم تكن قد طورت هذه الإمكانة بعد. وهذه الفرضية قد تفسر لنا كيف تم للمجتمعات البشرية ثم الإنسانية جمعاء أن تكون لها لغة.
الفصل الرابع
عن اللغة الفصحى
إن اللغة العربية الفصحى امتداد طبيعي ووليد شرعي للغة العرب القديمة، سواء أكانت متعددة أو من أم واحدة هي اللغة اليمنية وخطها المسند. وقد جاءت نتيجة مخاض طويل، ومرت عبر متعرجات ومنعطفات تطورية خلال آلاف طويلة من السنين ليس من السهل تحديد الزمن الذي اتخذت فيها لغتنا العربية شكلها النهائي، الذي تصوره الفصحى الجاهيلة، وهو شكل كامل النضج، سواء من حيث الإعراب والتصريف والاشتقاق، أو من حيث التنوع الواسع في الجموع، والمصادر وحروف العطف وأدوات الاستثناء والاستفهام والنفي والتعريف والتنكير، والانتهاء بالممنوع من الصرف إلى نظام تام منضبط، مضافاً إلى ذلك احتفاظها بحروف ومخارج لم تحتفظ بها لغة سامية احتفاظاً كاملاً، وهي الثاء، والخاء، والذال، والظاء، والضاد، والغين. وهذه الصورة التامة لفصحانا لم نصل إليها إلا بعد مراحل طويلة من النمو والتطور، وقد رأينا نماذج منها في نقوش كتبت بأبجدية مشتقة من أبجدية (المسند) الجنوبي، وهي نقوش الثموديين واللحيانيين والصفويين، ونقوش أخرى كتبت بأبجدية الآراميين، وهي نقوش النبطيين. وأين من هؤلاء العاديون؟ فالمسند ينتمي إلى (عاد) غير أنها جميعاً لا تصور هذا التكامل الذي انتهت إليه الفصحى. والذي تمثله نصوص العصر الجاهلي منذ أواخر القرن الخامس الميلادي، وأوائل السادس، فهل تم ذلك التشكل النهائي مع ظهور الشعر الجاهلي، أو أن ذلك تم في حقب أبعد منه؟ ما حدود هذا البعد الزماني؟ !!. ليست الإجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة؛ بسبب بسيط أو طبيعي وهو أنه ليس بين أيدينا نقوش كثيرة، نستطيع أن نعرف منها بالضبط الزمن الذي يعد بدءاً حقيقياً للفصحى. وحقاً عثر علماء الساميات -كما قدمنا في غير هذا الموضع- على نقوش تمتد من أواخر القرن الثالث الميلادي إلى القرن السادس، غير أنها قليلة ثم هي قصيرة وأكثرها هي أمور شخصية، وليس بينها نص أدبي أو نص طويل، يمكن أن نتبين في تضاعيفه جملة الخصائص اللغوية لتلك اللغة، التي كان يتحدث بها كتبة هذه النقوش، وجميعها على لسان الشخص الثالث الغائب، وليس بينها نص على لسان مخاطب أو متكلم، وهي تخلو خلواً تاماً من الشكل والحركات وحروف العلة وعلامات الإعراب.
هذا الاضطراب والتخبط يعود إلى:
1- عدم فهم العرب بدايات تاريخهم الحقيقي!!
2- الاجتزاء الزمني والكمي لحضاراتهم وثقافاتهم!!
3- تقبل ما اشتملت عليه كتب التراث كمسلمات دون إخضاعها لأي تمحيص بما في ذلك كتب اليهود المحرفة!!
4- اللهث وراء ما يقوله الأجانب عن تاريخنا وتراثنا كحقائق علمية ونقلها دونما وعي أو تمحيص!!
فالعرب اكتفوا ب(10%) من تاريخ حضاراتهم واعتبروه تاريخهم، فبدلاً من أن يبحثو في تاريخ عاد وثمود قبل حوالي عشرة آلاف عام، يبدأون تاريخهم مع زمن ملكة سبأ التي عاصرت النبي سليمان بن داود عليه السلام في أوائل القرن العاشر ق.م. وبذلك يكونون قد أضاعوا حوالي 90% من تاريخهم الحضاري، الذي أشاد الله به في أكثر من خمسين آية من آيات القرآن الكريم وأربع من سوره . وكانت مملكة سبأ وما زامنها من دول صغيرة إحدى الحضارات القديمة، وكان العاديون هم الذين بنوا (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد) وهم الذين بنوا في كل ريع آية، وهم الذين اخترعوا خط المسند، واكتشفوا واستعملوا عشرات المعادن، وقاموا بالفتوحات، وأنشأوا عشرات المدن خارج حدود اليمن منها مدينة مكان مدينة الإسكندرية، وبنوا المنشآت الزراعية الموصوفة بالآيات والمعجزات ومثلهم كان قوم ثمود الذين عاشوا في نفس الأرض، وجاءوا بعدهم مباشرة واقتفوا آثارهم في البناء والتحضر وتعليم الآخرين أصول الحضارة، ونقلوا إليهم روافد الثقافة، ومعلوم أنه لا حضارة بدون علوم ولا علوم بدون كتابة، إذن فالكتابة مخترع يمني قبل عشرة آلاف سنة، والحضارة إبداع يمني صاحبت اختراع الكتابة. أما عن الاجتزاء الزمني للتراث الثقافي فإن العرب هنا قد وقعوا في غلطة لا تغتفر؛ ذلك أنهم تاهوا في بيداء البحث عن بدء تاريخ تراثهم الثقافي، وكان ذلك البحث خارج إطاري الزمان والمكان، بل وكانوا ولا يزالون يبحثون ويدرسون تراثاً ليس تراثهم، وثقافة ليست ثقافتهم. وكما أضاعوا تاريخهم فقد أضاعوا أيضاً تراثهم الفكري والحضاري معاً!!وإذا كان تاريخ العرب يعود إلى أيام عاد قبل عشرة آلاف عام، واستمر متسلسل الحلقات/ عاد، ثمود، قحطان، يعرب، يشجب، سبأ، كهلان، حمير، واستمرت دولة حمير دهوراً نشأت في ظلها دول كثيرة كان من ضمنها، معين، وسبأ، وحضرموت، وقتبان، وأوسان، ثم دول التبابعة، والأقيال والأذواء... إلخ. أقول: إذا كان تاريخ العرب في الجزيرة العربية حلقات متواصلة، وكانت تنشأ خارج الجزيرة دول كان لليمنيين دور كبير في إنشائها وبناء حضاراتها، منها حضارات الرافدين، والشام، ومصر، فإن التراث الفكري لم ينقطع. فقد كان (المسند) لا يغطي أجزاء الجزيرة فحسب، بل كان يتجاوزها إلى خارجها، كما أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة. فالخطوط البابلية والآرامية والعبرية والقبطية والصفوية والثمودية، وأخيراً النبطية ما هي إلا خطوط متفرعة من الخط الأب (المسند). فالمسند هو أبو كل هذه الخطوط بلا جدال، ومنها اشتق خط الجزم أو تطور عنه وكتب به القرآن الكريم. على أنا لا بد أن نشير هنا إلى أن العرب قد خسروا خسارة فادحة حين تركوا تراثهم الفكري واللغوي الأساسي الذي استوطن اليمن. وبدأوا حياتهم منذ ما يقرب من ثلاثمائة سنة أو ربع قرن قبل ميلاد الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا تداركوا ذلك لكانوا قد أضافوا إلى تراثهم الفكري واللغوي أضعاف أضعاف. وقد عبر عن هذا أكثر من عالم من علماء عصر صدر الإسلام وما بعده!!. أما عن استقبالهم ما كتبه السلف منذ القرن الثاني الهجري وما بعده دونما تمحيص أو نقد، فقد أوقعهم في الكثير من الأخطاء والمزالق هي هذه التي نعاني منها الآن، والتي مثلها ذلك المدعو طه حسين!! فتلك الكتب قد كتبت في ظل ظروف موضوعية أحداث ومؤثرات ووقائع وأمزجة شخصية وتجاهل بتاريخ وحضارات الأجداد العظام، اللاتي أشاد بها القرآن الكريم، وقد كانت بداية هذا الانحراف منذ حادثة (سقيفة بني ساعدة)!!. وكان لابد لهذا التراث من إعادة القراءة والغربلة والتمحيص، وإعادة كتابة تاريخ العرب الذي لم يكتب بعد. والذي يساوي 90% وهو تاريخ حضارتهم العظيمة وتاريخ معزتهم وشرفهم. فهل سيعي العرب هذا؟ ومتى؟!وعن ما يكتب الأجانب عن تاريخنا وتراثنا فإن موقف معظم مفكرينا وكتابنا يثير الاشمئزاز والسخرية، فهم يتلقفون كل ما يكتبونه من غث وسمين، من صواب أو خطأ دون أي إمعان فيما يكتبون أو اكتراث بما يقصدون، كون البعض منهم يكتبون فيما لا يعرفون، ويصدرون أحكامهم في أمور يجهلونها ويصير لدى البعض منا كحقائق وقوانين لا يرقى إليها الشك. وبعضهم يكتب بسوء نية مسبقة، ويدسون سمومهم في تراثنا، ونلتهم ما يكتبون ونتجرع غصصهم!!.
ولم تقتصر جناياتهم على ذلك التراث التاريخي والفكري المتمثل في الشعر والنثر، والحكم والعلوم المختلفة بشهادة الوقائع والآثار، والمخطوطات المسندية التي كانت ولا يزال بعضها متداولاً كمسانيد مكتوبة على مواد مختلفة منها الصخور أو على ألسنة الناس، وقد أجبرت هذه الحقائق بعض أولئك الكتاب الذين أساؤا إلى هذا التراث العظيم، أجبرتهم على الاعتراف بوجود هذه العلوم كما أوردنا بعض أقوالهم.!!
ولم تقتصر مصيبة العرب عند هذا الحد، بل لقد أضاعوا أكثر من مفرداتهم وألفاظهم المتداولة والتي نسميها قاموسية، وخلت لغة القواميس من ألفاظ الحضارة والصناعة التي تعج بها هذه الأرض ويتردد على ألسنة أحفاد أولئك الأمجاد وكان ذلك بسبب نزق حاكم أو نزعة متسلط، أو رغبة سلطان، أو رعونة كاتب حقود!!. ويضيف ضيف: على أن من يرجع إلى هذه النقوش يجدها تقترب اقتراباً مباشراً (شديداً) من (فصحانا)، وقد وقفنا في الفصل الأول عند أقدمها وهو نقش النمارة المؤرخ بسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وهو لامرئ القيس ثاني ملوك الحيرة (وهو من اليمن)، وضع على قبره في النمارة شرقي جبل الدروز، وقد لاحظنا أن كتابه استخدم كلمة (بر) الآرامية، بدلاً من ابن العربية، غير أن النقش بعد ذلك تام في عروبته سواء من حيث الأسماء والأفعال، أو من حيث استخدام أداة التعريف العربية(ال) (وقد استخدم(ال) أداة التعريف في اللغة اليمنية القديمة، وظهرت على (خط المسند) في أكثر من نقش وفي مواقع كثيرة، منها (قرية الفاو) عاصمة كندة، وتقع بين نجران والرياض، وأيضاً فإن خطه المكتوب به مع اشتقاقه من الخط النبطي (وهل للأنباط خط مستقل؟! وهم هجرة قديمة من اليمن ولكنهم اختلطوا بغيرهم من الفرس والرومان واختلطوا بهم وتزاوجوا فيما بينهم، فتهجنوا ولحقتهم العجمة وصارت لغتهم غير عربية صميمة، كما طرأ على خطهم اليماني الأصل بعض التعديل فهل بعد هذا تقول أن القرآن كتب بخط النبط؟!!) يعد مقدمة للخط العربي إذ توجد فيه الروابط بين الحروف كما تتخذ الحروف فيه شكلاً أكثر استدارة) واتساقاًلما درج عليه هو وغيره ممن اعتنقوا تاريخ العرب واجتزأوه! ها هو يقول: ولعلنا لا نبعد إذا اتخذنا هذا النقش بدءاً لتكون الفصحى.
في حين أن الفصحى نشأت قبل هذا بكثير، فاليمنيون كانوا يتكلمونها مع بعض التعديل قبل آلاف السنين) وقد لقب امرؤ القيس فيه بلقب ملك العرب. وهي أول مرة نعثر فيها على هذا اللقب، وقد يكون في ذلك ما يدل دلالة واضحة على أن العرب أخذوا يفكرون في إنشاء وحدة سياسية لهم منذ هذا التاريخ، وكانوا قبله لا يفكرون في هذه الوحدة، ولا في أن يستقلوا بخط خاص بهم، يميزهم أو يميز كتابتهم من كتابة المسند الجنوبية وكتابة الآراميين الشمالية.وهو يعتقد أن الخط العربي (حسب قوله) ويعني ذلك خط الجزم هذا، وكذلك ما يسمي باللغة الفصحى - المتينة قد تكاملا، في أوائل القرن السادس الميلادي. قال: ونرى من ذلك أن الخط العربي تكامل مع أوائل القرن السادس كما تكاملت الفصحى نفسها، وأخذت بشكلها النهائي بشهادة نصوص الشعر الجاهلي التي يرجع أقدمها إلى أواخر القرن الخامس. فمنذ هذا التاريخ تقاربت لهجات القبائل وأصبحت هناك لغة أدبية عامة هي الفصحى، ينظم بها شعراء العرب جميعاً أشعارهم.وتلقي رحلة التيه والشك ظلالها على معظم الكتاب، بما فيهم الكبار مع بعض الفروق في رؤاهم وطروحاتهم أو مستوى فهمهم. ومنهم الدكتور0أحمد قدور الذي يمتعنا بالقول: تحت عنوان العربية الفصحى: لم تعرف العربية التدوين الواسع، فليس هناك آثار أو نقوش كثيرة تدل على نشاط لغوي متكامل. وفي ضوء هذا النقص في الآثار الشفهية التي تنوقلت على العربية. والتي تمثلت أساساً في الشعر الجاهلي المتداول بالحفظ والرواية. فلا مجال للاعتقاد - كما ألمحنا سابقاً بوجود تدوين واسع النطاق قبل ظهور الإسلام في القرن السابع للميلاد. علماً بأن الكتابة لم تكن مجهولة لدى بعض الشعراء في الجاهلية على أي صورة من الصور. يدل على ذلك وجود العديد من الاستفسارات المستمدة من مظاهر الكتابة وأدواتها. لكن ذلك لا يعني بالضرورة التدليل على أن الشاعر كان يدون آثاره الشعرية، بل قد تشير الأغراض الفنية التي وردت فيها صور الكتابة إلى شيء مهم يثير الدهشة لندرته وصعوبته واتصاله ببعض مظاهر السحر والكهانة. لقد كان الشاعر ينشد قصيدته أمام جمهور من الناس فتعلق أشعاره في الأذهان عن طريق السماع المباشر، ثم يكون تداول القصائد عن طريق الرواية، ولا يقتصر هذا التداول والنقل عن أولئك الرواة المحترفين الذين كانوا يختصون بشاعر معين، بل إن أفراد القبيلة الذين يهمهم أمر الشاعر يصبحون رواة متطوعين. ويضيف: وليس من المستطاع بالطبع أن نسلم بأن جميع ما كان متداولاً على تلك الطريقة صحيح في نسبته إلى قائله الأول؛ لأن تداول الرواية وانتشارها على ألسنة الكثير من الناس وفي أماكن متباعدة يهدد من غير شك سلامة الأثر المنقول، ويعرضه لضروب من التحريف والإضافة. ومهما يكن من أمر فإن ما يهمنا ها هنا هو أن هذا التداول الواسع للشعر في الجاهلية نشر لساناً عريباً واحداً في شبه الجزيرة العربية والشام والعراق حتى الجزيرة الفراتية. وتروي لنا أخبار الشعراء في الجاهلية أن شعراء عديدين كانوا يقصدون بلاط اللخميين في الحيرة ، وبلاط الغسانيين في جلّق لمدحهم ونيل عطاياهم. وهم ينشدون بالضرورة شعراً. ليس هذا فحسب، بل هناك أخبار عن نبوغ شعراء لم يكونوا في الجزيرة العربية كشعراء تغلب الذين عاش معظمهم في العراق والجزيرة الفراتية. ويتعرض للتحريف الشعر المسمى بالجاهلي، وانتحاله، ومدى فائدته لدارس اللغة العربية في عصر ما قبل الإسلام، فيقول: والحق أن الشعر الجاهلي تعرض لشيء من التحريف والانتحال لأسباب كثيرة أهمها ذلك البعد الزمني، بين بداية تناقله مشافهة وتدوينه كتابة، في ظروف لم تكن مهيأة للتوصل إلى إثبات وثائق صحيحة على وجه التأكيد. ومع ذلك يرى الدارس أن الاعتماد على النصوص الشعرية العائدة إلى الجاهلية بحسب توثيق الرواة وعلماء اللغة يعود بالفائدة الكبرى على دراسة العربية الفصحى، وتبين أصولها قبل نزول القرآن الكريم. فمهما قيل عن قلة الصحيح من شعر الجاهلية لدى بعض المتشددين في قضية الانتحال، فإن دراسة أولية تظهر تمثيل النصوص الشعرية لمميزات العربية الفصحى، ولا سيما حين يقارن بينها وبين القرآن الكريم، الذي يمثل النص الأساسي الذي يمكن بواسطته التعرف إلى أصول العربية الفصحى. من هذا الاستعراض يصل إلى استنتاج مفاده عدم قدرة الدارس على تحديد بداية لتاريخ هذا الشعر الموغل في الزمن!! (وبالنظر إلى طبيعة التناقل الشفهي الذي وسم تداول الشعر الجاهلي صار من الصعوبة بمكان افتراض تاريخ مغرق في القدم قبل ظهور الإسلام تعييناً لأي بداية على وجه التحديد. ولذلك يقدر الباحثون أن نصوص الشعر الجاهلي لا تبتعد عن ظهور الإسلام بداية نزول القرآن سنة 682م بأكثر من قرن ونصف القرن أو قرنين على أبعد تقدير. وعلى ذلك تكون العربية الفصحى التي مثلتها تلك النصوص غير بعيدة عن ظهور الإسلام. أما المراحل التي سلختها من تاريخها حتى انتهت إلى ما وصلت إليه من الاكتمال، فليس من المتيسر التعرف إليها.وقد خلص قدور إلى الاستنتاجات الآتية: يدل الشعر الجاهلي إذن دلالة واضحة على أن القبائل العربية المختلفة اصطلحت على لغة مشتركة متداولة في أنحاء واسعة امتدت من اليمن حتى الفرات.ويضيف: ويتصل بهذا الأمر النظر في مدى انتشار العربية الفصحى واستخدامها، وأول ما يلاحظ حقاً هاهنا أن نزول القرآن الكريم بلسان عربي مبين خاطب به العرب كافة، متحدياً لهم في مجلى فصاحتهم، وعنوان بلاغتهم دليل على أنه صادق حين نزوله لغة واحدة ينطق بها عامة العرب، لا لهجة محدودة لقبيلة من القبائل دون أخرى، ولقد مرت بنا مواضع كثيرة أكدنا فيها أن الشعر الجاهلي حمل هذه اللغة الفصحى، بل لعله أسهم بدور بارز في توحيدها إلى مواطن العرب كافة. فلغة هذا الشعر كانت متداولة بين القبائل العربية التي نظرت إليه على أنه لسانها الناطق بالمآثر، والمعبر عن المفاخر. ولسنا نوافق القائلين أن نزول القرآن هو الذي وحد العربية وأوجد اللغة المشتركة، لأن هذه اللغة نمت وازدهرت قبل نزول القرآن الكريم بها؛ ولذلك تخيرها القرآن ونزل بها ليفهمه جميع الناس في شتى القبائل العربية.. ولا يبعد الدكتور الجندي عن هذا الإطار التجديدي في تفكير العرب ونظرتهم إلى تراثهم الفكري حيث قال تحت عنوان (لغة الأدب الجاهلي): جاء الأدب الجاهلي كله بلغة عربية واحدة، وصاغه بهذه اللغة الواحدة جميع الذين نسب إليهم أنهم قالوه من العرب شماليهم وجنوبيهم، لا فرق بين من أصله قحطاني ومن أصله عدناني. وهنا نحب أن نشير إلى ملاحظة هامة جداً ينبغي ألا تغيب عن البال، هي أن الأدباء الجنوبيين الذين جاءت لهم نصوص أدبية في تراث الجاهليين، كانوا قد استقروا في الشمال أو قريباً منه في أطراف اليمن المتاخمة للعدنانيين ولم يكن منهم بالشمال إلى اليمن. فإنما هي نسبة قبيلة الشاعر منهم إلى أصلها الأول، وهذا بالطبع لا يؤثر على اللغة الأولية الأدبية السائدة التي أصبحت لغة الشعر والأدب قبل ذلك بزمن، فهذا مثل ما يقال عن أبي الحسن علي بن العباس بأنه الرومي، وعن مهيار بن مرزويه بأنه الديلمي. فكلاهما من أصل غير عربي وكل منهما شاعر عربي فصيح. وهذا معناه أن الأدب ق.س(قبل الإسلام) بفترة من الزمن، قد أصبحت له لغة خاصة يستعملها الأدباء في إنشائهم، بصرف النظر عما قد يكون للأديب من لهجة خاصة يستعملها هو وقبيلته في تفاهمهم اليومي العادي، والدليل على سيادة هذه اللغة الأدبية (ق.س) بين العرب نزول القرآن الكريم بها، وكان القرآن الكريم خطاباً عاماً لجميع العرب على الخصوص، ففهموه وناقشوه وجادلوه. وحاول بعضهم تقليده ولكن الفشل حالفهم في هذه المجادلات. ففهم العرب للقرآن الكريم، ومجادلاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم دليل على شيوع لغته بينهم قبل نزوله بزمن.
الفصل الخامس
عن أول من تكلم اللغة العربية
وعن تزييف أوهام من زعم أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية، وإنما تلقاها من جرهم بعد أن صاهرهم، وأن أول من تكلم العربية هم قوم عاد ونبيهم هود عليه السلام. قال ابن إسحاق: قال يونس بن حبيب: أول من تكلم بالعربية إسماعيل بن إبراهيم، وأخبرني مسمع بن عبد الملك سمع محمد بن علي هو ابن حسين يقول: قال أبو عبد الله لا أدري أرفعه أم لا؟ وأظنه قد رفعه: أول من تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم، وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم.هكذا وبكل بساطة وبجرة قلم يلغي ابن إسحاق وابن سلام عروبية عاد وثمود وعروبية قحطان ويعرب وأحفادهما؛ بمعنى آخر يلغي عروبة أس العرب، وما كان علماء الأمة في مجالات التفسير والتاريخ والاجتماع وعلماء الأجناس الإنسانية قد أجمعوا عليه، وبحكم هذا وأمثاله على أعظم أمة شهد لها القرآن بالنجابة والعبقرية والإبداع بالعدم! فهل يمكن للعقل البشري أن يتقبل قضية من القضايا مهما كانت حقيقية ويعتبرها مسلَّمة من المسلمات، أظن أنه يصعب التصديق بأي شيء سوى الله وما تضمنته أركان الإيمان. إذا احتاج النهار إلى دليل وليس يصح في الأذهان شيءوسنورد ما يمحق قول ابن سلام هذا ونهيل عليه التراب من أقوال علماء الأمة المعول عليهم عن أول من تكلم بالعربية، علنا نستطيع أن نزيح بعض الدرن الكثيف الذي ألقاه ابن سلام وأمثاله على صفحة الكتاب العربي القديم!! وسنأتي على بعض أقواله التخريفية والتخريبية فيما بعد! قال ابن مسعود: ذكر جماعة من ذوي العناية بأخبار العالم أن الملك يؤثر من بعد نوح في عاد الأولى، التي بادت مثل سائر ممالك العرب كلها.وقال في موضع آخر: وقحطان أبو اليمن كلها حسب ما يذكر إن شاء الله تعالى في باب تنازع الناس في أنساب اليمن من هذا الكتاب، وهو أول من تكلم بالعربية لإعرابه عن المعاني وإبانته . . وفي موضع آخر قال: وكان من تكلم بالعربية يعرب وجرهم وعاد وعبيل وجديس وثمود وعملاق وطسم ووبار وعبد ضخم، فسار يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بمن تبعه من ولده وغيرهم، وهو يقول:
الأيمن المعرب ذي المهلهل
أنا ابن قحطان الهمام الأفضل
أنا البدي باللسان المسهل
يا قوم سيروا في الرعيل الأول
حثوت والأمة في تبلبل
الأبين المنطق غير المشكل
ثم ساق المسعودي كلاماً طويلاً نجتزئ منه هذا: والواضح من أنساب اليمن، وما تدين به كهلان وحمير أبناء قحطان إلى هذا الوقت قولاً وعملاً، فينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير، والذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الأمم، وعليه وجدت الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير، وكهلان بأرض اليمن، والتهايم، والأنجاد، وبلاد حضرموت، والشحر، والأحقاف، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار إن الصحيح في نسب قحطان أنه قحطان بن عابر بن شالخ بن سالم، وهو قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقد كان لعابر ثلاثة أولاد: فالغ، وقحطان، وملكان. والخضر عليه السلام من ولد ملكان في قول كثير من الناس. وولد لقحطان واحد وثلاثون ذكراً، وأمهم حي بنت روق بن فزارة بن منقذ بن سويدا بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، فولد قحطان يعرب بن قحطان، وولد يعرب يشجب، وولد يشجب ولدين أحدهما عبد شمس، وهو سبأ بن يشجب، وإنما سمي سبأ لسبيه السبايا فولد سبأ حمير وكهلان ابني سبأ.والثاني لم يعقب، وإنما العقب من ولد هذين، وهما حمير وكهلان، فهذا المتفق عليه عند أهل الخبرة بهما، والمتيقن لديهم. وكان الهيثم بن عدي الطائي ينكر أيضاً أن يكون قحطان من ولد إسماعيل، وإنما إسماعيل تكلم بلغة جرهم، لأن إسماعيل كان سرياني اللسان على لغة أبيه خليل الرحمن، حين أسكنه هو وأمه هاجر بمكة على ما ذكرناه، فصاهر جرهم ونشأ على لغتها ونطق بكلامها وقفا في مراده خطابها.
إلا أن النزاريين ينكرون هذا أو يزعمون أن الله قد علم إسماعيل اللغة العربية، وأن اللغة التي أعطاها الله لإسماعيل تختلف عن لغة جرهم، ويسوق المسعودي أقوالاً في هذا الصدد.. منها: ونزار تأبى أن يكون إسماعيل نشأ على لغة جرهم ويقولون: إن الله عز وجل أعطاه هذه اللغة.
وقوله: وذلك أن إبراهيم خلفه هو وأمه هاجر، وإسماعيل ابن ست عشرة سنة، وقيل: ابن أربع عشرة سنة، في وادي غير ذي زرع، ولا أنيس فحفظهما الله تعالى، وأنبع لهما زمزم، وعلم إسماعيل هذه اللغة. وقوله: قالوا: ولغة جرهم غير هذه اللغة، ووجدنا لغة ولد قحطان بخلاف لغة ولد نزار بن معد. . وأخيراً يحاول المسعودي تصوير مدى الخلاف وعمق الفجوة بين ولد قحطان وولد نزار حول هذه المسألة فيقول: لولد نزار وولد قحطان خطب طويل، ومناظرات كثيرة لا يأتي عليها كتابنا هذا في التنازع والتفاخر بالأنبياء والملوك، وغير ذلك مما قد أتينا على ذكر جمل من حجاجهم، وما أدلى به كل فريق منهم ممن سلف وخلف . وقال وهب بن منبه: وأفصح يعرب هو وأبوه، وفي بعض النسخ وأوضح عابر بالعربية، وابنه هود وفالغ بن عابر أخو هود بالجودي يتكلم بالسرياني، ويتكلم مع عابر جميع إخوته وبني عمه وإرم بن سام ما خلا الفرس، فإنها تكلمت بلسان أعجمي، وأما عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق، ورائش فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية فأدركتهم بركتها وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن حتى زهوا على الناس، وأظهروا فيهم الطغيان، وأشرفوا على الناس وكانوا كذلك إلى حين .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.