العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    الاتحاد الأوربي يعلن تطور عسكري جديد في البحر الأحمر: العمليات تزداد قوة    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    ريال مدريد يحتفل بلقب الدوري الإسباني بخماسية في مرمى ديبورتيفو ألافيس    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    نص المعاهدة الدولية المقترحة لحظر الاستخدام السياسي للأديان مميز    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    هيو جيو كيم تتوج بلقب الفردي وكانغ تظفر بكأس الفرق في سلسلة فرق أرامكو للجولف    ولي العهد السعودي يصدر أمرا بتعيين "الشيهانة بنت صالح العزاز" في هذا المنصب بعد إعفائها من أمانة مجلس الوزراء    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    وصول شحنة وقود لكهرباء عدن.. وتقليص ساعات الانطفاء    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    "امتحانات تحت سيف الحرمان": أهالي المخا يطالبون بتوفير الكهرباء لطلابهم    صراع على الحياة: النائب احمد حاشد يواجه الحوثيين في معركة من أجل الحرية    شاهد:الحوثيون يرقصون على أنقاض دمت: جريمةٌ لا تُغتفر    ليست السعودية ولا الإمارات.. عيدروس الزبيدي يدعو هذه الدولة للتدخل وإنقاذ عدن    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    رئيس انتقالي لحج "الحالمي" يعزي في وفاة الشخصية الوطنية والقيادية محسن هائل السلامي    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الولايات المتحدة: هناك أدلة كثيرة على أن إيران توفر أسلحة متقدمة للمليشيات الحوثية    اليمن تسعى للاكتفاء الذاتي من الألبان    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    برشلونة يرقص على أنغام سوسيداد ويستعيد وصافة الليغا!    إنجاز يمني تاريخي لطفلة يمنية    لاعب منتخب الشباب السابق الدبعي يؤكد تكريم نجوم الرياضة وأجب وأستحقاق وليس هبه !    ما معنى الانفصال:    جريمة قتل تهز عدن: قوات الأمن تحاصر منزل المتهم    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    فريق مركز الملك سلمان للإغاثة يتفقد سير العمل في بناء 50 وحدة سكنية بمديرية المسيلة    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    هل تعاني من الهم والكرب؟ إليك مفتاح الفرج في صلاةٍ مُهملة بالليل!    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    وزير المياه والبيئة يزور محمية خور عميرة بمحافظة لحج مميز    هل استخدام الجوال يُضعف النظر؟.. استشاري سعودي يجيب    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليمنيون تركوا أثرهم المسندي في التبت وفي تخوم الأطلسي
هذا هو تاريخ اليمن (الإرهاص)
نشر في الجمهورية يوم 11 - 12 - 2006


- د. عبد الله علي الكميم ..
تناولت موضوع اللغة، والكتابة من حيث النشأة في المجلد الأول من مؤلفي هذا، ولكني مررت عليها مرور الكرام، وأجَّلت الخوض فيها بإسهاب لهذا الذي خصصته للغة اليمنيين وكتاباتهم التي أعتبرها كما يعتبرها الكثير من العلماء والكتاب وفي مقدمتهم العقاد أصل لغات الساميين وكتاباتهم، وهي لغة القرآن، وخط المسند هو خطه أيضاً كما ستثبت هذه الدراسة، إن شاء الله.
سأتناول هنا معنى اللغة والكلمة مستعيناً بأهم المراجع المتيسرة مرتبة زمنياً ما أمكن.
سبقت الإشارة إلى أنه قد ثبت عدم وجود ما يسمى بقلم مكة أو قلم عدنان أو قلم قريش أو قلم مضر أو قلم نزار .. إلخ.. إلخ. وإنما هنالك قلم الجزم الذي اشتق من المسند، وهو القلم المطور بعد ظهور الألف واللام. وهو الذي كتب به القرآن الكريم).
ويضيف د. جواد: وقد عرف علماء العربية (القلم المسند) ومنهم حصل هذا القلم على اسمه، ولكنهم لم يعرفوا من أمره شيئاً يذكر. وكل ما عرفوه منه أنه خط أهل اليمن القديم، وأنه خط حمير، وأن قوماً من أهل اليمن بقوا يكتبون به في الإسلام، ويقرءونه نصوصه. كما عرفوا القلم الذي دون به «القرآن الكريم» ودعوه بالقلم العربي أو الخط العربي،أو الخط العربي حيناً، والكتاب العربي أو الكتابة العربية حيناً آخر تمييزاً له عن المسند. ولم يشيروا إلى أسماء خطوط جاهلية أخرى.
ويقول الهمداني رحمه الله: فقلت أين ممن لم يزل بعدهم (يقصد علماء اليمن ونسابها) موجفا؟ يغور وينجد، ويقرب ويبعد في طلب من تعلم ذلك على كماله، على مثل شيخ حمير وناسبها، علامتها وحامل سفرها، ووارث ما ادخرته ملوك حمير في خزينتها من مكنون علمها، وقارئ مساندها والمحيط بلغاتها (أبي نصر محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن وهب آل يُعْفِر ذي يهر بن الحارث بن سعد بن مالك بن يزيد بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر. وذو يهر أحد أذواء حمير القدامى، وفيه يقول أسعد تبع:
وقد كان ذو يهر في الأمور
يأمر من شاء ولا يؤمر
وأبرهم في عصره عن مثل آبائه فيشتار ذلك من معطنه، ويبحث عليه في معدنه، ويكون كما قال الفرزدق:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها
حتى لقيت أبا عمرو بن عمار
ويشهر في صنعاء واليمن (بأبي نصر الحنبصي) نسب إلى مسكنه وهو قصر جاهلي يقال له: قصر ذي يهر ببيت حنبص، يكون من صنعاء على بعض يوم، وما زال لنا معولاً في المشكلات، وربما وردت منه بحراً زاخراً لا تكدره الدلاء، ولا تلوب دونه الظماء، فأغناني نهله دون علله، وأوسعني كفاية البعض دون كمله. وكان بحاثة قد لقي رجالاً وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية، فربما نقل الإسم على لفظ القدمان من حمير كانت أسماء فيها ثقل فخففتها العرب، وبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة، فإذا سمعوا منها الاسم الموفر خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو. فمما أخذته عنه ما أثبته في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء، وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان، من سجل خولان القديم بصعدة، وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان، وما خبرني به الآباء والأسلاف).
ويقول الهمداني في مكان آخر، حين الكلام عن الخط العربي وقدمه، وقال آخرون: أصل الخط العربي (الجزم) من الأنبار، وإنما سكن الأنبار والحيرة بقايا العرب العاربة، وكثير من المستعربة فنقلوا ذلك.
ويعلق القاضي محمد علي الأكوع على هذا قائلاً: لم يقصر مؤرخو العرب عن البحث في أول من كتب بالخط العربي، بل بذلوا وسعهم في ذلك. فالمؤرخون يقولون: أن أول من حمل الكتابة إلى مكة المشرفة هو حرب بن أمية بن شمس، وكان قد تعلمها في أسفاره من عدة أشخاص، منهم بشر بن عبد الملك الكندي، أخ الأكيدر صاحب دومة الجندل، ثم سرت الكتابة بمكة) ... إلخ.
ولكون بشر بن عبد الملك الكندي (السكوني) علّم حرب بن أمية (جد معاوية) وعدداً من أهل مكة، قال شاعر من كندة من أهل دومة الجندل (يمّن على قريش إذ علمها اليمانيون الخط):
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم
فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو
من المال ما قد كان شتى مبعثرا
واتقنتمو ما كان بالمال مهملاً
وطامنتمو ما كان منه منفرا
فأجريتم الأقلام عوداً وبدأة
وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتمو عن مسند القوم حميرا
وما زبرت في الكتب أقيال حميرا
وقيل ثلاثة من طيء. وفي سيرة ابن هشام أنه حمير بن سبأ، وعن ابن عباس أن اليمانيين تلقوا الخط المسند عن كاتب هود النبي صلى الله عليه وسلم.
وتكلم الهمداني ومشايخه من قبله عن المسند كما أشار إليه (ابن النديم) وذكر أن نماذج منه كانت في خزانة (المأمون) غير أن علمهم به لم يكن متقناً على ما يظهر من تقولهم عنه.. ولم يكن لهم إدراك عن كيفية تطوره. وقد دعوه بالخط الحميري. هذا ولم أجد من المؤلفات الإسلامية المعروفة في هذا اليوم، ما يفيد بأن أحداً من العرب الإسلاميين كان له علم متقن بالعربيات الجنوبية، أو كان له علم بتاريخ العربية الجنوبية القديم.
وفي الذي ذكروه عن الخط المسند، وعن لغات العرب الجنوبيين وتاريخهم تأييداً لما أقوله).
ويسترسل جواد علي قائلاً: والعرب تسمي الكتاب العربي، أي خطنا هذا (الجزم)، وذكروا أنه إنما سمي جزماً لأنه جزم من المسند أي قطع منه، وهو خط حمير في أيام ملكهم. وأن أهل الحيرة كانوا يكتبون خط الجزم. وهو خطهم، وهو الذي صار خط المصاحف.
وعن أهمية الخط، وأنه لا يوجد إلا في الأمم المتحضرة، بل أن شرطة اللازم التحضر، كما أن التحضر يشترط وجود الخط كمتلازمين، لا يوجد أحدهما إلا بوجود الآخر وينتفي وجوده في البداوة.
(وليس في الأرض أمة بها طريق أو لها مسكة ولا جيل، لهم قبض وبسط إلا ولهم خط. فأما أصحاب الملك والمملكة والسلطان والجباية والديانة والعبادة فهناك الكتاب المتقن والحساب المحكم ولا يخرج الخط من الجزم والمسند المنمنم كذا كيف كان يخالط العربي الجاهلي قلمان جزم ومسند ولا ثالث لهما. المسند خط العربية الجنوبية. وخط من كتب بهذا القلم من بقية جزيرة العرب. والجزم خط أهل مكة والمدينة وعرب العراق وغيرهم من العرب الشماليين.
وقد حاول الدكتور/ جواد علي تلخيص وجهات نظر العلماء السابقين في منشأ الخط العربي. فقال:
كان منشأ الخط في اليمن، ثم انتقل منه إلى العراق، حيث تعلمه أهل الحيرة، ومنهم تعلمه أهل الأنبار، ومنهم تعلمه جماعة نقلوه إلى الحجاز، فالأصل على رأي هؤلاء هو القلم المسند، كان كما يقولون بالغاً مبلغ الإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف.
أول من كتب الخط العربي حمير بن سبأ. وكانوا قبل ذلك يكتبون بالمسند، سمي بذلك لأنهم كانوا يسندونه إلى هود.
أول ما ظهرت الكتابة العربية بمكة من قبل حرب بن أمية. وقد أخذها من طارئ طرأ على مكة من اليمن، وقد أخذ ذلك الطارئ علمه بالكتابة من كاتب الوحي لهود.
كان قلم الجزم - في نظر بعض العلماء- أساس القلم العربي. وقد سمي بالجزم لأن مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة، وهم من طيء من بولان سكنوا الأنبار. واجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة. فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام، وقد اقتطع مرامر الخط من المسند، فسمي الجزم، لأنه جزم أي اقتطع، ولذلك قيل له الجزم قبل وجود الكوفة، فتعلمه منهم أهل الأنبار، وتعلمه منهم أهل الحيرة وسائر عرب العراق، وتعلمه من أهل الحيرة بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكان له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتعلم منه جماعة من أهلها، فلهذا كثر الكتاب من قريش.
أول من وضع الحروف العربية ثلاثة رجال من بولان، وبولان قبيلة طيء نزلوا مدينة الأنبار. وهم: مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطعة وموصولة، ثم قاسوها على هجاء السريانية. فأما مرامر فوضع الصور، وأما أسلم ففصل ووصل، وأما عامر فوضع الإعجام، ثم نقل هذا العلم إلى مكة وتعلمه من تعلمه، وكثر في الناس وتداولوه. لنلاحظ هنا أن لو كانت هذه الآراء صحيحة أنها قمنة بالرد على تساؤلات طه حسين، حينما اعترف أنه غير قادر على معرفة كيفية وصول الخط إلى مكة، إلا أنها آراء تخلو من العلمية تماماً!!
على أننا نرجح أن يكون بشر بن عبد الملك الكندي السكوني هو الذي نقل خط الجزم إلى مكة. وهذا الترجيح -كما قلت- لا يستند إلى العلمية بصلة، لأن اللغة والكتابة ليستا سلعتين ينتجهما منتجان متخصصان ويغشانها في الناس عن طريق البيع والشراء، فاللغة -كما سبق أن بينت- كلمات يصطلح الناس على معانيها، وتصير ملكاً مشاعاً بينهم. والكتابة هي الأخرى كانت في هذا الوقت بالذات منتشرة، وأعني هنا (خط الجزم بالذات) في اليمن وخارج اليمن. فمن اليمن خرج الخط المطور هذا بعد عشرات الأجيال من الممارسة والتجربة والمماحكة والاختبار.
(فبشر بن عبد الملك هذا الذي نقل الجزم إلى مكة، والجزم هو الخط الذي دون به القرآن، أي القلم الذي نكتب به اليوم، فأغنى به أهل مكة عن الكتابة بقلم المسند، قلم حمير الثقيل، (لاحظ هنا أن مكة كانت تكتب بالمسند) وصاروا يكتبون بالقلم وبالحبر على طريقة الفرس والروم، يدونون به أموالهم. ويظهر من ذلك أن القلم المسند كان ثقيلاً في الكتابة. ولهذا وجد أهل مكة صعوبة في تدوين أمورهم به فعدلوا عنه إلى القلم الجزم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة تستوحى من البيت الأخير:
وأغنيتمو عن مسند الحي حمير
وما زبرت في الصحف أقيال حميرا
إذ يعني أن أقيال حمير وغيرهم كانوا يكتبون بخطهم المسند على الصحف، وأنه قد كانت عندهم كتابات دونوها بالحبر والقلم على الصحف والأدم ومواد الكتابة الأخرى. ولم يكونوا يكتفون بالكتابة به على الأحجار فقط، لأننا لا نجد أن كتاباتهم الواصلة إلينا، إنما قد كتبت بهذه الطريقة حسب. وسبب عدم وصول هذه الصحف إلينا انها مادة سريعة العطب، لذلك لم تتمكن من المحافظة على حياتها، فذهبت مع أهلها. وقد نعثر على شيء منها مدفون تحت الأرض بصورة يمكن أن يستفاد منها، كما استفيد من المسند المنقوش على الحجر). وكان الهمداني - رحمه الله- قد أشار في غير ما موضع من كتبه وبالذات في الإكليل إلى تلك المساند والصحف والكتب المحمولة التي كان يمتلكها الناس (علماء اليمن) ومؤرخوها ونسابوها. وكانت في بيوتهم يتناقلونها كابراً عن كابر.
ولعل من أهم النصوص ذلك الذي جاء على لسان ابن عباس (رضي الله عنه) فقد ورد أن رجلاً قال لابن عباس: (معاشر قريش من أين أخذتم هذا الكتاب العربي قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، تجمعون به ما اجتمع، وتفرقون فيه ما افترق، مثل الألف واللام؟ قال: أخذناه من حرب بن أمية. قال: فممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان، قال: فممن أخذه ابن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قال: فممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من أهل الحيرة قال: فممن أخذه أهل الحيرة؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من اليمن من كندة. قال: فممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود عليه السلام.
وينوه جواد علي إلى انتشار الكتابة بخط الجزم في ساحة اليمن والجزيرة طولاً وعرضاً عصر ما قبل الإسلام، فيقول: ولم يصل إلى علمي أن أحداً من الباحثين قد تمكن حتى الآن من الحصول على كتابات في العربية الجنوبية، مدونة بهذا القلم الذي نكتب به. ولكن هذا لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم استعمال أهل تلك البلاد له، فقد يجوز أن يكونوا قد استعملوه في أمورهم التجارية وفي مراسلاتهم وأعمالهم الأخرى استعمال أهل مكة، ويثرب له. إلا أنه لم يبق منه باقية، بسبب كونه قد كتب على الأدم والمواد الأخرى السريعة التلف فلم يبق منه بقية شأن كتابات أهل مكة ويثرب المكتوبة على هذه المواد، إذ لا يعقل عدم وصول هذا القلم إلى نجران وإلى صنعاء وإلى الأماكن التي وجدت النصرانية سبيلاً لها. وقد كان النصارى يكتبون به، وهم من أهم العناصر التي أدخلته إلى جزيرة العرب).
وعن الخط المسند وأنه كان خط العرب في جزيرتهم بجميع أرجائها وقبائلها قال جواد علي: إن في الذي عثر عليه السياح من كتابات مدونة بالثمودية، أو بأقلام أخرى مشتقة من قلم المسند، ما يفند الرواية المذكورة في عدم استعمال غير اليمنيين للمسند على أيام الجاهلية القريبة من الإسلام حيث ظهر القلم العربي الشمالي.
وعن ميزات الخط المسند وجماليته وسهولته أيضاً، يتمنى الدكتور/ جواد أن لو كان قد استمر كخط للمسلمين وللعرب بالذات إلى اليوم بدلاً من خط الجزم قال:
(وللمسند ميزات امتاز بها عن القلم العربي بحروفه المنفصلة. وهي بشكل واحد لا يتغير مكان الحرف من الكلمة، فإذا جاء الحرف في أول الكلمة أو في وسطها أو في آخرها كتب بشكل واحد. وقد جعلت هذه الخاصية لهذا القلم ميزة أخرى هي ميزة الكتابة به من أي جهة شاء الكاتب أن يبدأ بها. فله أن يكتب من اليمين إلى اليسار وله أن يكتب من اليسار إلى اليمين، وله أن يمزج بين الطريقتين بأن يكتب على الطريقة الحلزونية من اليمين إلى اليسار ثم من اليسار إلى اليمين ثم من اليمين إلى اليسار أو العكس. وله أن يكتب من أعلى إلى أسفل أو العكس. وهكذا. ثم إن حروفه غير متشابهة، لذلك لم يعرف المسند الإعجام.
ولو كتب له أن يكون قلم المسلمين ليسر لنا اليوم وقتاً ومالاً في موضوع الطباعة به. ولكنه أبطأ في الكتابة (لعدم التعود عليه) نوعاً ما من الخط العربي (الجزم) بشكل حروفه الضخمة بالنسبة إلى الحروف العربية المختزلة. فالخط العربي يمتاز عليه بهذه الناحية فقط. أما موضوع الشكل فالمسند غير مشكول بل كتب بحروف صامتة فقط ).
ويؤكد هذا ويزيد عليه بقوله: (وذهب كثير من المستشرقين إلى أثر المسند نفسه أو بالواسطة في عدد من الأقلام الأخرى منها كتابات عثر عليها في أفريقيا في إحدى اللهجات الكوشية النوبية، والخط البربري القديم يعود إلى أيام قياصرة رومة، والقلم البراهيمي.
Brahma Seript_Devanagarl_Alphbet
بحيث نلاحظ شبهاً كبيراً بين حروف هذا القلم والمسند، ولا نستبعد أثر المسند فيه، لأن العلاقات بين العربية الجنوبية والهند كانت قديمة جداً ).
ويضيف: يظهر أن المسند كان القلم الرئيسي في جزيرة العرب قبل الإسلام، وأن جزيرة العرب كانت تكتب فيه قبل المسيح، وأن أقلاماً تفرعت منه قبل المسيح وبعد المسيح، لأسباب لا تزال غير واضحة. وقد تكون لأشكال الحروف التي تتطلب دقة في الرسم علاقة بذلك فمال الكتاب إلى ابتكار أشكال مرنة لا تحتاج إلى عناية في الرسم فاستخدموها في الكتابة لسهولتها، فولدت منه الكتابات المذكورة.
وعن أصل هذا المسند العجيب تساءل الدكتور جواد، كما يتساءل غيره، ولكن بلا جواب، إلا أننا نعتقد أنه نشأ في وقت مبكر جداً، أي مع قوم عاد، وتعرض لمراحل عديدة من التطور والتعديل حتى وصل إلى صورته التي هو عليها الآن.
بل يجوز القول -وقد سبق هذا- أنه لم يكن خطاً واحداً، وإنما كانت ثلاثة خطوط أحدها لعامة الناس، والآخر للملوك والحكام تكتب به العهود والمواثيق والقوانين والأنظمة، وقرارات الملوك والزعماء، والثالث ولعله الأشرف هو الذي تطور حتى وصل إلى ما يسمى الآن بخط الجزم، الذي كتب به القرآن الكريم.
وقد تكون هنالك أسرار أخرى في رحم الأرض، ربما تبوح بها يوماً ما إن شاء الله، بفضل جهود أجيال العلماء والباحثين والمنقبين اليمنيين. (وعندي أن الأبجدية العربية الجنوبية تمثل مجموعة خاصة تفرعت من أصل لا يعرف من أمره اليوم شيئاً؛ لأن شكل حروف المسند لا تشبه شكل حروف الأبجديات المعروفة، فلننتظر فلعل المستقبل يكشف للعلماء النقاب عن أبجديات مجهولة.
وعن انتشار الخط المسند في عموم شبه جزيرة العرب، قال جواد علي: وكشفت العروض ونجد وأماكن أخرى عن سر كان العلماء يبحثون عنه في شوق، فقدمت للعلماء عدداً من الكتابات المدونة بالمسند، وبذلك ثبت علمياً أن المسند كان معروفاً قبل الإسلام في كل جزيرة العرب، وربما كان القلم العام للعرب قبل المسيح، أي قبل ظهور أقلام أخرى، ولدت على ما يظن بعد الميلاد.
ففي سنة 1911م. عثر الكابتن شكسبير
Capt-w-H shakespeer) ) على كتابتين بالمسند في معرض (جبا) (الحناة) وفي خرائب (تج) و(أثاره) التي تبعد خمسين ميلاً تقريباً عن ساحل الخليج. وزهاء مائة ميل من شمال غربي القطيف. كما عثر على كتابتين آخريين بالمسند.
وعثر عمال شركة البترول العربية السعودية الأمريكية (أرمكو) أثناء الحفر على مقربة من عين جوان (جوز) عام 1945م. على حجر مكتوب تكسرت بعض أطرافه بالمعاول، اتضح أنه حجر قبر لامرأة يقال لها (خشم بنت عمرن بن نخيو من أسرة غور آل عور من قبيلة شذب).
وعثر على شاهد قبر آخر مدون بالمسند، هو شاهد قبر (شبام بنت صحار بن عهل بن صامت.
هذا ما عثر عليه في كتابات بالمسند في العروض. أما في أواسط جزيرة العرب، وفي باطنها، وفي الأماكن التي لم يكن يتصور العثور فيها على أثر لحضارة، فقد عثر فيها على كتابات بهذا القلم كذلك. ولهذه الكتابات أهمية كبيرة، لأنها أول وثيقة تاريخية لا يتطرق إليها الشك، ترد إلينا من هذه المناطق، التي لم يرد لها ذكر مفصل عند المؤرخين السابقين، لأنها أول دليل عملي يثبت انتشار هذا الخط في أواسط جزيرة العرب.
وليس هذا فحسب فقد عثر العلماء العرب والمستشرقون على آلاف النقوش واللوحات والتماثيل في شمال وشرق وغرب ووسط الجزيرة، إضافة إلى ما يزخر به جنوبها من مخزون هائل من هذه الآثار، ومن أكثر من عشرة آلاف عام. ومنها ما عثر عليه عبد الله بن جدعان قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مغارة بجوار مكة. وقد أوضحنا هذا سابقاً، فقد عثر على لوحات من الذهب مكتوب عليها بالخط المسند، وكانت من آثار جرهم. أما في وادي الدواسر، وفي قرية الفاو بالذات، التي تقع بين نجران والرياض، فقد عثر فيه على عدة نقوش. وكانت من النقوش المسندية التي حملت الألف واللام (لام التعريف في لغتنا هذه -اللغة المتينة) التي كتب بها القرآن الكريم. وهذا ليس بالشيء العجيب أو الغريب أو المنافي للعلم والمنطق، وإنما هو العلم والمنطق ذاته. فإذا كان اليمنيون العظام قد وصلوا، وتركوا أثرهم المسندي في أمريكا، وفي تخوم الأطلسي، وفي الصين، والتبت، فلماذا الاستغراب من القول أنهم قد غطوا كل جزيرة العرب بخطهم لماذا؟ وهم قد هيمنوا على كل الجزيرة، وحكموها حكماً مباشراً، ولم تكن هناك من كتابة قبل المسند والكل تفرع منه.
وإذا كنا الآن نسمع كل يوم تقريباً عن اكتشاف أثري جديد أو أكثر في مناطق مختلفة من اليمن، سواء في شكل لوحات أو تماثيل أو نقوش أو كهوف، تحتوي على صور وأشكال ورسوم خربشات وكتابات مختلفة، أو أساسات قصور أو مقابر في الصخور أو الجروف أو أو ... إلخ. كما أن البعثات الأثرية الأجنبية والعربية مستمرة في البحث والتنقيب في الطبقات العليا وفي مناطق الحضارات المتأخرة وكلها تشير إلى قدم وعظم تاريخ اليمن، الأمر الذي جعل كتاب التاريخ التقليدي أو السائد -كما يصفهم الفرح - يعيدون النظر فيما كتبوا، ويتزحزحون عن مواقعهم السابقة، التي تخندقوا فيها مطمئنين إلى مراجعهم التوراتية ، أو أساتذتهم من المستشرقين، ومعظمهم من اليهود الذين رسخوا في أذهانهم بأن تاريخ اليمن لا يتجاوز الألف الأول ق. م. فقد صاروا يقولون أن تاريخ اليمن يرجع إلى زمن أبعد من ذلك، ولو أنهم قرأوا تاريخهم من مصادر وأهمها القرآن الكريم، وكتب الأقدمين من اليمنيين بعمق لما وقعوا فيما وقعوا فيه من الحرج والتناقض. وعدم وضوح الرؤية، بل وعدم القدرة على لملمة أفكارهم، وإعادة توازنهم، وبالتالي عدم الوثوق في كتاباتهم السابقة واللاحقة!
ومما يؤيد ما أذهب إليه من قدم الحضارة اليمنية، وقدم وجود الإنسان في اليمن، وسر وجود الرسالات السماوية أيضاً قديماً في اليمن ما نشرته صحيفة 26 سبتمبر في عددها (1015) بتاريخ 27/6/2002م تحت عنوان (شواهد أثرية). اكتشافات وشواهد أثريه تعود لمختلف العصور القديمة، تحكي معتقدات وإبداعات وإنجازات أجيال من البشر، تعاقبوا على أرض مهد الحضارات الإنسانية القديمة. وقد جاء هذا الخبر بمناسبة اكتشاف تمثال لإمرأة يمنية يبدو أنها قتبانية من مدينة تمنع. وسترد الصورة ضمن مجموعة الصور ونقوش وأشكال وخرائط الكتاب.
أما النص الثاني وهو الأهم فقد نشر في أكثر من صحيفة، وينقل هنا ما جاء في جريدة (الوحدة) العدد (602) بتاريخ 17/2/2002م . أي قبل أسبوع فقط من كتابة هذه السطور.
وقد جاء تحت عنوان: كشف يمني قد سلب أفريقيا حضانة الإنسان الأول. النص: وصف مدير مكتب هيئة الآثار في تعز العزي محمد مصلح. الكشف المكتشف مؤخراً في مديرية مقبنة، أنه يمثل مفاجأة علمية كبرى، قد تثير ضجة عالمية. وأكد أن الكهف فريد ونادر، لا مثيل له في الحضارات الإنسانية القديمة في تصميمه ونحته وحجمه.
وقال في حديث ل(الوحدة) تنشره في العدد القادم أن للكهف سبعة مداخل متساوية الارتفاع (5.5 أمتار) والعرض (4 أمتار) ويتراوح عمق أربعة منها بين 20 و35 متراً، فيما ثلاثة منها غير معروفة نهائياً) ويحمل الكهف الكثير من الألغاز، ويطرح العديد من الاحتمالات على صعيد استخداماته، التي يطلب تأكيد أي منها دراسة علمية، تحتاج إلى تقنيات نفتقر إليها حالياً.
وتابع: (أن الكهف سيجعل اليمن من أهل المزارات السياحية في العالم، وأن الهيئة لم تتوصل بعد حتى الآن إلى تحديد دقيق لعمر الكهف (غير أن اللقى المكتشفة داخله حتى الآن ترجع إلى ما قبل مليون سنة ونصف المليون عام).
وكشف العزي مصلح أن لقى الكهف تعود إلى العصر الحجري، بمستوياته الثلاثة الأول والوسيط والأخير، وعرف الإنسان الأول والوسيط والأخير، وعرف الإنسان الأول باستخدامها، وترجح أن تكون اليمن بالفعل هي أول موطن للإنسان الأول، وليس منطقة السبع العظيم في أفريقيا كما هو شائع. وقد سبق أن أشرت في كتابي هذا أعني في هذا المجلد، وفي الأول والثاني، وأكدت أن الإنسان الأول والإنسان العاقل وجد هنا على أرض اليمن، ومن هنا انطلقت الحضارات، وانطلق الحرف وانطلق الساميون. وهنا مهبط وحي نوح وهود، وما بينهما وما بعدهما من الأنبياء والرسل، بما فيهم إبراهيم عليه السلام.
ونعود إلى الخط المسند وقول ابن خلدون عنه، قال رحمه الله: (وقد كان الخط العربي - لاحظ كلمة العربي) بالغاً مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة.
وفي دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف. وهو المسمى بالخط الحميري. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية، والمجدين لملك العرب (لاحظ كلمة العرب- يعني اليمانيين الأقدمين والخط هو المسند) بأرض العراق. ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين، فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك، ومن الحيرة لقنه أهل الطائف، وقريش، فيما ذكر. ويقال: أن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية، ويقال حرب بن أمية، وأخذه من أسلم بن سدرة. وهو قول ممكن، وأقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراق إذا
ساروا جميعاً والخط والقلم
وهو قول بعيد لأن إياداً وإن نزلوا ساحة العراق، فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنائع الحضرية. وإنما يعني قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط أو القلم من غيرهم من العرب، لقربهم من ساحة الأمصار وضواحيها. فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة، ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير هو الأليق من الأقوال، ورأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ القيرواني الفاسي الأندلسي من أصحاب مالك عن ابنه قال: قلت لعبد الله بن عياش: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم تجمعون منه ما اجتمع، وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والميم والنون؟
قال نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال من حرب بن أمية. قلت: وممن أخذه حرب بن أمية؟
قال: من عبد الله بن جدعان. قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار. قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن. قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام. وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها
ورأي على غير الطريق يعبر
وللموت خير من حياة نسبنا
بها جرهم فيمن ننسب وحمير
وكان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة، وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم. ومن حمير تعلمت مصر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع.
الباب الثالث
عروبية اليمن والقرآن الكريم
سبق أن قلنا أكثر من مرة وها نحن نكررها بلا أدنى تردد أو وجل، بل وبكل صراحة ووضوح وبثقة واطمئنان مطلقين، بأن تاريخ الشعب اليمني وتراثه الحضاري المادي منه والثقافي تعرض ومنذ أكثر من عشرة آلاف سنة لكل أنواع الاستلاب والتجاهل والاستهجان والإهمال، ولكل أنواع التخريب والتدمير المقصود منه وغير المقصود الكبير!.
ولأنه تاريخ عظيم وتراث أعظم، فقد كانت أنواع التآمرات وأشكال التخريب ونوع وحجم الأعداء من نفس الحجم.
ولأنه أعظم تاريخ في الأرض، وأول تاريخ، وكانت حضارة اليمن أعظم حضارة على الإطلاق، وهذا أمر لا مرية فيه ولا ادعاء لأن القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يشهد على هذا، والدلائل العلمية المدعومة بالشواهد البحثية والنشاطات الميدانية وصور الأقمار الاصطناعية تؤكد هذا بما لا يدع مجالاً لأي شك، ويمكن حصر مواطن التخريب والتشويه والتدمير رغم كثرتها وتنوعها في جوانب ثلاثة هي:
- الجانب المادي.
- الجانب الفكري.
- الجانب المعنوي.
فالأول: يتمثل في هدم الكثير من المعالم الحضارية المادية، كالقصور والمصانع، والقلاع، والسدود، وقنوات الري والجسور، والطرق والمدن، وكلها وغيرها تشملها الآيات الكريمة التالية:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، ) وقوله: ( وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ، أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ، وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) وقوله: ( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ) وقوله: ( أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ)
وقال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}. وقال: { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ }فقال{ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}وقارن سبحانه بين كنوز قارون وكنوز ملوك عاد وثمود ومن بعدهم من ملوك اليمن: وقال:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ}وقال:(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا )القصص.
أما في الجانب الفكري فإنه قد ثبت علمياً أن تاريخ وتراث اليمن الفكري بشكل عام كان مكتوباً منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، وأن تاريخ معاركهم وأنسابهم وأشعارهم وحكمهم وتشريعاتهم والكتب السماوية التي كانت تنزل على أنبيائهم كانت تكتب وتتداول فيما بينهم لا على الأحجار المنقولة والصخور الثابتة فحسب، وإنما كانت تكتب وتتداول فيما بينهم لا على الأحجار المنقولة والصخور الثابتة فحسب وإنما كانت تكتب على مواد أخرى كالأقمشة، والجلود والورق، وورق البردي، ولحاء الأشجار وغيرها من المواد التي اخترعوها كما اكتشفوا المعادن الأخرى التي بنوا بها مدينة إرم ذات العماد والمدن والقصور والمحافد والمعابد والسدود والهياكل والجسور الأخرى.
وقد ثبت علمياً من الحفريات أنهم كانوا يستخدمون الرصاص والحديد والنحاس في عماراتهم الكبيرة ومشاريعهم العظيمة.
فإذا كانوا هم أول من اخترع (الحرف) وأول من كتب، وأول من اخترع المعادن فليس بمستغرب أو مستكثر عليهم أن يخترعوا مواد الكتابة.
إذن فتاريخ وكل تراث اليمن الثقافي الفكري بالذات كان مكتوباً ومتداولاً ومتوارثاً كابراً عن كابر وحاضراً عن غابر، إلا أنه تعرض عبر الزمن للضياع بفعل عوامل الزمن والحروب والظروف الذاتية للدول والملوك والأسر، كما تدخلت أيادي التخريب والعبث فدمرت ما دمرت منه، وأحرقت ما أحرقت، وأتلفت ما أتلفت سواء أكان هذا الفكر مكتوباً على الصخور كما هو حال نقش النصر بالصدف الأيمن لسد مأرب، ونقش حصن الغراب الذي حاول طمسه الغزاة الأحباش.
أما المكتوب على المواد الحفيظة الأخرى فقد تعرض للعدوان والعبث والضياع، ولعل الله يهيئ لنا سبل الوصول إلى تراث الأجداد العظام من قوم عاد وثمود وقحطان وأولاده وأحفاده.
وإلى مدينة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد. كما اكتشف خط الزبور.
ومن المؤسف أن تراث اليمن القديم منه والإسلامي وما أكثره وأعظمه يتعرض ولا يزال يتعرض إلى الآن لعبث العابثين وقرصنة المتقرصنين! دونما رادع أو وازع!
وفي الجانب المعنوي تعرض تاريخ وتراث اليمن بعامة إلى التحقير والازدراء والتقليل من أهميته وذلك من عدة منطلقات، منها الادعاء بأن إحياء ذلك ضد الدين، وأنه من أعمال الجاهلية وأن الإسلام جب ما قبله. وأنه لا يجوز التفاخر بعمل الآباء في عصر ما قبل الإسلام.
ومنها النفاسة والحسد، فالأعراب الذين لم يكونوا من أصلاب صانعي الحضارة كانوا يغبطون اليمانيين ويتهكمون عليهم.
لأنهم يفاخرون بشيء عفا عليه الزمن وأنه من فعل كفار. هذا في حالة الاعتراف لهم بما كانوا يقولون ويعبرون عنه أو يصفونه وهو لا يزال شاخصاً قائماً بيناً للعيان!
كما كان بعض المتعصبين والجهلة يعيرون اليمانيين بأنهم أهل صناعة وحرف فهم ما بين نافخ كير أو ناسج برد أو دابغ جلد.. . إلخ!
ولكن رغم هذا كله، ورغم ما كان بين الفريقين من عداء شديد حتى الاقتتال والاغتيالات، وتعذيب بعض كبار الشخصيات اليمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيه، إلا أن تاريخ اليمن ولغة اليمن، وعروبية الشعب اليماني لم تتعرض للسخرية والاستهجان والنكران كما تعرضت له على لسان المسمى طه حسين والملقب بلا استحقاق (عميد الأدب العربي) هذا الإنسان (المستعرب) (كالمستشرق).
لقد جاء هذا الإنسان المشبوه في ظروف كانت له مواتية لأن يلعب الدور التخريبي لتاريخ وحضارات وتراث العرب الفكري والثقافي بعامة، لقد جاء يبتدع من القول ما لم يأت أحد قبله ولن يأتي بعده. وكأنه أراد تطبيق المثل: (إذا أردت أن تُذكر فاعمل المنكر) أو تنفيذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) فقد نفى عروبية اليمن، وبالتالي فقد نفى عروبية القرآن، ونفى أن لغة اليمن عربية، ونفى الشعر عن اليمن، وأنكر أن يكون لها شعراء بما في ذلك امرؤ القيس إلخ إلخ مما سنأتي عليه !! في استعراض كتاب (في الأدب الجاهلي) بعد أن كان في الشعر الجاهلي)!!
لقد عبر طه حسين عن حقده الدفين على تاريخ العرب وتراثهم المتمثل في تاريخ وتراث اليمن، كما أثبت جهله شبه المطلق بهذا التاريخ وذاك التراث العظيم، وأكثر من هذا لقد أبان عن جهله وإسفافه بمعاني المفردات اللغوية وترادفاتها. أما القرآن الكريم فيبدو أنه لم يقرأه أو أنه قد ران على قلبه فلم يفهم منه شيئاً. أما لغة المسند فقد كان أولى من أستاذه (جويدي) بها وبفهم معانيها.
كونها اللغة السامية الأولى وهي أم اللغات جميعها، وهي في نفس الوقت لغة القرآن، أو اللغة المتينة، التي كتب بها القرآن الكريم، وهي اللغة المتداولة على ألسنة العرب الآن، بعد أن تطورت عبر مراحل كثيرة، وعلى أرض اليمن بالذات، وحملت لام التعريف الذي كان أحد أدلة أولئك الذين نفوا عن اللغة اليمنية أن تكون عربية.
ولنقتبس أمثلة من كتابه سيء الصيت (في الأدب الجاهلي) ولو كان مفكراً وعالماً -كما أطلق عليه البعض- لما أطلق عليه هذا الاسم المقزز لأنه لم يكن هناك أدب جاهلي يدل على مرحلة زمنية معينة هي مرحلة ما قبل الإسلام، لأن الجهل هنا لا يعني سوى جهلهم ببعض النواحي الدينية وليس جهلهم المطلق، إذ كان الكثير من أصحاب مكة والمدينة وما حولهما كانوا يقرأون ويكتبون. أما اليمنيون فكان فيهم العلماء والمتعلمون. أقول هذا وكلي ثقة لأن صناع الحضارات لا يمكن أن يكونوا جهالاً، بل لقد كانوا علماء في الكيمياء والرياضيات والطب والفلك وغيرها من العلوم. وكانوا أيضاً علماء في الدين لأنهم كانوا يقرأون كتب أنبياء الله ورسله،ولا أدل على هذا مما قاله وهب بن منبه بأنه قرأ أكثر من مائة كتاب من كتب الله تعالى المرسلة على الأنبياء والمرسلين. أما الكتابة فقد أثبتنا ذلك مراراً وتكراراً ولا داعي لذكرها هنا، والشواهد لا زالت ماثلة تجأر لعين كل مكابر، وتقلع عين كل حاقد!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.