فرحة عارمة تجتاح جميع أفراد ألوية العمالقة    الحوثيون يتلقون صفعة قوية من موني جرام: اعتراف دولي جديد بشرعية عدن!    رسائل الرئيس الزبيدي وقرارات البنك المركزي    أبرز النقاط في المؤتمر الصحفي لمحافظ البنك المركزي عدن    خبير اقتصادي: ردة فعل مركزي صنعاء تجاه بنوك عدن استعراض زائف    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    مع اقتراب عيد الأضحى..حيوانات مفترسة تهاجم قطيع أغنام في محافظة إب وتفترس العشرات    هل تُسقِط السعودية قرار مركزي عدن أم هي الحرب قادمة؟    "الحوثيون يبيعون صحة الشعب اليمني... من يوقف هذه الجريمة؟!"    "من يملك السويفت كود يملك السيطرة": صحفي يمني يُفسر مفتاح الصراع المالي في اليمن    تحت انظار بن سلمان..الهلال يُتوج بطل كأس خادم الحرمين بعد انتصار دراماتيكي على النصر في ركلات الترجيح!    الهلال بطلا لكأس خادم الحرمين الشريفين    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    تعز تشهد مراسم العزاء للشهيد السناوي وشهادات تروي بطولته ورفاقه    مصادر دولية تفجر مفاجأة مدوية: مقتل عشرات الخبراء الإيرانيين في ضربة مباغتة باليمن    المبادرة الوطنية الفلسطينية ترحب باعتراف سلوفينيا بفلسطين مميز    شاب عشريني يغرق في ساحل الخوخة جنوبي الحديدة    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    عاجل: البنك المركزي الحوثي بصنعاء يعلن حظر التعامل مع هذه البنوك ردا على قرارات مركزي عدن    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 36 ألفا و284 منذ 7 أكتوبر    الحوثي يتسلح بصواريخ لها اعين تبحث عن هدفها لمسافة 2000 كيلومتر تصل البحر المتوسط    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    لكمات وشجار عنيف داخل طيران اليمنية.. وإنزال عدد من الركاب قبيل انطلاق الرحلة    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    حكم بالحبس على لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    النائب العليمي يؤكد على دعم إجراءات البنك المركزي لمواجهة الصلف الحوثي وإنقاذ الاقتصاد    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الإخوان في اليمن يسابقون جهود السلام لاستكمال تأسيس دُويلتهم في مأرب    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    جماهير اولمبياكوس تشعل الأجواء في أثينا بعد الفوز بلقب دوري المؤتمر    مليشيا الحوثي تنهب منزل مواطن في صعدة وتُطلق النار عشوائيًا    قيادي في تنظيم داعش يبشر بقيام مكون جنوبي جديد ضد المجلس الانتقالي    بسبب قرارات بنك عدن ويضعان السيناريو القادم    تقرير حقوقي يرصد نحو 6500 انتهاك حوثي في محافظة إب خلال العام 2023    لجنة من وزارة الشباب والرياضة تزور نادي الصمود ب "الحبيلين"    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    الامتحانات.. وبوابة العبور    رسميا.. فليك مدربا جديدا لبرشلونة خلفا للمقال تشافي    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    حكاية 3 فتيات يختطفهن الموت من أحضان سد في بني مطر    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    وزارة الأوقاف تدشن النظام الرقمي لبيانات الحجاج (يلملم)    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    اعرف تاريخك ايها اليمني!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    رسالة غامضة تكشف ماذا فعل الله مع الشيخ الزنداني بعد وفاته    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الجغرافيا والمصالح المشترگة
العلاقات التاريخية بين اليمن والخليج
نشر في الجمهورية يوم 10 - 01 - 2007


إعداد/أ.د/عبدالرحمن عبدالواحد محمد الشجاع
استاذ التاريخ والحضارة قسم التاريخ - كلية الآداب جامعة صنعاء ..
من البداهة أن نقول: إن اليمن جزء من جزيرة العرب، التي مافتئت كتب أساطين المؤرخين من أقدم العصور يذكرونها بهذا الاسم، ويحددونه: جنوباً البحر العربي، وشمالاً صحراء النفوذ على مشارف بلاد العراق والشام، وغرباً البحر الأحمر «القلزم»، وشرقاً الخليج الذي تعددت أسماؤه بتعدد العصور فتارة عرف بالخليج الفارسي، وتارة بخليج عمان وخليج البصرة، وحديثاً بالخليج العربي وكما يقول المؤرخون الجغرافيون كان شطه الشرقي لفارس وشطه الغربي للعرب.. هذا الإقليم الجغرافي مامن كتب من الكتب التي عرفت بكتب البلدانيات «الجغرافية» يتعرض لذكر أقاليم الأرض إلا جعل بلاد العرب ويقصد بها جزيرة العرب كتلة جغرافية واحدة ويبدءون بالحديث عنها قبل غيرها شارحين أسباب ذلك، ويكفي هنا أن نشير إلى بعض ماقاله المقدسي «1» مبيناً سبب البدء بجزيرة العرب فقال:
«إنما بدأنا بجزيرة العرب لأن بها بيت الله الحرام، ومدينة النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها انتشر دين الإسلام، وفيها كان الخلفاء الراشدون، والأنصار والمهاجرون، وبها عقدت رايات المسلمين، وقويت أمور الدين، وأيضاً فإن بها المشاعر والمناسك والمواقيت والمناحر ثم هي عشرية قد ذكرها الأئمة في دواوينهم.
ولذلك فالعلاقة بين الجزء وبقية الأجزاء علاقة وطيدة عبر حقب التاريخ المختلفة، ولها جوانب عميقة وشاملة، بل هي علاقة كعلاقة العضو من جسم الإنسان «انظر الخريطة الطبيعية رقم «1».
وبما أن هذه الورقة لاتعنى بالتفصيل، وإنما تقتصر على الإجمال، فهي ستلقي ضوءاً على بعض الملامح التاريخية لتلاحم الجزيرة العربية فسنذكر مجموعة من الملامح التي تؤكد وجود الترابط والتلاحم بين أجزاء هذه الرقعة الجغرافية كلها.
أولاً: ملمح التماثل الجغرافي:
هذا الإقليم جغرافياً لوحة جغرافية واحدة تمثلت لي كأنها بساط زاه متعدد الألوان..فلون السلسلة الجبلية الممتدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب طبيعة جبلية واحدة يتفرع من هذه السلسلة فرع في الوسط وهي المنطقة المعروفة بنجد حتى تطل هضابه على الخليج، وفرع في الجنوب يبدأ من جزء السلسلة الجنوبي ويمتد مطلاً على البحر العربي من جهة والربع الخالي من جهة أخرى حتى يتصل بجبال عمان «2» فهذه الجبال ليست جبلاً واحداً وإنما هي جبال متصلة على نسق واحد، يبدأ من عدن وينتهي في الشام «3»، وهي طبيعة جبلية واحدة وإن اختلفت بعض مظاهرها.
وإلى جوار لون هذه الجبال لون السهول الساحلية المطلة على البحار وتمتد من العقبة شمالاً حتى عدن جنوباً..ثم يتحول شرقاً حتى مضيق هرمز، ويمتد شمالاً من ناحية الشرق، حتى يصل إلى أعلى خليج البصرة.
ثم اللون الصحراوي الذي يتمثل في صحراء الربع الخالي في الجنوب الشرقي وصحراء النفوذ في الشمال وصحراء الدهناء في الشمال الشرقي «4».
هذه الألوان المتعددة لجزيرة العرب لاتفصل بين أجزائه موانع طبيعية..فلا أنهار فاصلة، ولابحار حاجزة، ولاجبال ثلجية صادة، ولاتوجد صحراء تفصل جزءاً عن بقية الأجزاء، بل إن التواصل بين مدنها يتم عبر سلسلة الجبال من نجد أو من جبال حضرموت وعمان، حتى صحراء النفوذ لاتشكل عائقاً لأنها في الطرف الشمالي، فالجزيرة إذاً هي قطعة واحدة أو إقليم جغرافي واحد.
ومن المفيد أن ننقل ماقرره علماء الجغرافيا «البلدان» عن «جزيرة العرب» وأبرز واحد منهم وممن خبرها ودرسها هو الهمداني «توفي بين عامي 350و 360ه/961 و970م» فقد كتب كتابة الشهير «صفة جزيرة العرب» وهو من أمتع ماكتب عنها.
فهو يقسم جزيرة العرب إلى خمسة أقسام وهذه عادة الجغرافيين العرب وهي: تهامة والحجاز ونجد والعروض واليمن «5».
ثم يقول واصفاً لها بأسلوبه الخاص: جزيرة العرب هي: «يمن وشام: فجنوبها اليمن، وشمالها الشام ونجد وتهامة: فالنجد ما أنجد منها عن السراه، وظهر من رؤوسها ذاهباً إلى المشرق في استواء دون ماينحدر إلى العروض.
وحجاز وهو ماحجز بين اليمن والشام.
وسراه وهو مااستوسق واستطال في الأرض من جبال هذه الجزيرة مشبهاً بسراة الأديم.
وعروض وهو ماأعرض عن هذه المواضع شرقاً إلى حيز شمال المشرق.
وعراق وشحر..فالعراق ماحاذى المياه العذبة والبحر من الأرض، مأخوذ من عراقي الدلو والشحر مأخوذ من شحر الأرض وهو سبخ الأرض ومنابت الحموض «6».
أما المقدسي فلم يشبه جزيرة العرب ببساط كما تبادر إلى ذهني وإنما تخيلها تخيلاً آخر فقد جعلها بمثابة الصفة، أو مجلس فخم، بابه بادية العرب في الشمال ثم سريران أحدهما في صدر المجلس فأما الصدر فهو عدن والسرير الأول أسماه اليمن ويضم نجد اليمن الممتد من عدن حتى الطائف، والفضاءان المجاوران للسرير الأول فضاء على يسار الداخل ويتكون من الأحقاف، ومهرة، واليمامة، وعمان والفضاء الذي على يمين الداخل يتكون من تهامة اليمن كلها، والسرير الآخر متاخم للسرير الأول وأسماه الحجاز ويقع فيه مكة والحرم والمدينة ويمتد شمالاً حتى حدود صحراء النفوذ والفضاءان المجاوران للسرير الثاني فضاء على يسار الداخل ويضم نجد والحجاز والبلاد المطلة على الخليج ويصل إلى هجر.
والفضاء على يمين الداخل يضم تهامة الحجاز «7».
ورغم طول النص المنقول عن المقدسي إلا أن القصد من ذلك هو التأكيد على وجود ترابط جغرافي تضاريسي وبشري بين أجزاء جزيرة العرب.
أما مناخ الجزيرة فهو مناخ متقارب أما صحراوي وهذا يشمل كل جوانب الجزيرة المطلة على البحار والخلجان والصحاري ومنها دول الخليج كلها ماعدا عمان..واما مناخ جبلي تهطل عليها الأمطار في الجنوب صيفاً وفي الشمال شتاءً «8» بارد في بعض المرتفعات الجنوبية شتاءً معتدل نسبياً في الصيف «9».
ومن هذه التضاريس والمناخ اللذان تتصف بهما جزيرة العرب تنشأ زراعة تكاملية بين هذه الأجزاء فالمناطق الجبلية الجنوبية والشرقية زراعية بوديانها وسهولها ومرتفعاتها وهضابها..وكذلك الأرض التهامية هي أرض زراعية.
وحتى الأراضي الصحراوية المطلة على المناطق الساحلية شرقاً وغرباً وجنوباً يمكن أن تؤهل للزراعة أن بذلت الجهود لذلك.
ثانياً: ملمح حراك النسيج السكاني:
من أول نظرة إلى تاريخ جزيرة العرب، وبالذات إلى العرق البشري الذي يسكن هذا النطاق الإقليمي الجغرافي سيجده واحداً فهم العرب أياً كانوا قحطانيين أو عدنانيين بل كما يقول النسابة أصل العرب من أب واحد بحكم تناسب العدنانيين مع القحطانيين ونحن هنا لانريد الإيغال في الأنساب في عمق التاريخ، وسنكتفي بأن نؤشر تأشيرات على أهمية هذا الملمح..فاليمن منبع الحراك السكاني داخل الجزيرة.. والبداية من القبائل القحطانية التي خرجت من اليمن واستقرت في ربوع جزيرة العرب.
لقد خرج من قحطان فرعان كبيران حمير وكهلان.. فأما حمير فبقي منهم في اليمن من بقي وخرج بعضهم يجوب بلدان جزيرة العرب ويستقر في أجزاء منها..منهم قضاعة في شمال الحجاز تجاورهم تنوخ في أقصى شمال الجزيرة داخلاً في الشام وترافقهم قبائل كلب وفي وديان شمال الحجاز استقرت جهينة.
ومن كهلان استقرت قبيلة طيء الأزدية في جبل شمر ونجد وقبيلة جذام سكنت مع لخم في أطراف الشام وحدود شمال الجزيرة ومن قبيلة الأزد من استقر في عمان، وفي قلب جزيرة العرب الذين عرفوا بالأوس والخزرج ومن الأزد أيضاً قبيلة خزاعة الذين سكنوا مكة وبعض الحجاز وتحكموا بمقاليد مكة لمدة من الزمان «10» وقبلهم كانت قبيلة جرهم القحطانية التي ناسبهم إسماعيل عليه السلام ونشأ منهم الفرع العدناني «11» ومن قضاعة كانت تنوخ ودوس وقد سكنوا البحرين «12».
وقبائل نجد اليوم بصورة عامة أغلبهم من القبائل القحطانية «13».
وفي تهامة اليمن وتهامة السراة العديد من الفروع القبلية المضرية العدنانية «14» وانتقلت فروع من ثقيف والعلويين إلى شمال اليمن واستقروا في صعدة «15».
وإذا أعددت إحصائية للعشائر القبلية لوجدت القبائل اليمنية تغطي سائر الجزيرة العربية إلى جوار القبائل الأخرى من مضر وربيعة ولم تنشأ مشكلة عرقية داخل جزيرة العرب «16» ولم تكن هناك أي غضاضة في هذه السكنى.
وبالجملة فقد صار الحراك السكاني على بساط الجزيرة المتنوع الألوان أمراً طبيعياً وليس غريباً..بل يشكل نسيجاً دون فوارق.
فلا توجد قوميات داخل جزيرة العرب، ولا أعراق مختلفة، ولاجنسيات متباينة وإنما هم من أرومة واحدة، ومن عرق واحد، وفصيل بشري واحد، متقارب، أو موحد اللون في الغالب، ومادار من صراعات بين فروع القبائل فهو صراع مصالح لا صراع قوميات، فحيثما طغت مصلحة قبيلة على مصلحة قبيلة أخرى نشأ الصراع وتتمثل المصالح أما بالنزاع حول أرض، أو حول ثأر بين قبيلتين، أو نزاع سلطوي، وكثيراً ماكانت هذه النزاعات تسوى كلما وجدت قيادات حكيمة، تعمل على رأب الصدع، وتخمد نار الصراع.
ثالثاً: ملمح الخلفية الثقافية:
يتميز هذا البساط المسمى بجزيرة العرب بخلفية ثقافية واجتماعية متلاحمة، وهناك عدة مظاهر لهذه الخلفية الثقافية نذكر بعضاً منها..
أولاً: هو مظهر اللغة فلغة التخاطب عند كل ساكني الجزيرة واحدة هي اللغة العربية..فمن أطرافها الشمالية إلى أقاصيها الجنوبية، ومن جزرها الشرقية إلى جزرها الغربية، وفي كهوفها الجبلي، ووديانها الزراعية، وصحاريها القاحلة.. الجميع يتكلم لغة واحدة تكتب بحروف واحدة، وإن تعددت لهجات المنطقة الواحدة، إلا أن لغة الثقافة واحدة، واللهجات وإن تعددت إلا أن أصولها عربية، ولاتعد لغة أخرى وحتى حينما تحدث علماء اللغة عن لغة طيء، ولغة تميم، ولغة قريش، فلا تعد هذه لغة ذات جذور واشتقاقات خاصة وإنما هي لهجات أو صور متعددة من قراءة الكلمة أو تشكيلها، أو نطقها يقول الهمداني «17» وتسمى جزيرة العرب، لأن اللسان العربي في كلها شائع وأن تفاضل «وقد وصف لنا الهمداني «18» لهجات جزيرة العرب بدءاً من مهرة في حضرموت إلى الشام ورغم أنه سماها لغات إلا أنه لايعني لغة مفردة وإنما لهجة في النطق فقط..والاختلاف في اللهجات لايعني قط الاختلاف في الأصول اللغوية بحيث يصبح لكل إقليم لغة..ولايقصد الهمداني ولا علماء اللغة بقولهم «لغة» بأنها لغة بالمفهوم المعروف اليوم، وإنما يقصد به اللهجة ففي القرآن الكريم اتفق العلماء على وجود سبع قراءات صحيحة، ثم قراءات شاذة تصل إلى عشر قراءات وأربعة عشر قراءة «19» وأحياناً يقولون هذه القراءة على لغة تميم، وهذه على لغة كذا فلا يعنون قط باللغة هنا اللغة المعروفة بجذورها وحروفها ومشتقاتها، وإنما يعنون أن تشكيل الكلمة تغير من قبيلة إلى أخرى فصار معروفاً بلغة، وهذا غير ماهو عند أمم أخرى كأوروبا التي تقوم فيها لغات قومية مرتبطة بالجنس والقوم، ولها جذور مختلفة عن اللغات الأخرى.
ويلاحظ أن المؤرخين المسلمين وعلماء البلدانيات حينما يتحدثون عن اللغة بصفة عامة يطلقون عليها «اللسان» فيقال اللسان العربي واللسان الفارسي..وحينما يتكلمون عن القراءات يقولون لغات فيقال لغة أهل البصرة ولغة أهل الكوفة بينما المعروف أنها قراءة لكلمات في اللسان العربي «20» وعبر القرآن الكريم عن اللغة العربية بقوله: «بلسان عربي مبين» «21» ويقول سبحانه وتعالى: «ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين «22».
ولهذا نجد الموروث الثقافي لجزيرة العرب كتب بلغة واحدة، أو لسان واحد ولم يكتب بلغات متعددة وصار هو رصيد الأمة كلها، يرجع إليه كل من يريد أن يدرس جانباً من حياة الجزيرة.
ثانياً: ومن أبرز مظاهر نسيج الخلفية الثقافية عند أهل جزيرة العرب..مظهر المعتقدات.. فرغم أنهم كانوا قبل الإسلام مختلفي التوجهات الاعتقادية ولهم أصنام وأوثان عديدة «23»، إلا أنهم كانوا يجتمعون في مكان واحد وهو مكة ا لمكرمة فيمارسون مناسك واحدة، وإن اختلفت بعض التفاصيل فغالبيتهم وثنيون ومع هذا يتوجهون إلى الكعبة جميعهم.
ولما ظهر الإسلام ظهر ليكون برنامجاً ومنهجاً جديداً للبشرية كلها وبدأ أولاً بجمع العرب جميعاً تحت راية واحدة فقد خرج محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة البلد الذي كان يجمع العرب في عباداتهم في الجاهلية لتصبح مكة بعد ذلك قبلة للمسلمين جميعاً عربهم وعجمهم لايشاركهم فيها أحد.
ثالثاً: ومن مظاهر هذا الملمح أن صارت جزيرة العرب أرضاً إسلامية خالصة لايشاركهم فيها أحد من غير المسلمين لا في قبلتهم ولا في حجمهم.. فالقدس مثلاً يشترك في التوجه إليه اليهود والنصارى والمسلمون..بينما مكة المكرمة هي مخصوصة للمسلمين دون غيرهم ولهذا جاء التوجيه النبوي الصحيح، بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لتخلص للمسلمين وحدهم «24» ولهذا التوجيه حكمة فريدة لعل من جوانبها تفرد هذا الدين الإسلام وتفرد موطن منبعه، وتفرد موطن توجه أتباعه بالعبادة والشعائر التعبدية.
وهي ميزة لم يفرضها العرب بقوانينهم وإنما فرضها الله من خلال الوحي الرباني وربما كان التوجيه بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب كان يقصد به ألا يشكلوا قوة في داخل الجزيرة، أما أن يكونوا أفراداً يفرض عليهم مايفرض على أهل الذمة فهذا غير مرفوض وبذا نستطيع تفسير وجود بعض اليهود و النصارى في بعض مناطق من جزيرة العرب.
رابعاً: ومن مظاهر هذا الملمح قيام العرب جميعهم بنشر الإسلام فقد قاد العرب بإسلامهم حركة الفتوحات الإسلامية التي لم تكن قط غزواً لمجرد الغزو.
ولم تكن فتحاً بمعنى إكراه الناس على عقيدة الإسلام، وإنما كان بمعنى آخر..إنه بمعنى إتاحة الفرصة للناس أن يعيشوا بكرامتهم وحريتهم، فالله كرم الإنسان، ومن منهج الله أن يتحرر الإنسان من أن يكون عبداً لغير الله، يسومه سوء العذاب، فإذا أعطي حرية الفكر وحرية التكريم وحرية التنقل وحرية الحركة حينذاك له الحق أن يختار عقيدته التي يؤمن بها، ولا إكراه في الدين فمن أحب أن يبقى على دينه فله حق المواطنة ولايكره في عقيدته وكما أن للمواطنة حقوقاً فعليها واجبات ومن دان بالإسلام فهو أخو المسلمين له حقوق وعليه واجبات أيضاً أو كما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:«وإنه من أسلم..إسلاماً خالصاً من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل مالهم وعليه ماعليهم ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لايرد عنها وعليه الجزية.. فمن أدى ذلك فهو في ذمة الله وذمة رسوله «25» وصار الإسلام معروضاً أمام الناس جميعاً بصفته الدين الذي ارتضاه الله للبشر فمن شاء أن يختاره، ومن شاء أن يتركه في ظل وضع يتصف بالحرية الكاملة الحقيقية.
وحينما انساح المسلمون العرب من جزيرة العرب إلى البلاد المفتوحة صارت جزيرة العرب مهوى أفئدة كل من أسلم من الأمصار المختلفة، واحتفظ المسلمون للعرب بمكانة معينة لدورهم المشهود في قيام الإسلام وانتشاره.
وهكذا صارت جزيرة العرب منطقة إشعاع للفكر الإسلامي إلى جميع بقاع الأرض التي دخلها الإسلام وصار اليماني والعماني والحجازي والبحريني والنجدي والثقفي والتميمي والأردي والنزاري،مع غيرهم من الأجناس غير العربية، يشكلون فريقاً واحداً للعيش بهذا الفكر الجديد، ونشره في ربوع الأرض.
فأعطى هذا التوجه لجزيرة العرب مكانة مرموقة غير بقاع الأرض كلها «انظر الشكل رقم «5».
وهذا يدعونا لأن نلفت النظر إلى التكريم الرباني العظيم للعرب في أن يكون خاتم الأنبياء منهم، وأن يكون خاتم الكتب بلغتهم، وأن تكون هذه اللغة هي شرط لتعلم القرآن، ولمن يريد فهم القرآن، ويتعبد به هذا تكريم فريد لهذه الأمة، وللغة هذه الأمة.
خامساً: ومن مظاهر هذا الملمح الثقافي أن الجزيرة العربية صارت مصدر إلهام معماري للمساجد التي بنيت في أنحاء بلاد الإسلام فقد بدأ في المدينة بناء المسجد النبوي بتخطيط بسيط يتمثل في مساحة مستطيلة مكشوفة تحددها أربعة جدران ثم سقفت بظلة كل من المقدمة والجناحين والمؤخرة وبقي الصحن في الوسط مكشوفاً «26» وصار هذا مثالاً يحُتذى به في كل المدن التي أقيم فيها مسجد مثل مسجد صنعاء ومسجد الجند «27» ومسجد هجر في اقليم البحرين وكذلك في المدن الجديدة التي أسست خارج جزيرة العرب كالبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان «28».
فظاهرة بناء المساجد بهذا الشكل الموحد في عمومه تدلل على أن جزيرة العرب لم تكن فقط مصدرة للفكر إلى بقية المعمورة، بل صارت مصدرة لبعض الصور المعمارية لأهم مؤسسة أقيمت في دار الإسلام وهي مؤسسة المسجد، الذي لم يكن يوماً ما مجرد مكان للصلاة وإنما كان مكاناً تقام فيه العديد من النشاطات العلمية والإدارية والقضائية وغيرها «29».
سادساً: ومن المظاهر الثقافية التي تبنئ عن نبض واحد للجزيرة مانلمسه من تشابه حتى بظهور حركات غير مرغوب فيها فالأحداث التي أعقبت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي عرفت بالردة كان لها صدى بل وجود في كل من اليمن ونجد وعمان والحجاز «30» فقد تمالئوا على نهج واحد وهو التجمع تحت ألوية زعامات أدعت لنفسها قيادة دينية تمثلت في ادعاء النبوة.
وفي العهد الأموي ظهرت حركات الخوارج وكانت لها زعامات متمركزة في كل من اليمن ونجد وعمان «31».
وفي العهد العباسي ظهرت حركات شيعية مغالية وكانت لها أيضاً تمركزت في كل من اليمن وعمان ونجد وشرق وشمال شرق الحجاز «32».
ولا أعني بإيراد هذه الأمثلة إلا الإثبات بأن نبض جزيرة العرب واحد،فإذا نبض نبضاً سليماً في مكان تتجاوب معه نبضات أجزائه الأخرى بنبض سليم مستمر وإذا نبض نبضاً مضطرباً غير سليم سرعان مايختلج جسم الجزيرة بهذا النبض، وسرعان مايتخلص من كل الشوائب التي تعلق به.
رابعاً: ملمح التداخل الاجتماعي:
مسمى الحياة الاجتماعية يدل على حقيقته..فهي «حياة» بمعناها الواسع.. و «اجتماعية» تدل على كل أشكال الاجتماع ولو تتبعنا أنماط الحياة الاجتماعية في جزيرة العرب كلها لما وجدنا اختلافاً جوهرياً.
فالتكوين القبلي هو نفسه الموجود في شمال الجزيرة وجنوبها، وفي شرقها وغربها، وفي أواسطها وأطرافها، اوفي جبالها وصحاريها، حتى المسميات لاتختلف اختلافاً بيناً، ومن خلال تتبع كتب الأنساب، سواءً تلك التي تتحدث عن أنساب عدنان كالأنساب لابن الكلبي أو أنساب قحطان كالإكليل للهمداني أو أنساب قبائل الجنوب وأنساب قبائل الشمال مثل كتاب الأنساب للسمعاني، لاتجد اختلافاً في عرض الأحساب والأنساب والتقسيمات العشائرية ولايقال هذا التقسيم عند القبيلة الفلانية لا يوجد عند القبيلة الأخرى بل هي واحدة ولا مبالغة في هذا الطرح.
ولعل العادات والأعراف والتقاليد القبلية هي التي قد تختلف من قبيلة إلى أخرى في بعض التفاصيل والجزئيات أما أصولها واحدة وأي باحث قد لايجد معلومات اجتماعية عن قبيلة مذحج مثلاً ولكنه يجد عن قبيلة بني أسد الحجازية فيسقط ماجاء عند بني أسد على قبيلة مذحج والعكس صحيح، لأن العادات واحدة ومتشابهة في أصولها وإن اختلفت بعض تفاصيلها والاختلاف أمر طبيعي يجري في المنطقة الواحدة، بل ربما في العشيرة والأسرة الواحدة فما بالك في جزيرة مترامية الأطراف.
وقد جرت عادة المؤرخين الأوائل حينما دونوا التاريخ الاجتماعي المتمثل في الأنساب وأيام العرب بأنهم كانوا يدونون ماوصل إليهم، ومااحتفظ من موروث ثقافي اجتماعي سواءً عبر الشعر أو القصص الحربي الذي عرف بأيام ا لعرب.
فالمدون من هذا التاريخ الاجتماعي وأن لم يكن مفصلاً لكل قبيلة وعشيرة إلا أن الباحث يستطيع أن يجعله دراسة كاملة لكل أنحاء الجزيرة العربية ولنأخذ مثالاً على ذلك فكتاب «بلوغ الأرب في أحوال العرب لمحمود شكري الألوسي» يحدثنا عن التجمعات القبلية في الجزيرة وعاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم في الأفراح والأتراح وفي جميع نشاطاتهم الاجتماعية ولاتجد فرقاً كبيراً بين ماهو في شمال الجزيرة أو في جنوبها ولا بين شرقها وغربها إلا في بعض التفاصيل وربما بعض المسميات..رغم أنه كما قلت لايذكر كل عشائر القبائل إلا أن التداخل الاجتماعي واضح بشكل كبير لأن الأصول الاجتماعية واحدة، وليست مختلفة المشارب والجذور «33».
خامساً: ملمح النشاط التجاري:
كانت جزيرة العرب وماتزال وحدة جغرافية واحدة لها مصالح مشتركة تجمعها فقد تعارف القوم على إنشاء أسواق تجارية..وصل تعداد ماعرف منها إلى ستة وعشرين سوقاً «34»..هذه الأسواق الموسمية العامة ولانتحدث عن الأسواق المحلية التي تقام في كل تجمع سكاني فهذا لايعنينا هنا.
تجد هذه الأسواق ممتدة من عمان وعبر حضرموت حتى عدن، ثم تخترق السلسلة الجبلية شمالاً في مجموعة من المحطات التجارية، حتى تصل إلى دومة الجندل في شمال الجزيرة العربية التي كانت تسكنها قبائل كنانة اليمنية، ثم تصل إلى الشام.
فهذه الأسواق التجارية في جزيرة العرب لم تكن مقتصرة على البيع والشراء، بل كانت مجمعاً ومهرجاناً تمارس فيه مختلف أنواع النشاطات.
فالشاعر صاحب القصيدة الجديدة الذي يريد نشرها وإذاعتها، يتحين فرصة السوق لنشر قصيدته.
وصاحب المظلمة ينتظر يوم السوق ليحضر بين يدي الحكام الذين يقومون بفصل الخصومات.
والقبيلة التي تريد إعلان الحرب، أو إعلان الهدنة، أو الوفاق تعلن ذلك في السوق.
والقبيلة التي تسعى لخلع أحد أبنائها منها لجرم ارتكبه، تعلن خلعه في السوق.
فالسوق منتدى متنوع النشاطات «35» وأغلب الأسواق يكون فيها مكان مرتفع يسمى بالراية يستخدم للوعظ والإعلان يعلوه المتكلم كي يعلن عن خبر معين «36» أو يقول الشعر أو غيره.
بالإضافة إلى ذلك كله كانت تعد محطات «متنقلة» لنقل التجارة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب والعكس «37» «انظر خريطة الطرق التجارية شكل رقم «12».
وكانت الطرق التجارية لها أهمية خاصة في الرعاية والاهتمام سواءً قبل الإسلام أو بعدها..وذلك من ناحية توفير الحماية من القبائل المجاورة للأسواق والطرق، أو من خلال التفاوض مع المتحكمين على هذه الطرق على دفع مال مقابل الحماية أو بعقد تحالفات كما هو حال قريش في الجاهلية التي عقدت أحلافاً مع قبائل يمنية في الجنوب وقبائل أيضاً يمنية في الشمال كما أنها عقدت حلفاً «إيلافاً» مع السلطات الرومانية في الشام فكانت لقريش رحلتا الشتاء والصيف «38».
ولاشك أن هذه الرحلة تتفق مع تدفق البضائع في أسواق الشام، وأسواق اليمن، وبالذات مع قدوم المراكب التجارية من الهند والصين وشرق أفريقيا التي تحط مراسيها في موانئ عمان واليمن «39».
وقد رعت الدول الإسلامية المتعاقبة في جزيرة العرب هذه الطرق واهتمت وبنت السبل «المياه» وحفرت الآبار وحددت المحطات «المراحل»، وجعلت في كل مرحلة مبنى خاصاً ينزل فيه السائرون، ليعرف كم قطع من المسافات وكم بقى له فكانت الطرق وتعرف بالجادة معروفة ومألوفة وألفت في ذلك كتب إلى حد أن جميع كتب الرحالة والجغرافيين وأصحاب كتب الخراج والبلدان كابن خرداذبه وقدامة بن جعفر، الهمداني، واليعقوبي، والمقدسي «40» جميع كتبهم أجمعت على أسماء أغلب المحطات التجارية المهمة في طول جزيرة العرب وعرضها «41» ويضيف ابن جريس «42» قائلاً:«والسالك لهذا الطريق لازال يلاحظ آثار الإصلاحات القديمة بادية عليه كتذليل عقباته، وتبليط الخشن من أرضه، ورصف بعض مجاري الأودية التي تعترضه.. حيث جرت عادة الحكام منذ القدم وطول العصور الإسلامية الوسيطة على تعمير الطرق وتعبيدها وإرساء بعض مظاهر العمران بين كل محطة وأخرى، تتمثل في إقامة الاستراحات والمساجد للمصلين وآبار المياه للشرب».
وقد اشتهرت مدن تجارية في جزيرة العرب منها على البحر ومنها في الداخل: فأما المدن البحرية منها عمان وصحار وهرمز «43» والشحر وعدن وغلافقة وجدة والعقبة..وأما الداخلية الجبلية والسهلية فنذكر منها الجند وصنعاء وصعده ونجران والطائف ومكة والمدينة هذه المدن سواءً البحرية أو البرية تشكل منظومة تكاملية في انتقال التجارة وتنوعها.
ومن المظاهر التجارية الموحدة أن العمل النقدية التي كان يتم التعامل بها كانت تسود الجزيرة كلها فأي عملة نقدية وغالباً تصدر في اليمن سكت في زبيد أو عثر أو صعدة أو صنعاء من فئة الدينار الذهبي، أو الدرهم الفضي، أو الفلوس المعدنية، كان التداول بها أمراً معتاداً في جميع أنحاء الجزيرة «44».
ومن المظاهر التجارية لجزيرة العرب الخبرة البحرية التي اكتسبها العرب في الاصطياد المتعدد الأنواع للأسماك واللؤلؤ حيث صار الشط الشرقي لجزيرة العرب «البحرين» مكاناً مشهوراً لصيادي اللؤلؤ..بينما شاطئ حضرموت اشتهر بالعنبر وأنواع الأسماك المختلفة.
ولاغرابة أن نجد البحارة العرب كانوا هم الذين أمدوا الأوروبيين بالمعلومات البحرية المهمة التي جعلتهم يمخرون عباب البحار والمحيطات، مدعيين أنهم من اكتشفوا ذلك من ذات أنفسهم، بينما المصادر تشهد بأن البحارة المسلمين كانوا هم الذين قدموا هذه المعرفة لهم فطورها الأوروبيون ونسبوها إلى أنفسهم.
ويكفينا دليلاً ماقام به البحارة أحمد بن ماجد وماألفه من كتب في علم البحار سبق به كل من ألف من الأوروبيين في هذا العلم «45».
سادساً: ملمح التنظيم الإداري:
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسة إدارية في ظرف زمني قصير لإدارة جزيرة العرب..فما إن توافدت الوفود إلى المدينة في مشارف نهاية العام التاسع الهجري حتى نهاية العام العاشر الهجري في هذا الوقت القصير تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وضع نظام إداري هرمي لجزيرة العرب كلها..فنظمت في جهاز إداري قمته في المدينة المنورة، وقاعدته في كل موطن لعشرية قبلية، حيث كان يولي العرفاء على العشائر، ويولي من فوقهم أمراء على المناطق «في اليمن عرفت بالمخاليف» ويولي من فوقهم أمراء على الولايات وتجتمع هذه القيادة بالقيادة المركزية في المدينة المنورة.
فقد وضعت الجزيرة العربية كلها في أربع وحدات إدارية كبيرة: اليمن الحجاز عمان البحرين..فاليمن يشمل كل مايقع جنوب الطائف حتى بحر العرب وعاصمته الجند ثم صنعاء..والحجاز يمتد حتى نجد شرقاً، والطائف جنوباً وعاصمته مكة المكرمة..وعمان الاقليم المشرف على المحيط الهندي والخليج..والبحرين الاقليم الممتد من حدود عمان جنوباً حتى نهاية شط العرب شمالاً وعاصمته هجر «46».
هذا التنظيم الإداري الذي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم «47» لم يختلف عنه ماكان عليه الوضع بعد ذلك في عهد الخلفاء الراشدين بل وفي عهد بني أمية وعهد بن العباس «48».
فبعد أن انتقلت عاصمة الدولة من جزيرة العرب، ظلت هذه أيضاً وحدة إدارية واحدة كما كانت تدار من عاصمة واحدة «المدينة المنورة» وقسمت أرجاء الجزيرة العربية إدارياً إلى جهاز إداري واحد مرتبط ومشدود إلى قيادة مركزية في المدينة المنورة.
وصار العرب هؤلاء الذين كانوا لاتجمعهم قيادة واحدة صاروا مجتمعين تحت قيادة واحدة لهم أهداف محددة، وبرنامج واضح يتمثل في الالتزام بالمنهج الذي تلقوه عن طريق نبيهم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام وبالسير وراء القيادة التي تقودهم بذلك المنهج..وصار دورهم هو أن يوصلوا هذا المنهجة إلى بقية أنحاء الأرض المعمورة.
وفي الجانب التنظيمي لم تكن الإمارة والإدارة مقتصرة على قبيل دون الآخر وإذا ماشاهدنا مثلاً جدولاً لمن تولى مكة المكرمة عبر عهد النبوة إلى آخر عهد بني أمية نجد النزاري والحضرمي والبجلي والثقفي وهذا ينطبق على البحرين وعمان واليمن والحجاز دون الشعور باحتقان إداري لهذه التولية أو تلك، وكانت جزيرة العرب تجمع أحياناً في إدارة واحدة، ففي عهد بني أمية أسندت ولاية الحجاز ونجد واليمن إلى والٍ احد «49».
وفي مطلع قيام الدولة العباسية كذلك تولاها وال واحد «50»..وكثيراً ماكانت اليمن تربط بولاية الحجاز أو مكة «51» أو من يتولى اليمن يمد سلطانه إلى الحجاز كالخوارج في عهد بني أمية، والدولة الزيدية الأولى، والصليحيين، وبني رسول.
ولما قامت دول مثل الفاطمية «العبيدية» في مصر مدت سلطانها إلى الحجاز ثم إلى اليمن وعملوا على جعلهما وحدة إدارية واحدة وكل من قام في الشام ومصر من دول كالأيوبيين والمماليك كانوا يمدون سلطانهم إلى الحجاز واليمن، فهما مترابطان في كل توجه إداري عند السلطات الحاكمة.
واستكمالاً للجانب التنظيمي فإن الدارس المدقق لم يجد التمييز في التولية الإدارية والقضائية والمكانة العلمية فلم يتمايز المضري عن اليمني ولا النزاري عن القيسي والقحطاني وهكذا فهم كيان واحد فالقاضي شريح الكندي يضرب به المثل في القضاء وعبدالله بن عباس العدناني يعد حبر الأمة، ومعاذ بن جبل الأزدي الأنصاري أعلم الناس بالحلال والحرام وهكذا.
فالإسلام حينما عاشه هؤلاء العرب جعلهم في بوتقة واحدة، وفي وشيجة عقدية واحدة ولم يتمايزوا قط على أساس الأعراق والأقوام وإن ظهرت يوماً ما نعرة التفاخر بالأنساب فلم يكن ذلك إلا ردة فعل، أو ثمرة مرة لما عرف بالشعوبية المقيتة التي كانت بمثابة جرثومة خبيثة تسللت إلى جسم المجتمع الإسلامي وفعلت فعلها وقد تصدى لها رجال من أهل العلم لإبطال مفعولها.
وإذا تتبع الباحث أسماء القادة والأمراء والقضاة في جميع انحاء بلاد الإسلام لوجدهم من قبائل بلاد العرب بمختلف أماكنهم فالأزدي والحضرمي والحميري والقيسي والأسدي والخثعمي والكندي والرهاوي والداري والتيمي والتميمي والشيباني وهكذا جميعهم يشكلون أعضاء الجهاز الإداري والقضائي والعسكري في بلاد الإسلام كلها وقد انضم إليهم أبناء الأمة الإسلامية بمختلف أقوامهم كالخراساني والرومي والفارسي والمصري والمغربي والموصلي..الخ وهذا يدل على أن جزيرة العرب لم تكن مصدراً لتصدير الفكر فقط، بل تولى أبناؤها قيادة بلدان الإسلام لقرون عدة، ولا أعني بالقيادة السياسية بل القيادة الإدارية في عمومها والقيادة العلمية بمختلف علومها.
سابعاً: ملمح التميز المالي
حينما ظهر الإسلام في جزيرة العرب لم يكن ديناً مقتصراً على جانب من الحياة دون جانب، بل كان منهجاً يشمل كل جوانب الحياة فكما أن له نظرته الفكرية للكون والحياة كذلك له منهجه في اتلعامل مع الأشياء والأحياء ومنهجه يشمل كل جوانب الحياة ومنها نظرته إلى المال وقد ارتبطت هذه النظرة بالأصل التصوري للإسلام فالأرض كلها ملك الله سبحانه والبشر مستخلفون عليها «52» ولذلك قسمت الأرض في دار الإسلام إلى نوعين: أرض عشرية وأرض خراج.
فالأرض الخراج: هي الأرض التي فتحها المسلمون، وصارت بأيدي أهلها الذين لم يسلموا فعلى هذه الأرض ضريبة تؤدي للدولة تسمى الخراج تقدر بحسب معطيات محددة.
والنوع الآخر وهي الأرض العشرية أي الأرض التي عليها ضريبة الزكاة إن صح هذا التعبير وقد تميزت جزيرة العرب بخصوصية لم تشاركها أي أرض أخرى حيث ليس عليها إلا ماتقرره فروض وأنصبة الزكاة «53».
وإن جار الأمراء في عصور مختلفة وفرضوا على أبنائها ضرائب ومكوساً غير شرعية، فهذا لايخرج جزيرة العرب عن وصفها الشرعي بأنها لا يجبى منها إلا مال الزكاة فقط، ومافعله جور الأمراء لايعطى شرعية لمجرد ممارستهم له، بل هو نشاز وغير مرغوب فيه.
ونخلص إلى أن جزيرة العرب هي لحمة واحدة جغرافياً، وسكاناً، وثقافة، واجتماعاً، وإدارةً، وتعاملاً مالياً من قبل الدولة، وإذا مااستقصينا ملامح هذا التلاحم فلا يعد مايقدم ورقة بل مؤلفاً، ولكننا أحببنا أن نشير إلى إضاءات سريعة من خلال مجموعة من الملامح التاريخية التي تدل على التلاحم في جزيرة العرب.
الهوامش:
«1» أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم 67.
«2» الجوهري، الوطن العربي 260.
«3» الهمداني.صفة جزيرة العرب 116، 117.
«4» الجوهري.الوطن العربي 267.
«5» الهمداني.صفة جزيرة العرب 85.
«6» صفة جزيرة العرب 89،90.
«7» انظر: المقدسي.أحسن التقاسيم 94،95.
«8» الجوهري.الوطن العربي 267.
«9» ابن جريس. ملامح النشاط التجاري لبلاد تهامة والسراه 160.
«10» انظر: هدى برباري.عمان 15،16/137،138 ابن حوقل.صورة الأرض 41، 42 الألوسي. تاريخ نجد 19.
«11» الفرح.اليمن في تاريخ ابن خلدون 33 وانظر: سيرة ابن هشام 1/130،140.
«12» الفرح.اليمن في تاريخ ابن خلدون 115.
«13» انظر: الفرح.اليمن في تاريخ ابن خلدون 155 117.
«14» الألوسي.تاريخ نجد 88 ابن جريس. ملامح النشاط التجاري 160.
«15» ابن المجاور.تاريخ المستبصر 57.
«16» عاطف عيد.قطر.ج 15،16ص 186 أمل عجيلي.البحرين.ج 13،14ص115.
«17» صفة جزيرة العرب 39.
«18» المصدر نفسه 248، 249.
«19» صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن 247 258.
«20» وانظر: المقدسي.أحسن التقاسيم 243.
«21» الآية 195 سورة الشعراء.
«22» الآية 103 سورة النحل.
«23» انظر: ابن الكلبي.الأصنام.
«24» الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ونصه «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً» وانظر: أبو عبيد. الأموال 128.
«25» جزء من كتاب بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم حينما بعثه إلى اليمن «انظر: حميد الله. الوثائق السياسية للعهد النبوي 207».
«26» عبدالله كامل موسى عبده.الفن المعماري الإسلامي حتى نهاية العصر الرشيدي 195 وأحال إلى: محمد هزاع.عمارة المسجد 38، 39.
«27» انظر: الرازي. تاريخ مدينة صنعاء 127 ومابعدها وشيحة. مدخل إلى العمارة والفنون الإسلامية في الجمهورية اليمنية 29، 30.
«28» حسن الباشا، مدخل إلى الآثار الإسلامية 122.
«29» انظر مزيداً من التفاصيل عن هذا الموضوع: الشجاع.تاريخ اليمن في الإسلام 260،261.
«30» ابن خلدون. تاريخ 2/66.
«31» ابن خلدون.تاريخ 3/116 المسعودي .مروج الذهب 257.
«32» الطبري. تاريخ 8/528، 536 الأشعري ، مقالات الإسلاميين 156، 157 المحلى، الحدائق الوردية 1/197 الحمادي.كشف أسرار الباطنية 14 مصطفى غالب.تاريخ الدعوة الإسماعيلية 152 157.
«33» انظر: السيف.الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي 207 309.
«34» سعيد الأفغاني.أسواق العرب في الجاهلية والإسلام 15،16.
«35» انظر: اليعقوبي. التاريخ 1/270 السهيلي الروض الأنف 4/24 سعيد الأفغاني. أسواق العرب 242 ومابعدها.
«36» ابن جريس. ملامح النشاط التجاري لبلاد تهامة والسراة 182.
«37» سعيد الأفغاني.أسواق العرب في الجاهلية والإسلام 15،16.
«38» ابن كثير. التفسير 9/512 الطبري.تاريخ 2/252 الألوسي.بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 3/386، 387 «تصحيح بهجة الأثري» جواد علي المفصلفي تاريخ العرب 7/241 سعيد الأفغاني.أسواق العرب 20،21.
«39» حسن صالح شهاب أضواء على تاريخ اليمن البحري 81 زنوبة نادي موسى ، نشاط مكة التجاري قبل الإسلام 77.
«40» انظر: ابن خرداذبة. المسالك 125 135 وقدامة، الخراج 185 190 واليعقوبي.البلدان والمقدسي . أحسن التقاسيم 106 113 والهمداني صفة الاصطخري. مسالك الممالك 27، 28 ابن حوقل ، صورة الأرض 4547.
«41» ابن جريس،ملامح النشاط التجاري لبلاد تهامة والسراه 166.
«42» المرجع نفسه والصحفة.
«43» انظر: علي منصور نصر، مكانة الخليج العربي التجارية في العصر العباسي 418425.
«44» انظر: المقدسي. أحسن التقاسيم 99 الزيلعي. مكة وعلاقاتها الخارجية «301 487ه» 160 السيف.الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز 150 ابن جريس. ملامح 193، 194.
«45» له كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، نشره مجمع اللغة العربية بدمشق 1390ه/1971م، وانظر عنه: التازي. ابن ماجد والبرتغال.
«46» ياقوت الحموي، معجم البلدان 1/346.
«47» انظر تفاصيل هذه التنظيمات في:
العلي. دراسات في الإدارة في العهود الإسلامية الأولى.
الشجاع.النظم الإسلامية في اليمن 15 39.
«48» انظر: ياقوت، معجم البلدان 1/347 وهو يتحدث عن التقسيم الإداري لعمان والبحرين واليمن، فيذكر أن البحرين ربما عد من اليمن، وأحياناً ماكانت عمان عملاً مستقلاً وأحياناً كانت تجمع مع البحرين واليمامة في عمل إداري واحد وراجع جداول قوائم الولاة والعمال الملحق لكتاب دراسات في الإدارة لصالح العلي 249 350.
«49» تولاها الحجاج بن يوسف الثقفي، انظر: الرازي. تاريخ مدينة صنعاء 33،39.
«50» تولاها داود بن علي.انظر: اليمن في تاريخ ابن خلدون 502.
«51» ابن الديبع. قرة العيون 1/175.
«52» يقول الله سبحانه:«إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» «الأعراف 127» ويقول سبحانه «هو أنشأكم مكن الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب» «هود 61».
«53» انظر: أبو عبيد.الأموال 615 617 أبو يوسف . الخراج 64،68،69،75 يحيى بن آدم. الخراج 26،112،119.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.