عاجل: قبائل همدان بصنعاء تنتفض ضد مليشيات الحوثي وتسيطر على أطقم ومعدات حوثية دخلت القبيلة "شاهد"    سرّ السعادة الأبدية: مفتاح الجنة بانتظارك في 30 ثانية فقط!    عبدالملك الحوثي يكلف هذا القيادي بملاحقة قيادات حزب المؤتمر بصنعاء ومداهمة مقراتهم وما فعله الأخير كان صادما!    هل تتجه المنطقة نحو تصعيد عسكري جديد؟ كاتب صحفي يكشف ان اليمن مفتاح اللغز    نهاية مأساوية لطبيبة سعودية بعد مناوبة في عملها لمدة 24 ساعة (الاسم والصور)    الكشف عن ترتيبات أمريكية مؤلمة للحكومة الشرعية وقاسية على القضية الجنوبية    محمد علي الحوثي: "غادري يا ميسون فهو الأفضل لش".. بمن يتغزل "الطبل"؟    600 ألف فلسطيني نزحوا من رفح منذ تكثيف الهجوم الإسرائيلي    البريمييرليغ: اليونايتد يتفوق على نيوكاسل    نجل قيادي حوثي يعتدي على مواطن في إب ويحاول ابتزازه    شاهد: مفاجأة من العصر الذهبي! رئيس يمني سابق كان ممثلا في المسرح وبدور إمراة    ظلام دامس يلف عدن: مشروع الكهرباء التجارية يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت وطأة الأزمة!    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    تطور مفاجئ.. فريق سعودي يقدم عرضا ضخما لضم مبابي    مليشيا الحوثي تواصل اختطاف خبيرين تربويين والحكومة تندد    اختتام البرنامج التدريبي لبناء قدرات الكوادر الشبابية في الحكومة    بريطانيا تخصص 139 مليون جنيه استرليني لتمويل المساعدات الإنسانية في اليمن مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    استعدادا لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني الأول يبدأ معسكره الداخلي في سيئون    بائعات "اللحوح" والمخبوزات في الشارع.. كسرن نظرة العيب لمجابهة تداعيات الفقر والجوع مميز    يوفنتوس مصمم على التعاقد مع ريكاردو كالافيوري    العليمي يصل المنامة للمشاركة في القمة العربية    وزارة الحج والعمرة السعودية توفر 15 دليلاً توعوياً ب 16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    كلوب يسخر من واقعة المشادة مع صلاح    استقرار اسعار الذهب مع ترقب بيانات التضخم الأميركية    بمشاركة أهلي صنعاء.. تحديد موعد بطولة الأندية الخليجية    نيمار يتصدر معدل صناعة الفرص في الدوري السعودي رغم غيابه! (فيديو)    وزيرا المياه والصحة يبحثان مع البنك الدولي تمويل إضافي ب50 مليون دولار لمشروع رأس المال البشري مميز    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 35 ألفا و233 منذ 7 أكتوبر    الخطر الحقيقي على الجنوب وقضيته يكمن في معاشيق    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    دعوة مهمة للشرعية ستغري ''رأس المال الوطني'' لمغادرة صنعاء إلى عدن وتقلب الطاولة على الحوثيين    «البلسم»تختتم حملتها الطبية في اليمن وتنجح في إجراء 251 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية للكبار والأطفال    هل الشاعرُ شاعرٌ دائما؟ وهل غيرُ الشاعرِ شاعر أحيانا؟    قطع الطريق المؤدي إلى ''يافع''.. ومناشدات بتدخل عاجل    الرئيس الزُبيدي يقرر إعادة تشكيل تنفيذية انتقالي شبوة    عار على الجنوب وقيادته ما يمارسه الوغد رشاد كلفوت العليمي    قصص مدهشة وخواطر عجيبة تسر الخاطر وتسعد الناظر    وداعاً للمعاصي! خطوات سهلة وبسيطة تُقربك من الله.    ثنائية هالاند تُسحق ليفربول وتضع سيتي على عرش الدوري الإنجليزي!    عدن تنتفض ضد انقطاع الكهرباء... وموتى الحر يزدادون    في الذكرى ال 76 للنكبة.. اتحاد نضال العمال الفلسطيني يجدد دعوته للوحدة الوطنية وانهاء الانقسام مميز    وفاة امرأة وطفلها غرقًا في أحد البرك المائية في تعز    الذهب يرتفع قبل بيانات التضخم الأمريكية    سنتكوم تعلن تدمير طائرتين مسيرتين وصاروخ مضاد للسفن فوق البحر الأحمر مميز    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    وصمة عار في جبين كل مسئول.. اخراج المرضى من أسرتهم إلى ساحات مستشفى الصداقة    بن عيدان يمنع تدمير أنبوب نفط شبوة وخصخصة قطاع s4 النفطي    أسرارٌ خفية وراء آية الكرسي قبل النوم تُذهلك!    ما معنى الانفصال:    البوم    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    احذر.. هذه التغيرات في قدميك تدل على مشاكل بالكبد    دموع "صنعاء القديمة"    اشتراكي المضاربة يعقد اجتماعه الدوري    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابن خلدون المؤرخ بين النظرية والواقع 732 808ه /1332 1406م
نشر في الجمهورية يوم 15 - 01 - 2007


- د.عبدالرحمن البيطار ..
ما أكثر الأبحاث والمقالات التي كتبت عن ابن خلدون ووصف بها «وحيد عصره العلامة» وما أكثر الندوات والمؤتمرات حوله في مناسبة ومن غير مناسبة، ولم يبق باحث في علم الاجتماع أو التاريخ إلاّ وأدلى بدلوه في الحديث عن ابن خلدون في مقدمة«1» لكتابه التاريخي التي أنهاها سنة 779ه ، وفي كتابه نفسه «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». . وكم من الباحثين في مجالات عديدة رجعوا إليه وإلى آرائه في أمور سبقته بمئات السنين،وتأتي مناسبة ذكرى مرور 600 سنة على وفاته كفرصة للحديث عنه وعن مؤلفاته وأفكاره.
هل يحق لنا أن نتساءل إذا كان ابن خلدون يستحق هذا التعظيم والتبجيل وتسليط الأضواء عليه وحده دون غيره وكأن أمتنا عدمت الرجال وندرت فيها العقول عبر القرون.
لانماري أبداً في أهمية ابن خلدون وفكره الموسوعي ونظرياته الجريئة، ولكن هل كل ماذكره ابن خلدون صحيح، وهل كل سلوكه سليم؟وهل طبق نظريته،التي ذكرها في مقتدمته، على كتابه التاريخي.
والسؤال الأهم لماذا نهتم بابن خلدون؟ هل لأن الغرب سلط عليه الأضواء ونحن نقلدهم ونفتخر به، لاشك أنهم وجدوا فيه شيئاً متميزاً فنسبوا لأنفسهم فكرة اكتشافه وحاولوا أن يجعلوا من آرائه متكأ لنظرياتهم، أو أنهم رأوه بعيونهم كما يريدون أن يروه.
المهم أننا سنلقي بعض آراء ابن خلدون وروايته التاريخية من خلال قراءة متأنية لما كتب وما وجه إليه من انتقادات، وهو قبل كل شيء أحد أعلام الفكر العربي الاسلامي في مرحلة معينة من تاريخ الأمة.
ولعل الاهتمام بابن خلدون لما يراه كثيرون من تقاطع جوانب عديدة من فكره مع ما نعيشه في حاضرنا، فقد سلط ابن خلدون الأضواء كشاهد على أسباب تراجع الحضارة العربية الإسلامية في عصره ونبه إلى الأفكار القادمة، ومرت السنوات ونحن نشهد اليوم تراجعاً أكبر في وضع المسلمين على مستوى العالم، فهل سيكون الحديث عن ابن خلدون دافعاً لتلمس أسباب التخلف الحضاري والدور الإنساني العالمي لأمتنا.
1 من هو ابن خلدون؛ أصوله: هو ولي الدين عبدالرحمن بن محمد.. ابن خلدون، وأسرته عربية يمانية من حضرموت ينتهي نسبها إلى وائل بن حجر، وكان جده «خالد» المعروف «بخلدون» فهو الذي قاد اليمنيين عند فتح الأندلس، وقد نزل مدينة قرمونة واستقر بها، ثم غادرها بنوه إلى أشبيلية، ولم تظهر أهمية تلك الأسرة إلاّ في نهاية القرن الثالث الهجري في عهد الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن الأموي «274 300ه »استمر بنو خلدون في اشبيلية طيلة حكم الأمويين للأندلس دون أن يتولوا زعامة أو رئاسة.
فلما استولى بنو عباد اشبيلية تسلم أفراد من بني خلدون وزارتهم، ثم استولى المرابطون على الأندلس بقضائهم على ملوك الطوائف، ثم قضى الموحدون بالمغرب على دولة المرابطين وانتزعوا منها الأندلس أيضاً، وولوا على اشبيلية غربي أبا حفص زعيم قبيلة هنانتة الذي توارث بنوه الولاية من بعده، فاتصل بنو خلدون بأولئك الولاة الجديد مستعيدين شيئاً مما كان لهم من جاه ورئاسة.
لكن الاضطرابات التي غدت الأندلس مسرحاً لها نتيجة القضاء على دولة الموحدين وسقوط البلاد تباعاً بيد الأسبان، كل ذلك حمل الأمير أبابكر الحفصي على مغادرة الأندلس إلى إفريقية سنة 620ه والدعوة لنفسه، خالعاً طاعة الموحدين «من بنى عبدالمؤمن».
كما غادر بنو خلدون اشبيلية قبل سقوطها بيد الأسبان إلى سبتة ثم إلى تونس، فاتصل الجد الرابع لابن خلدون بأمير مدينة بونه الذي وصله بنواله، وولي أجداد ابن خلدون مناصب سياسية هامة في تونس إلى أيام محمد، أبي مؤرخنا الذي نترجم له والذي زهد في المناصب السياسية وآثر الاهتمام بالدرس والتحصيل، وغدا علماً من أعلام الفقه وعلوم اللغة، وشاعراً مجيداً، وكانت وفاة محمد هذا في وباء الطاعون الذي انتشر في تونس وسواها من البلاد العربية الإسلامية سنة 749ه «1349م» مخلفاً عدداً من الأولاد هم ولي الدين عبدالرحمن وكان في الثامنة عشرة سنة من سني حياته، وإخوته الأصغر عمر وموسى ويحيى ومحمد، ونبغ منهم يحيى الذي تولى الوزارة فيما بعد«2».
2 تعليم ابن خلدون وحياته: لابد من التعرف قليلاً على حياة ابن خلدون حتى نفهم تكوينه وتفكيره ومواقفه.
درس ابن خلدون العلوم الإسلامية واللغوية على أباه ثم على أشهر اساتذة تونس التي كانت موئلاً لعلماء الأندلس اللاجئين وغيرهم، وعندما انخرط ابن خلدون في الحياة العلمية، درس المنطق والفلسفة وتفوق فيها،وبعد الوباء «751ه » استدعاه حاكم تونس المستبد الوزير «أبو محمد بن تافراكين» وقلده منصب «كتابة العلامة» عن السلطان الفتى أبي اسحق المحجور عليه والأسير، وهذه الوظيفة هي التوقيع عن السلطان وشارته على المراسلات والمراسم الملكية، ولم يتجاوز عمر ابن خلدون العشرين عاماً.
وأثناء الصراع بين أمير قسنطينة وحاكم تونس سنة 753ه،فر ابن خلدون وتنقل حتى قصد بسكرة، ولما سقطت تلمسان وما جاورها بيد أبي عنان فارس المريني في المغرب الأقصى التحق ابن خلدون بخدمته بوظيفة الكتابة والتوقيع، ثم استدعاه أبو عنان غضب على ابن خلدون وسجنه مرتين حتى وفاة أبي عنان سنة 759ه فأطلق السلطان الجديد أبو سالم سراحه وأعاده لمنصبه وأوسد إليه منصب قاضي القضاة حتى مقتل السلطان.
ثم غادر فارس إلى بلاط بني الأحمر في غرناطة واتصل بوزيرهم لسان الدين بن الخطيب «763ه»، ثم رحل ابن خلدون إلى بجاية فجعله في المغرب الأوسط فجعله أميرها أبو عبدالله الحفصي حاجباً له وولاه كذلك منصب الخطبة، كما جمع له التدريس سنة 766 ه إلى منصبيه هذين، ثم التحق ابن خلدون بأمير تلمسان وناصره، ثم تخلى عنه وعاد إلى الأمير المريني عبدالعزيز في فاس سنة 774ه، ثم عاد إلى غرناطة ونفي منها سنة 776ه.
وقد رأى معاصرو ابن خلدون فيه عدم الوفاء لأحد، ولما شعر هو بزهد الأمراء فيه لتقلبه اعتكف في قلعة ابن سلامة مدة أربع سنوات وبدأ بتأليف كتابه «العبر.. » ثم مقدمته إلى سنة 780ه ثم عاد إلى تونس.
غادر ابن خلدون تونس سنة 784 قاصداً الحج إلى بيت الله الحرام، وتوقف في الإسكندرية والقاهرة، وكانت في عهد السلاطين المماليك مقراً للخلافة العباسية بعد سقوط بغداد ولذلك كانت مركز العالم الإسلامي، وانتشرت فيها العلوم والفنون، ووصلت شهرته إليها وعاش فيها أربع سنوات سنة «784 808ه » ولم يغادرها إلاّ ثلاث مرات، ودرس في الأزهر والمدرسة القمحية بجوار جامع عمرو بن العاص، وتقرب من السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين برقوق «784 790 و 792801ه » فعينه قاضياً للمالكية أقل من سنتين، ولم يكن كل المصريين راضيين عنه لأسباب أهمها صراحته أو لأنه غريب، بل قيل إن أهل المغرب عجبوا لتوليته«3».
ثم مال ابن خلدون إلى الزهد إثر غرق أسرته وأمواله، فخرج حاجاً سنة 789ه ، وعاد ثانية إلى القضاء سنة 801، ثم زار القدس 802ه ،وأصبح قاضي قضاة القاهرة.
ثم رافق سنة 803ه السلطان ناصر الدين أبو السعادات فرج الدين بن برقوق «801 815 ه » إلى دمشق مع سائر القضاة لحرب تيمورلنك.
وقد ذكر ابن تغري بردي في كتاب المنهل الصافي «4» اتصال ابن خلدون بتيمورلنك على أبواب دمشق، وعاد بعدها إلى القاهرة فتولى القضاء للمرة الثالثة في شعبان سنة 808ه ، ومات وهو قاض في السنة نفسها «26 من شهر رمضان» ،وكان قد ولد في أول رمضان سنة 808ه، عن ستة وسبعين عاماً ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر في القاهرة.
3 المواقف من ابن خلدون: لقد كان معاصرو ابن خلدون يأخذون عليه عدم الوفاء لأحد، بعدم صدق الولاء وخاصة أنه لعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية في المغرب العربي، وكان لايتردد البتة في خيانة ولي نعمته والانضمام إلى أعدائه إن وجد مصالحه تتفق وسلوك ذلك الطريق«5».
وممن عارضه بعض المصريين حينما جنح إلى الصرامة في توقيع العقوبات، وسخط عليه أصحاب الأغراض فيها ولفقوا له التهم ووشوا به«6».
4 مؤلفات ابن خلدون: يعد كتاب ابن خلدون التاريخي مع مقدمته أهم مؤلفاته المعروفة، وإن كانت الكتب قد ذكرت بعض الإشارات إلى كتب أخرى، فقد ذكر لسان الدين الخطيب في كتابه «الإحاطة» ثبتاً بكتب ابن خلدون، ولم يعثر الباحثون إلاّ على مخطوطين من تراثه.
5 تاريخ ابن خلدون : وعنوانه الكامل: «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»،وقد آثر ابن خلدون أن ينهج منهجاً جديداً في تأليفه فقسمه إلى كتب ثم إلى فصول متصلة متداخلة، وتابع دراسة كل دولة منذ نشأتها إلى إنهيارها مع الإشارة إلى نقاط التداخل بين مختلف الدول.
وقد خالف ابن خلدون بطريقته هذه جمهرة من سبقه من المؤرخين الذين رأيناهم يصنفون، كتبهم التاريخية متسلسلة وفق السنين أي طريقة «الحوليات»،وهو بطريقته هذه أقرب إلى الدقة وحسن الرواية والتنسيق، وإن كانت هذه الطريقة ليست جديدة إلاّ أنه أظهر براعة في التنظيم والربط والسبك، وامتاز بالوضوح والدقة في تبويب الموضوعات ووضع الفهارس.
ولقد جعل ابن خلدون كتابه في ثلاثة كتب كبيرة هي «المقدمة» ثم «أخبار العرب» ثم «أخبار البربر» الذين أظهر ابن خلدون عناية في أخبارهم وقيل أنه ألف الكتاب ليصل في الحديث إليهم، مما كان مجالاً للناقدين، مع أن هذا القسم هو من أنفس كتبه لأنه قدم معلومات خاصة عن البربر لأنه كان مطلعاً على أحوالهم.
وقد اختتم ابن خلدون كتابه العبر فصول دعاها« التعريف بابن خلدون» ترجم فيها لنفسه منذ ميلاده إلى سفره إلى مصر وما جرى له من حوادث حتى مستهل سنة 797ه.
ولم يكن ابن خلدون أول من ترجم لنفسه فقد سبقه ياقوت الحموي في «معجم الأدباء»،ومعاصره لسان الدين بن الخطيب في «الإحاطة في أخبار غرناطة»، ومعاصره الحافظ ابن حجر في «رفع الأصر على قضاة مصر»، والسيوطي في «حسن المحاضرة».
6 ابن خلدون المؤرخ والمنهج: لم يكن ابن خلدون كثير التأليف في التاريخ، ولكن حسبه فخراً أنه أسبق مؤرخي العالم أجمع إلى النظر في التاريخ كعلم يستحق الدراسة، لا رواية تجمع أخبارها المتناثرة وتدون.
ومن المؤكد أن مقدمته التي أراد أن يستهل بها كتابة هي التي كان لها ذلك الأثر الخالد الذي سما بصاحبه إلى مصاف المؤرخين وعلماء الاجتماع العالميين «7».
لقد كتب ابن خلدون مقدمته لكتابه التاريخي القيم لتكون شرحاً وتمهيداً تفهم حوادث التاريخ على ضوئه، فجاءت نسيجاً وحدها من الابتكار الفذ الذي اعتبر مذهباً يساعد على تعليل الظواهر الاجتماعية وفهمها، كما يساعد على فهم التاريخ ونقده وتحليله.
ووصف مؤرخنا بحثه الجديد بأنه علم مستقل بذاته له موضوع خاص وهو «العمران البشري والاجتماع الإنساني»، أما القضايا التي يعالجها ذلك العلم فهي «بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى»، ولم يغرب عن بال ابن خلدون الإشارة إلى أن ذلك العلم جديد «مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة» ،وأنه لم يسبق في هذا المضمار من قبل أحد، بل انتهى إليه بالبحث الخاص، فهو والحالة هذه أول من وضع ذلك العلم ونظم وشروحه.
وقد أوجز ابن خلدون في مقدمته مادة علمه فقال:«إنها ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوالهم العمران في الملك والكسب والعلوم أو الصنائع بوجوه برهانية، يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتدفع بها الأوهام والشكوك».
7 ابن خلدون بين المؤرخ وعالم الاجتماع في المفهوم الأوروبي الحديث : أسس ابن خلدون في مقدمته أصول التاريخ، ومكنته حياته ومناصبه الكبيرة وسفارته بين الملوك من الاطلاع على بواطن الأمور وربط الأحداث بعضها ببعض ومعرفة أسبابها ونتائجها، وقد استطاع من هذا كله أن يستنتج من الجزئيات كليات ونظريات يطبقها على الأحداث.
وقال ابن خلدون في فضل عالم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلمام لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، سواء بعامل الغرض والتحيز، أو بعامل السهو والجهل بقوانين العمران وأحوال المجتمع وعدم الدقة والتمحيص في تقدير الممكن والمستحيل،ولم تخل مناقشته أحياناً من الضعف والتحيز برأي بعض الكتاب، «إن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم والأنبياء في سيرهم..».
ثم أردف فقال: «كدنا نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط، فقد زلت أقدام كثير من الأثبات والمؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء..».
ويمكن القول أن شأن ابن خلدون كان أعلى من شأن مدون للوقائع بمراحل، وذلك أنه أراد أولاً أن ينتج أثر مؤرخ يجاوز نطاق البلد الذي عاش فيه فألف تاريخاً عاماً يعد عملاً عظيماً وحيداً في ذلك الزمن من دار الإسلام.
غير أن ابن خلدون أراد على الخصوص أن يضع أثراً فلسفياً بادئاً بتركيب معارفه التاريخية، وكان هذا مشروعاً فريداً لامثيل له منذ عهد العظماء في الفلسفة اليونانية ،وقد شعر ابن خلدون بنقص التاريخ، كما كان يتمثل في زمنه هذا التاريخ الذي كان يقوم على سرد الوقائع والأسماء والأوقات، فعزم على الارتقاء إلى معرفة مانسميه« السنن التاريخية ». وهو إذ لم يرض بالرواية ولا بالتعداد أراد الفهم والإيضاح، وأراد الدلالة إلى أصل الأمم ومعرفة أسباب الحوادث،ومايمكن أن يكون بينها من تباين وتماثل داخلاً من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص، فاستوعب أخبار الخليفة استيعاباً وأعطى لحوادث الدول عللاً وأسباباً.
وقد اتفق لمؤرخنا من الدروس كما لها في عصره، وتشتمل هذه الدروس في الوقت نفسه عن علم التوحيد والفقه والعلوم الطبيعية والفلسفية فإنه أتمها باكراً، ثم حاول النقد التاريخي فناهض المؤلف في مقدمته ميل مؤرخي الشرق إلى جمعهم جمع تخليط كل الأخبار وكل الوقائع واضعين على مستوى واحد حوادث التاريخ والأحاديث أو الأقاصيص التي هي أكثر الأمور بعداً عن الصحة، سائرين حصراً وراء شغفهم أن يظهروا أوسع مايمكن من العلم وأن يبدوا غير غافلين عن شيء..
ويرغب ابن خلدون منذ بدء مقدمته أن يشير إلى شعوره بأنه يقوم بمحاولة غير مسبوق إليها، وهو يردد ذلك من غير تواضع في جمل تتم عن زهو رائع.
وكان يوجد لدى ابن خلدون خلق لايقبل الجدل وفكر عبقري، أي أن يظهر نفسه قابلاً للحيرة فينتبه بغتة، ويضع لنفسه أسئلة عن الأمور العادية التي ينظر إليها الجمهور نظراً آلياً من صميم ما تأصل من العادات، ويبين النقاط التي يختلف بها أثره عن الآثار التي تقدمته، فكان عنده أن تأليف المؤرخين حتى زمنه ليست سوى سرد للحوادث لاتنمي الذهن ولا تنطوي على إمتاع للفيلسوف، كما يجد أن المؤرخين لم يخطر ببالهم قط أن يصنعوا مثله في أمر الدول، فهم لايتعرضون لبدايتها ولايذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها«8».
8 مقدمة ابن خلدون في نظر العرب والمسلمين: لقد ذكر بعض علماء المسلمين السابقين لابن خلدون آراء ودراسات في أمور كالتي عالجها ابن خلدون مثل «ابن الطقطقي» وغيره.وقد كان ابن خلدون مرشداً غير مباشر لمن بعده من مؤرخي الدول والعلوم من العرب والترك فنحا حاجي خليفة نحوه في تاريخ العلوم والحضارة في كتابه كشف الظنون،وكذلك حسن صديق خان ملك باهو بال بالهند في كتابه أبجد العلوم بل استرق منه فصولاً برمتها.و كذلك العلامة طاش كبري زاده في كتابه مفتاح السعادة،وكذلك القاضي عبدالنبي بن عبدالرسول الهندي في كتابه دستور العلماء أو جامع العلوم في أربعة مجلدات ضخام.
وكذلك خير الدين باشا التونسي في مقدمة تاريخه نحا منحاه في الأمور السياسية والاجتماعية،ولجودت باشا العثماني المؤرخ المشهور مقدمة لتاريخه باللغة التركية طرقت أكثر أبواب المقدمة وترجمت إلى العربية«9».
لقد ظهر ابن خلدون في عصر سرى فيه الإنحلال إلى صولة الإسلام وسيادته،
واضحل التفكير الإسلامي،فلم يكن أجدر العصور بالتعريف والبحث،ولبث تراثه مطموراً في الشرق والغرب مدى قرون،يكاد الشرق يجهله،ولايعرف الغرب شيئاً عنه«10».
ومما عالجه ابن خلدون في مقدمته علوم اللسان العربي فعقد لها فصلاً ،ثم تحدث بالتالي على علوم النحو واللغة والبيان،وأنهى فصله بالبحث في علم الأدب«11»فيقول:«هذا العلم لاموضوع له،ينظر إليه في إثبات عوارضه أو نفيها،وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته ،وهي الإجادة في فن المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم،فيجمعون لذلك من كلام العرب ماعساه تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة،وسجع متساو في الإجادة،ومسائل في اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة،يستفزي منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية،مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به مايقع في أشعارهم منها،وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة،والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم..»«12»
9 معرفة الغرب للمؤرخين المسلمين قبل ابن خلدون: عرف الغرب عدداً من المؤرخين المسلمين قبل ابن خلدون بعصور طويلة مثل المسعودي وأبي الفداء وابن العبري وابن خلكان وابن عربشاه،وترجمت بعض مؤلفاتهم إلى اللاتينية ،ونشر تاريخ ابن العبري وتاريخ ابن عربشاه«تاريخ تيمور» في إنكلترا بنصهما العربي منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي«13».
10 مقدمة ابن خلدون في نظر الغربيين: ولماذا اهتموا بها:بدأ اهتمام مفكري الغرب بابن خلدون مبكراً،وقد ورد أول ذكر لاسمه ولتراثه سنة 1697م في موسوعة هربلو ثم ترجم المستشرق الفرنسي سلفستر دوساسي لابن خلدون في قاموسه عن العرب،كما ترجم فقرات من مقدمته في مطلع«ق1806/19م» ثم تابع في عام 1816فنشر ترجمة أوفى لابن خلدون.لما كتب عنه المستشرق النمساوي فون هامر وقال عنه :«إنه مونتسكيو العرب» ومونتسكيو هو فيلسوف فرنسي ق 18م.
واستمر المستشرقون يعنون به حتى نشر كاترمير مقدمته بنصها العربي سنة 1858م.ثم ترجمها بعد قليل دوسلان إلى الفرنسية.
وبدأ الغرب يعني عناية تامة بنظريات ابن خلدون الاجتماعية،فقد وجدوا في آرائه نظريات فلسفية واجتماعية وسياسية مثل التي عالجها من بعده من الأجانب «مكيافيللي» و«فيكو» الإيطاليان،ومونتسكيو الفرنسي وآدم سميث الإنكليزي وكونت الفرنسي..
كان علماء الغرب يظنون قبل دراسة آثار ابن خلدون ونظرياته أن مفكري الغرب هم الذين اهتدوا إلى فلسفة التاريخ ومبادئ الاجتماع وأصول الاقتصاد والسياسة،ولكن تبين لهم أن ابن خلدون سبقهم فدرسوه ورفعوه إلى ذروة المجد ونظموه في سلك مؤرخي الحضارة والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة وأن له فضل السبق.
وقد اعتبره بعضهم مؤرخاً للحضارة،وعده آخرون فيلسوفاً،وقرنوه بابن سينا والغزالي وابن رشد وابن طفيل،في حين عده آخرون مؤسس علم الاجتماع،ورأى فيه آخرون واضع علم السياسة«14»ولكن الذي غلب على اجتماعهم هو أنه مؤسس علم الاجتماع الذي اعتبروه علماً حديثاً اخترعوه.
وكثرت الدراسات الغربية حول ابن خلدون ومازالت،ولاشك أن ابن خلدون هو المؤرخ،والمؤرخ هو الدارس لكل هذه الظواهر والمحلل لها وليس راوياً لبعض الأخبار فقط وهذا تأكيد لقول الله سبحانه:«لقد كان في قصصهم لعبرة» فهذه هي غاية علم التاريخ
ولذلك نرى ابن خلدون يجعل عنوان كتابه كلمة «العبر».
ولكن السؤال الذي نطرحه هو:لماذا اهتم الغربيون بابن خلدون هذا الاهتمام البالغ وأعطوه هذه الأهمية في حين لم يهتموا بغيره بنفس المستوى.
والسوال الآخر هو:ألم يكن اهتمامنا بابن خلدون تقليداً للغربيين أكثر من عمل ذاتي؟
11 العرب وفكر ابن خلدون: يرى بعض الباحثين العرب ان ابن خلدون ظلم كثيراً وأن أشد الظلم قد جاء من أمته التي أدى إليها أعظم الخدمات وارتفع بأمجادها الفكرية إلى السماء ،ويزداد هذا الإحساس قوة إلى حد الألم،عندما نرى كبار كتاب العرب المعاصرين يتسابقون إلى الطعن في ابن خلدون والنيل من مكانته ومن تراثه،وحتى من نسبه ومن شرفه أيضاً.
وقديماً قال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ولعل من الأمور الواضحة أن الذي اكتشف ابن خلدون على الصورة التي تعرفها الآن هي أوروبا ،ووضعته في هذه المنزلة «15».
أما العرب فإنه بالرغم من انتشار مقدمته بينهم فإنهم لم يدركوا شيئاً من قيمة ابن خلدون إلا في بداية هذا القرن الميلادي ،وبصورة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى ،أي مع بداية الغزو الفكري الغربي والتأثر بالغرب ،فقد أصدر طه حسين كتابه عن تراث ابن خلدون بعنوان«فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»،ولكن طه حسين مع الأسف الشديد قام يحطم ،في حماسة وجرأة،أكثر ماقاله علماء الغرب عن ابن خلدون وتراثه،ولم يجد باباً أو سبيلاً للطعن إلا فتحه،وعندما لايجد باباً أو سبيلاً إلى ذلك يضرب حقائق العلم والتاريخ على هواه مستعيناً بمنطقه الجدلي الذي يعرفه عنه قراؤه وتلاميذه وسامعوه«16»
12 انتقاد ابن خلدون في موقفه من العرب: رأي بعض الباحثين أنه يمكن ملاحظة تحامل من ابن خلدون على العرب عند حديثه عنهم،فهم في نظره«أمة وحشية تقوم فتوحهم على النهب والعبث،ولايتقلبون إلا على البسائط السهلة، ولايقدمون على اقتحام الجبال أو الهضاب لصعوبتها،وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب لأن طبائعهم من الرحلة«17»..»
وقد رد كثيرون على آراء ابن خلدون في العرب ومن أهمها ما أورده محمد عبدالله عنان من تفنيد.وماقاله:«...ولكننا نقول في شأن الفتوحات العربية،أن العرب هم الذين افتتحوا وهاد الشام ومفاوز الأناضول وأرمينية وتوغلوا فيما وراء فارس،واقتحموا شمال افريقية حتى المغرب الأقصى ثم اسبانيا،وعبروا جبال البرنية إلى فرنسا..»
ويتابع عنان:
«ولعل سر تحامل ابن خلدون رغم أصله العربي ينتمي في الواقع إلى ذلك الشعب البربري الذي افتتح العرب بلاده بعد مقاومة عنيفة وفرضوا عليه دينهم ولغتهم،واضطره بعد طول النضال والمقاومة والانتقاض أن يندمج أخيراً في الكتلة الإسلامية،وأن يخضع راغماً لرئاسة العرب في افريقية واسبانيا حتى تحين الفرصة لتحرره ونهوضه»«18»
وفي هذا الرد نجد التعصب القومي واضحاً للرد على ما رأوه تعصباً قومياً لابن خلدون «19» ولعل هؤلاء الناقدين لابن خلدون قد أخطأوا فهمه وفهم مصطلحات عصره،فتحاملوا عليه كثيراً حتى أن سامي شوكة من العراق طالب بنبش قبر ابن خلدون وحرق مؤلفاته«20».
ونجد الباحث صلاح مصطفى الفوال في كتابه« البداوة العربية والتنمية» يرى بكل وضوح أن ابن خلدون حينما يذكر العرب وصفاتهم فإنما يقصد الأعراب أو البدو وأن صفاتهم ناتجة عن طبيعة حياتهم ومعاشهم، فكيف غاب ذلك عن المتسرعين في الهجوم على ابن خلدون«21»
كما أن د.علي عبدالواحد وافي يؤكد أن مايقصده ابن خلدون هم الأعراب أو البدو وليس الشعب العربي كجنس«22».
13 ابن خلدون وناقدوه: لم يكن الهجوم على ابن خلدون بسبب مواقفه السياسية فقط وعلاقته بالحكام،ولا في بعض نظرياته كرأيه في العرب ويقصد الأعراب أو البداوة.
ولكنه تعرض للاتهام بأنه لم يطبق نظريته في النقد التاريخي على كتابه نفسه،بل اتهم أنه مال إلى ماأورده من أخبار وتفسير لها من منطلقات فكرية،كما فعل غيره من المؤرخين العرب المسلمين الذين سبقوه حيث كانت الأقلية المعارضة تاريخياً تتهم الجماعة والأغلبية وحكامها وتتهم المؤرخين بأنهم وقعوا تحت تأثير الأيديولوجيا الرسمية،مع أن احداث التاريخ المشار إليها بهدوء في التاريخ العربي الإسلامي نجد لها مشابهاً بل مطابقاً في التاريخ المعاصر،مما يدل على صدق هذه الأحداث القديمة.
ويعتبر هؤلاء «أن أسباب العديد من مظاهر الجمود والتقليد والتراجع تعود إلى تلك الصور المصطنعة والقوالب الفكرية والسياسية والاجتماعية التي أورثها لنا التاريخ ومن ساهم في صنعه وتدوينه حكاماً ومؤرخين وآخرين متطوعين غافلين»
ولقد انطلق الناقدون هؤلاء من دراسة شروط النقد التاريخي التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته،ولم يجد أحد الباحثين ما يستشهد به على تطوير تاريخنا إلا أن نتأسى بالتاريخ الذي بدأت أوروبا بصنعه منذ التحول إلى التاريخ الدنيوي،وأشار إلى «لورترافاله» في ق15م كشاهد للنقد العقلي ،وكأن العقل مغيب عند أمتنا ورجالها،ويستشهد بمؤرخين فرنسيين «شارل لانجلوا وشارل سينو بوس» حول استخدام العقل«23».
أما منهج ابن خلدون في النقد التاريخي فاعتمد على تقسيم المؤرخين العرب المسلمين إلى طبقات ثلاث:الثقاه أو الفحول كالطبري والمسعودي،وطبقة المتطفلين الذين خلطوا،وطبقة الذين اقتفوا آثار المتطفلين،ونقلوا الأخبار دون نقد وتمحيص.
وفي رأي ابن خلدون أن أسباب الأخطاء ومعايير التصحيح هي:«24»
1 الجهل بطبائع الأحوال في العمران أي الاجتماع البشري،وعدد أسباب الكذب.
2 غياب الدقة والموضوعية:حيث يجب أن يتصف المؤرخ بالدقة وعدم المبالغة في الأخبار،والموضوعية تعني عدم التعصب،إذ من عوامل الكذب التشيعات للآراء والمذاهب.
3 عدم مراعاة طبائع الموجودات فبعض اخطاء المؤرخين ناتجة عن جهلهم بقوانين الطبيعة.
ورأى الناقدون لابن خلدون من منطلقات تعصبية فاتهموه بأنه لم يلتزم بتطبيق منهجه الذي ذكره في المقدمة، على كتابه التاريخي،وخاصة أنه كتب المقدمة بعد إنهاء تاريخه لتكون منهجاً جديداعلى أن الدكتور محمد عابد الجابري يرد هذا التناقض الخلدوني إلى عدم صلاحية معيار العمران للحكم على الأحداث التاريخية«25»
والأمثلة التي يوردها الباحث د.جميل النجار حول تحيز ابن خلدون هي:
1 إن ابن خلدون لم يزد في تاريخه شيئاً مهماً على مادونه المؤرخون الذين سبقوه.
مع أنه عند معالجته لهذه الأخبار فإنه حللها تحليلاً متميزاً.
2 إن ابن خلدون دافع عن محمد بن تومرت زعيم الموحدين مع مايتهم به،وخاصة أنه ادعى الانتساب إلى أهل البيت في حين أنه برأيه لم يعترف بدعوة الفاطميين.
3ان ابن خلدون دافع عن العباسة أخت الخليفة الرشيد ونفى عنها الفساد،واعتبر هذا دفاعاً عن الخلفاء العباسيين وتحيزاً لهم،وذلك في قضية مايسمى «نكبة البرامكة».
4 أن ابن خلدون يرى أن نظام الحكم في الإسلام وهو الخلافة وتطوره إلى مايسميه البعض «الملك» تحيز للخلافة الإسلامية،ودفاع عن خلافة الأمويين والعباسيين ، في حين يريد الناقدون ذمهم،مما يعني ذم التاريخ الإسلامي عبر مئات السنين.
5 أن ابن خلدون دافع عن الخليفة الرشيد في قضية البرامكة.وكان المفروض أن يكون دائماً مع أي إنسان يخطئ ويعاقب ونتهم القاضي والحاكم وكل الجماعة أنها ظالمة.
ويرى أن ابن خلدون يضفي على العباسيين صفات مبالغاً فيها،وكان المفروض أن نهاجمهم ونعظم كل خارج عليهم،مع أن كل الخارجين زالوا عبرالتاريخ واستمرت جماعة الأمة بقيادتها غير المتعصبة لأحد.
ويصل الأمر في نقد ابن خلدون بسبب هذه النقاط وغيرها إلى الهجوم عليه بأن فكره«براغماتي مادي بصورة عامة ويتوافق،خاصة مع واقعيته السياسية وجذوره السلطوية من جهة أخرى » ولايرى هذا الباحث أي ايجابية في آراء ابن خلدون التي رآها الباحثون من الغرب والشرق،بل يرى فيه تناقضاً في الآراء وتناقضاً في السلوك ليهاجم من خلال ذلك العباسيين بقوله:«سلبيات العباسيين وإن كان عصرهم ساهم في بناء صرح حضارتنا العربية الإسلامية» «26».
وفي الختام نقول:إن الذين عظموا ابن خلدون فعلوا ذلك لأن الغربيين عظموه فقلدناهم ،وكان حري بنا الإهتمام به قبلهم،في حين أن آخرين تسرعوا في انتقاده تعصباً مذهبياً وقومياً ،ومازال ابن خلدون يحتاج إلى مزيد من الدراسة والاهتمام بنظرة متأنية وعلى ضوء عصره والمقارنة بعصرنا.
الهوامش
1 ابن خلدون «عبدالرحمن»:المقدمة ،وهي الجزء الأول من كتابه.
2 انظر:نورالدين حاطوم وآخرون:المدخل إلى التاريخ ،ص312313
وعمر أبو النصر:عباقرة الفكر في الإسلام الذين آثروا في الفكر الغربي والحضارة الأوروبية.ص 141.
ومحمد طه الحاجري:ابن خلدون بين حياة العلم ودنيا السياسة،ص14
3 انظر لابن حجر: رفع الإصر عن قضاة مصر،مخطوط.
4 ابن تغري بردي:المنهل الصافي،حيث يورد قصة إنزاله من السور ولقائه بتيمورلنك.
5 نورالدين حاطوم واخرون:المدخل إلى التاريخ ،ص317.
6 عمر أبوالنصر:عباقرة الفكر في الإسلام ص146.
7 نورالدين حاطوم وآخرون : المدخل إلى التاريخ ،ص317.
وعلي عبدالواحد وافي:عبقريات ابن خلدون ،ص197.
8 عمر رضا كحالة:التاريخ والجغرافية في العصور الإسلامية ،ص6163.
9 عمر أبوالنصر: عباقرة الفكر في الإسلام ،ص171.
10 المرجع نفسه .ص179.
11 مجد الطرابلسي:نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب ،ص127.
12 ابن خلدون :المقدمة ،ص553554.
13 عمرأبو النصر:عباقرة الفكر في الإسلام ،.ص179.
14 نورالدين حاطوم:المدخل إلى التاريخ، ص326331.
وعمر أبو النصر وآخرون:عباقرة الفكر في الإسلام ،ص138 141179183.
15 أبوالقاسم كرو:العرب وابن خلدون ،ص13
16 المرجع نفسه ،ص25.
17 ابن خلدون :المقدمة .ص105 108.
18 محمد عبدالله عنان:ذكرى ابن خلدون.
19 انظر : نورالدين حاطوم وآخرون: المدخل إلى التاريخ ،ص319320.
20 أبوالقاسم كرو:العرب وابن خلدون.ص14
21 صلاح مصطفى الفوال:البداوة العربية والتنمية.
22 علي عبدالواحد وافي:عبقريات ابن خلدون .ص262263
23 جميل موسى النجار:التنظير والتطبيق في العمل التاريخي
24 ابن خلدون:المقدمة.
25 محمد عابد الجابري:العصبية والدولة.،معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي ،ص65 125.
26 جميل موسى النجار:التنظير والتطبيق في العمل التاريخي لابن خلدون ،ص1721.
بعض المصادر والمراجع
1 أبو القاسم محمد كرو: العرب وابن خلدون، الدار العربية للكتاب، ليبيا تونس ، ط 3/1977م.
2 ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت ، طبعة مصورة ط 4 /1398ه /1978م.
3 مجد الطرابلسي : نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب ، ط1/1374ه «1954م» ، طبعة جامعة البعث بحمص 2000م.
4 جميل موسى النجار: المقدمة، بحث غير منشور.
5 صلاح مصطفى الفوال: البداوة العربية والتنمية، مكتبة القاهرة الحديثة، 1967م.
6 علي عبدالواحد وافي : عبقريات ابن خلدون، عكاظ للنشر والتوزيع ، جدة ، ط2 /1404ه «1984م».
7 عمر أبو النصر: عباقرة الفكر في الإسلام الذين أثروا في الفكر الغربي والحضارة الأوروبية، بيروت 1970م.
8 عمر رضا كحالة: التاريخ والجغرافيا في العصور الإسلامية، المطبعة التعاونية، دمشق 1392ه/ 1972م.
9 محمد طه الجابري: ابن خلدون بين حياة العلم ودنيا السياسة، دار النهضة العربية، بيروت، 1980م.
10 نور الدين حاطوم وآخرون المدخل إلى التاريخ، مطبعة الهلال، دمشق 1401 ه «1981م».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.