ازمة الانتقالي الشراكة مع الأعداء التاريخيين للجنوب العربي الأرض والإنسان    الانتقالي الجنوبي ثمرة نضالات طويلة وعنوان قضية شعب    فخامة الرئيس بن مبارك صاحب القدرة العنكبوتية على تحديد الضحية والالتفاف    كرة القدم تُلهم الجنون: اقتحامات نهائي دوري أبطال أوروبا تُظهر شغف المُشجعين    عيدروس الزُبيدي يصدر قراراً بتعيينات جديدة في الانتقالي    تجدد مواجهة مصيرية بين سكان صنعاء و الحوثيين    ما خطورة قرارات مركزي عدن بإلغاء العملة القديمة على مناطق سيطرة الحوثيين؟.. باحث اقتصادي يجيب    "إنهم خطرون".. مسؤول أمريكي يكشف نقاط القوة لدى الحوثيين ومصير العمليات بالبحر الأحمر    "لماذا اليمن في شقاء وتخلف"...ضاحي خلفان يُطلق النار على الحوثيين    غدر به الحوثيون بعدما كاد أن ينهي حرب اليمن.. من هو ولي العهد الكويتي الجديد؟    كشف هوية القاضي الذي أثار موجة غضب بعد إصداره أحكام الإعدام اليوم في صنعاء    يمني يتوج بجائزة أفضل معلق عربي لعام 2024    المرصد اليمني: أكثر من 150 مدنياً سقطوا ضحايا جراء الألغام منذ يناير الماضي    كيف أفشل البنك المركزي اليمني أكبر مخططات الحوثيين للسيطرة على البلاد؟    ضربة موجعة للحوثيين على حدود تعز والحديدة بفضل بسالة القوات المشتركة    مانشستر يونايتد يقترب من خطف لاعب جديد    نابولي يقترب من ضم مدافع تورينو بونجورنو    جريمة مروعة تهز المنصورة بعدن.. طفلة تودع الحياة خنقًا في منزلها.. من حرمها من حق الحياة؟    مشهد رونالدو مع الأمير محمد بن سلمان يشعل منصات التواصل بالسعودية    تنديد حقوقي بأوامر الإعدام الحوثية بحق 44 مدنياً    وصول أكثر من 14 ألف حاج يمني إلى الأراضي المقدسة    سلم منه نسخة لمكتب ممثل الامم المتحدة لليمن في الاردن ومكتب العليمي    صندق النقد الدولي يعلن التوصل لاتفاق مع اوكرانيا لتقديم مساعدة مالية بقيمة 2.2 مليار دولار    استشهاد 95 فلسطينياً وإصابة 350 في مجازر جديدة للاحتلال في غزة    بوروسيا دورتموند الطموح في مواجهة نارية مع ريال مدريد    - بنك يمني لأكبر مجموعة تجارية في اليمن يؤكد مصيرية تحت حكم سلطة عدن    المنتخب الوطني يواصل تدريباته المكثفة بمعسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا للشباب    عبدالله بالخير يبدي رغبته في خطوبة هيفاء وهبي.. هل قرر الزواج؟ (فيديو)    بنك سويسري يتعرّض للعقوبة لقيامه بغسيل أموال مسروقة للهالك عفاش    موني جرام تعلن التزامها بقرار البنك المركزي في عدن وتبلغ فروعها بذلك    مجلس القيادة يؤكد دعمه لقرارات البنك المركزي ويحث على مواصلة الحزم الاقتصادي    صلاة الضحى: مفتاحٌ لبركة الله ونعمه في حياتك    شاهد: مقتل 10 أشخاص في حادث تصادم مروع بالحديدة    تسجيل ثاني حالة وفاة إثر موجة الحر التي تعيشها عدن بالتزامن مع انقطاع الكهرباء    حزام طوق العاصمة يضبط كمية كبيرة من الأدوية المخدرة المحظورة    الحديدة.. وفاة عشرة أشخاص وإصابة آخرين بحادث تصادم مروع    براندت: لا احد يفتقد لجود بيلينغهام    الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين: 18 ألف أسرة نازحة في مأرب مهددة بالطرد من مساكنها مميز    خراب    السعودية تضع شرطًا صارمًا على الحجاج تنفيذه وتوثيقه قبل موسم الحج    بسبب خلافات على حسابات مالية.. اختطاف مواطن على يد خصمه وتحرك عاجل للأجهزة الأمنية    هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمراته    قتلى في غارات امريكية على صنعاء والحديدة    الامتحانات.. وبوابة العبور    تكريم فريق مؤسسة مواهب بطل العرب في الروبوت بالأردن    شاهد .. الضباع تهاجم منزل مواطن وسط اليمن وتفترس أكثر 30 رأسًا من الغنم (فيديو)    الوجه الأسود للعولمة    مخططات عمرانية جديدة في مدينة اب منها وحدة الجوار    هل يجوز صيام العشر من ذي الحجة قبل القضاء؟    تحذير عاجل من مستشفيات صنعاء: انتشار داء خطير يهدد حياة المواطنين!    الطوفان يسطر مواقف الشرف    لا غرابة.. فمن افترى على رؤيا الرسول سيفتري على من هو دونه!!    تحذير هام من مستشفيات صنعاء للمواطنين من انتشار داء خطير    جزءٌ من الوحدة، وجزءٌ من الإنفصال    المطرقة فيزيائياً.. وأداتياً مميز    الفنان محمد محسن عطروش يعض اليد السلطانية الفضلية التي أكرمته وعلمته في القاهرة    ثالث حادثة خلال أيام.. وفاة مواطن جراء خطأ طبي في محافظة إب    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقابل و اللغة الشعرية
نشر في الجمهورية يوم 21 - 01 - 2007


- صادق القاضي ..
مدخل
التقابل ظاهرة لغوية وفنية شائعة ، بل هو من أكثر الظواهر اللغوية والفنية شيوعاً وأهمية ، وقد لا نجد نصاً لا يلمّ به قليلاً أو كثيراً ، بشكل أو بآخر..وأمام ظاهرة التقابل نكون أمام ظاهرة كالشمس ، بما يعنيه ذلك من وضوح وامتداد،وأهمية وظيفية وتعايش مستمر مع هذه الظاهرة المألوفة ..وإذا كان الالتفات إلى الأشياء والظواهر النادرة والغريبة وجهاً من وجوه الفضيلة ، فإن جوهر الفضيلة هو الاندهاش أمام الظواهر المألوفة و إعادة قراءة واكتشاف البديهيات والمسلَّمات باِهتمام ..والتقابل كالشمس ظاهرة غامضة مبهَمة ، وقليل من الناس يدركون عنها ((ما ؟ ولماذا ؟ وكيف )) في سياق مرورهم الدائم عليها مرور الكرام .
تحفل قضية التقابل بإشكالات عدة تتوازى مع شيوعها وأهمية أدوارها الوظيفية والفنية بكيفيات عدة وعلى كثير من الأصعدة .
على المستوى اللغوي تبدو القضية على وضوحها بالغة الإبهام ، فنحن على المستوى العام ننظر إليها من زاوية شديدة الضيق ، وفي مساحة لا تتجاوز التمثيل لها ببعض نماذج التقابلات المعجمية بين المفردات (( قريب ، بعيد ليل ، نهار))، وإزاء ذلك لا نملك مفهوماً محدداً لها ، ولا ندرك خصائصها وأشكالها ، ولا نبحث أو حتى نتساءل عن منشأ شيوعها ، وسر ازدواجيتها المطّردة وأدوارها الوظيفية الحاسمة في الفكر والحياة العملية للإنسان ...
ويفيض الجانب الفني للتقابل بكمٍ كبير من الإشكالات ، ومن نواحٍ عدة ، يتعلق ذلك جزئياً بإشكالات الدراسات التراثية لهذه الظاهرة ، وطبيعة تأثرها بإشكاليات العلاقة التاريخية بين البلاغة والبديع ، ومفردات هذه العلاقة على الصعيد النظري والإبداعي ، كما يتعلق ذلك بطبيعة الدراسات العربية الحديثة الواقعة بين حميمية الإرث البلاغي بإشكالاته الداخلية المستعصية ، وبين نزعات ثورة اللسانيات الغربية الحديثة ، والتعاطي مع هذين القطبين الضاغطين بكيفيات عدة .
ناقشت المداخل النظرية لهذه الدراسة كثيراً من إشكاليات هذه القضية على المستويين اللغوي والفني ، وقامت باستعراض ما أمكن من الدراسات والمناهج العربية والغربية التي تعرضت لها قديماً وحديثاً في إطار علم اللغة وعلم المنطق والأدب ، كما قدّمت خصائص وسمات هذه الظاهرة على المستويين اللغوي والفني، والعلاقة بين المستويين في سياق التمهيد لمعالجة القضية من خلال المادة النظرية لعيّنة البحث .
وفيما كانت الدراسة معنية بتقابلات اللغة الشعرية كان عليها أن تأخذ في الحسبان تقابلات اللغة العادية ، فالتقابل اللغوي مرآة التقابل الفني في كثير من أنماطه ، ويرتبط الفرق بينهما بالضرورة بالفرق بين اللغتين المعيارية والشعرية .
والشعر ظاهرة غائمة ، وعلى كثرة تعريفاته يظل ماهية مبهَمة غير قابلة للتعريف الحاسم النهائي ، ولقد تعددت قديماً وحديثاً تصورات الأمم والشعوب والأدباء لهذه الظاهرة الجمالية البديعة ، وتفسير منشأ قدراتها المدهشة على الإثارة والإقناع ، وعلى كثرة المناهج والطرق الحديثة الخلاقة في تصور ودراسة النصوص الشعرية، فإن هذه الدراسة الأسلوبية تعتمد مبدأ (( الشعر لغة )) ،وتعتبر أن أقصر الطرق إلى جوهر القصيدة هي بوّابتها اللغوية .
وإذا كانت اللغة العادية معادلاً لغوياً للتجربة ، فإن اللغة الشعرية معادل فني للغة العادية ، وعلى ذلك - وبشكل أقرب لموضوع هذه الدراسة - فإن اللغة الشعرية مقابلة للغة العادية من حيث الشكل ، ومادام الشعر فناً فهو شكل ، وما دام لغوياً فهو شكل من أشكال اللغة يقابل شكلها البراجماتي التواصلي .
لقد قدمت الأسلوبية مبدأ الانحراف كسمة جوهرية تميز اللغة الشعرية وهو منشأ جمالها ومفارقتها ، وهذه الرؤية المنهجية بقدر ما تمكّن الباحث من أداة إجرائية فاعلة في التعامل مع النصوص الأدبية للوصول إلى نتائج موضوعية قابلة للتعميم، تجنبه في الوقت نفسه من الوقوع في ضبابية التصور وهلامية المنطلقات والنتائج.
لقد عنيت هذه الدراسة بتقصّي مظاهر الانحراف وتشعباته كمكوّن أساسي ومطّرد في اللغة الشعرية ، وكظاهرة شديدة التداخل مع ظاهرة التقابل الفني ، بل يغدو الانحراف أهم روافد التقابل وأكثرها إثارة وجمالاً.
تنبع أهمية التقابل الفني من أهمية المظاهر والأدوار الجمالية والبنائية التي يؤديها ويتجلى بها في النصوص الأدبية ، حيث تجعل منه إحدى أهم القيم الفنية ، وأثرى مصادر الجمال الفني ، حتى أن (معدن المفاجأة - كما يقول جاكبسون - يعزى إلى تكامل الأضداد.
ويوماً بعد يوم يزداد التأكيد على أهمية هذه الظاهرة الفنية الفذة ،وتتعدد الزوايا والأدوات التي تدرَس فيها ومن خلالها في أهم وأحدث فصائل العلوم الأدبية والنقدية المعاصرة .
لقد عنيت هذه الدراسة بتشكيل رؤية شمولية جديدة لهذه الظاهرة الاستثنائية ، وصياغة مفهوم عام يستوعب أنماطها وأسسها العامة من خلال استقراء البنية الموضوعية لأشكالها ، والطبيعة اللغوية السياقية المشتركة لتجلياتها المختلفة ، وبالشكل الذي تقدمه اللغة الشعرية في ديوان البردوني .
إن أساليب التقابل الفني كغيرها من الأساليب الأدبية تخضع لاعتبارات ومتغيرات عدة في إطار الزمان والمكان ، وخصائص العصور الأدبية، و سمات المدارس الشعرية، وخصوصية الفردية المبدعة.
والشاعر اليمني عبدالله البردوني شاعر كبير ،وهو غني عن التعريف ، وإذا كانت هذه الدراسة قد اتخذت شعره نموذجاً للتقابل باعتبار التقابل أهم وأبرز خصائص الأسلوب لديه ، فإنها بقدر ما تؤكد على ذلك بقدر ما تعتبره نموذجاً للشعر الحديث بما يمتاز به عن الشعر القديم أو يتشابه معه من حيث الشكل والمضمون التقابلي ، واختلاف أو تماثل الخصائص الأسلوبية لهما على محوري الاختيار والتوزيع .
وفي مقام السعي لتشكيل الرؤية الشمولية وصياغة المفهوم العام لهذه الظاهرة تم تسليط الضوء على قيم وجوانب جديدة في هذه القضية على مستوى الخطوط العامة أو التفاصيل كما تقدمها فصول ومباحث هذه الدراسة .
في الفصل الأول (مستويات التقابل ) يقدَّم التقابل بصفته بنية جوهرية للنص اللغوي والأدبي بالخصوص ، وخلال ذلك يتجلى التجذّر والامتداد وتعدد الوجوه والثراء منقطع النظير لهذه الظاهرة اللغوية والفنية ، وانعكاساتها الجمالية الزاخرة . على المستوى الصرفي تم رصد وتتبع عموميات وتفاصيل الطبيعة التجذّرية للتقابل في الصرف ، وثراء ملامح هذه الطبيعة ، وتعدد جوانبها ، وأسلوب الشاعر في استثمار معطيات هذا المستوى.
وعلى المستوى النحوي أكّدت الدراسة على مبدأ الانحراف كشرط جوهري للغة الشعرية ، وتتبعت علاقته بالتقابل عبر تشعبات العلاقات النحوية ، وقدّمت التضاد بصفته انحرافاً شعرياً عن القرائن النحوية والمنطقية للدلالة على مستوى التركيب، واستعرضت الخصائص الفنية والجمالية للغة الشاعر التقابلية على هذا المستوى.
وعلى المستوى النصّي تم عرض التقابل بصورته الممتدة التي تنتظم مجمل النص الأدبي ، كما تطل من خلال العلاقات الجدلية بين نصوص الشاعر ، ثم من خلال العلاقات النصية بين نصوص الشاعر ومخرجات التراث الإنساني مع التأكيد على أهمية القضايا الأدبية التي يمكن الكشف عنها من خلال تتبّع هذه التقابلات.
في الفصل الثاني ( أنماط التقابل ) تم تقديم مفهوم عام للتقابل بصفته ازدواجية تباينية تقدمها العلاقة بين عنصرين متباينين في مقام مشترك ، وفي هذا الإطار العام تم وضع مفاهيم تقابلية جزئية تستوعب التعبير عن أشكال هذه الازدواجية حسب طبيعة التباين ، وطبيعة المقام المشترك بين طرفي التقابل ، وهو ما قدّم الملامح العامة لظاهرة التقابل ، والثراء الكبير لأنماطها وخصائصها الفنية والجمالية .
في الفصل الثالث ( علاقات التقابل )تم رصد طبيعة أشهر العلاقات السياقية لطرفي التقابل في لغة الشاعر، والدلالات والمظاهر الجمالية المصاحبة لهذه العلاقات ...
قدّمت الدراسة هذه الفصول بتكامل وتداخل في مناقشة جوانب متكاملة ومتداخلة في القضية ، وتم الفصل بينها نسبياً لغايات تحليلية تهدف من وراء استقراء هذه الجوانب إلى تقديم تصوّر متكامل لا يمكن تقديمه بدون هذا الفصل .
وبعد ..... فقد كتب في هذه القضية رجال أفذاذ ، وساهمت فيها عقول كالجبال قديماً وحديثاً ،وتدين هذه الدراسة بكثير من اجتهاداتها لاجتهادات سابقة ، أفادت منها جميعاً ، ووظّفت كثيراً من مقولاتها للتعبير عن مفاهيم تقابلية تختلف أو تتفق بدرجات متفاوتة مع مفاهيمها السابقة .
ولقد أشرتُ خلال الدراسة إلى كل ما اعتبرته مهمّا من هذه الدراسات التي أَثْرت قضية التقابل اللغوي والفني، وإن لم تكن خالصة لوجه التقابل ، فتراوحت في تعاطيها مع قضية التقابل بين الوقفات المحدودة ، أو المناقشة العرَضية ، أو الإشارة إلى جزئيات أو الدعوة إلى دراسة جوانب..
وبقدر ما أفادت هذه الدراسة من الدراسات السابقة عربية وغربية في بعض الأسس والمنطلقات فإنها مارست شخصيتها المستقلة، وقدمت أوجه تميُّزها في الخطوط العامة والتفاصيل ، وحرصتْ على لمِّ أشتات ومناحي هذه القضية، وتقديم تصور جديد شمولي عنها فلم تكن قضية التقابل مطروحة للنقاش على أي من المحاور الثلاثة (( المستويات أو الأنماط أو العلاقات )) ، وإن دعت بعض الدراسات الأدبية والنقدية إلى دراسة بعض المسارات الداخلية لهذه المحاور ، أو تناولت بعض هذه المسارات إلا أنها لم تقدمها أو تسعى إلى تقديمها بهذه الشمولية والتكامل .
ولا تزعم هذه الدراسة أنها أوفت بالالتزامات واعتمدت أهم ركائز تحليل الخطاب ، ولكنها وفي حدود الممكن حاولت الإلمام بكثير منها ، ومراعاتها في مقام تحديدها الشديد على القضية المدروسة ، والتغلغل في حيثياتها والكشف عن فاعليتها في خلق الجمال الفني وإنتاج الدلالة.
وكاحتياط أرجو أن يؤخذ في الحسبان ، فإن أي كلام إنشائي في ثنايا هذه الدراسة مما يمكن أن يُفهم مدحاً أو ثناءً أو إرسالاً لأحكام تقييمية هو كلام هامشي لا يمتّ لجوهر هذه الدراسة ،ولم أعوِّل عليه أن يكون كذلك ، وهو يعبر عن انطباعاتي الذاتية الجانبية في حواشي الدراسة الموضوعية لأساليب الشاعر وخصائصها التقابلية.
كما لا تزعم هذه الدراسة أنها في الخطوط العامة والجزئية قدمت قولاً فصلاً أو أحكاماً نهائية ذات قيمة معيارية ،وما ينبغي لها ذلك ، وربما طرَحت من الأسئلة أكثر مما قدّمت من الإجابات النسبية ، وكل ما تطمح إليه أن تلفت النظر إلى هذه القضية الهامة ، وتحرك المياه النظرية الراكدة فيها أو في بعض جوانبها، وتشكل إضافة متواضعة في مجالها.
أولاً / التقابل والدراسات اللغوية
يمثّل التقابل اللغوي مظهراً من مظاهر العلاقة بين الألفاظ والمعاني هذه العلاقة الجدلية والمتشعبة التي استهلكت مساحة واسعة من الجهود العلمية في كثير من فصائل المعرفة خلال الحقب المنصرمة وما زال العمل فيها جارياً على قدم وساق.
تتباين مظاهر العلاقة بين الألفاظ والمعاني بتباين الأنساق السياقية التي تتخذها الألفاظ في صدد التعبير عن الدلالة واكتسابها .
وبغض النظر عن موضوعية الفصل بين اللفظ والمعنى فإن ذلك يغدو وسيلة إجرائية لدراسة بعض الظواهر اللغوية المعجمية الناتجة عن تعدد أشكال المصاحبة المعجمية بين زُمر من المفردات التي تجمعها علاقات ذات طابع نسبي ومطّرد ، فيكون للمفردة أكثر من قيمة دلالية في أكثر من سياق دلالي ، وهو ما نعبر عنه بقضية ((المشترك اللغوي)) الذي يصل في بعض صوره ، وفي حدود ضيقة إلى أن يكون للفظ الواحد دلالتان متضادتان متناوبتان ، وهو أمر مشكوك فيه.
كما تشترك مفردتان في التعبير عن دلالة واحدة في جزء كبير من السياقات التي تتواردان فيها فتقدمان دلالات سياقية متقاربة ، فنقول إن بينهما ترادفاً ، مع الأخذ بالاعتبار أن توارد مفردتين في كل السياقات لتأدية معنى واحد أمر فيه أخذٌ وردٌ .
كما يتجسد بين المفردتين المتصاحبتين نوع من العلاقة القائمة على التباين الدلالي الناشئ عن كون المفردتين تتواردان في معظم السياقات المتعلقة بهما أو إمكانية حدوث ذلك ، فتوجِّه إحداهما معنى السياق وجهة مباينة ومعاكسة عما توجهه إليها الأخرى ، وهو ما نسميه بالتقابل اللغوي أو التضاد ومسميات داخلية عدة.
وإذا كان التوارد السياقي هو مما يجمع بين الترادف والتقابل فإن ما يميزهما هو أن المترادفين يتواردان في إطار تقارب المعنى في حين يتوارد المتقابلان في إطار تباينه ،إضافة إلى أن التقابل خاضع للازدواجية الثنائية كمبدأ أساسي يحكم الظاهرة التقابلية وهو مبدأ لا يحكم الترادف الذي ينسجم مع التعدد والثراء المعجمي للمعنى الواحد بشكل عام .
على أن بين الترادف والتقابل قواسم مشتركة عدة وتآلفٌ في المفهوم العام،فالمتقابلان كالمترادفين يحملان كثيراً من التشابه والتقارب ويدوران في فلك واحد ، وإن لم يلحظ سوى وجوه تباينهما لارتباطها بالأهمية العملية لاستخدامهما .
إن تحليل المفردات إلى مكوّناتها الدلالية أمر لابد منه لتحديد دلالاتها بدقة ، وتحديد الفروق الدلالية بين مفردات الحقول الدلالية ، ويتطلع علماء الدلالة ( على المدى البعيد إلى وصف كل الكلمات في قاموس المفردات بلغة المكونات الدلالية النهائية ) (1)،
وذلك يعني أن كلمة مثل "رجل" تتحلل إلى سماتها الدلالية المكونة لها (كائن + حي + بشري + بالغ + ذكر....) ، ويكشف هذا التحليل في مقام التقابل عن كون الكلمتين المتقابلتين تشتركان في معظم مكوناتهما الدلالية ، على الأقل في نموذج مقابلة المرأة "كائن + حي + بشري + بالغ + أنثى..." بسمات الرجل الآنفة ، وعلى الأقل (لكي يكون اللفظان متضادين يجب أن يختلفا في ملمح دلالي واحد ) (2).
فاليمين واليسار يشتركان في كل شيء ما عدا نوع الجانب ،وهكذا دواليك بشكل مطّرد نسبي ،وبذلك تتحقق خصائص التشابه والاختلاف في البنية الدلالية للمتقابن ف ( الاختلاف ناشئ عن بعد دلالي فحسب ، أما التشابه فيصدر عن التطابق التام للسمات الدلالية الأخرى ، إلا أن هذا البعد الدلالي المختلف يؤدي إلى وضع الألفاظ المتقابلة على طرفي نقيض )(3).
وبشكل تصويري يمتلك المتقابلان خاصية "الكفِّية"، فالكفّ الأيمن مماثلٌ للكفّ الأيسر بشكل دقيق لكنه مختلف تماما عنه ،وقد ينطبق كفّان من الورق بعضهما على بعض ، لكن الكفين المجسَّمين لا يمكن لهما ذلك رغم التماثل الجذري بينهما .
إن اختلاف المتقابلين في مكوناتهما الدلالية النهائية أقل بكثير من تماثلهما فيها ،وهذا يفسِّر تلازمهما المطّرد ، فكل مقابل يدل على مقابله بطريقة غير مباشرة ، كما يدل على معناه بطريقة مباشرة ، وحسب قول " جوست تراير "( كل كلمة تُلفَظ تثير معناها المضاد )(4).
فالكلمات المتصاحبة تتقارب دلالياً لتشكِّل ظاهرة الترادف ، أو تتباعد بشكل تبادلي فتشكل التضاد .
لقد كان توفر خصائص التشابه الكبير بين المتقابلين دافعاً إلى القول بأن ( المتقابلين في الحقيقة مترادفان ولكن من نوع خاص )(5).
لدى عدد من الدارسين ، وفي التراث الغربي ، وحتى في الدراسات الغربية الحديثة ( دُرس التقابل في الغالب بوصفه مبحثاً متمماً للترادف)(6).
الشيء الذي يجب تجاوزه في ضوء معطيات الدراسات الدلالية الحديثة التي ميزت التقابل عن الترادف في المفهوم والخصائص والسمات كظاهرة ( لغوية منظمة وقابلة للتعريف )(7) .
إننا ننظر إلى ظاهرة التقابل اللغوي ونقدمها كظاهرة مستقلة بخصائصها وسماتها المطردة عن غيرها من الظواهر الدلالية الناشئة عن تعدد مظاهر العلاقة بين الألفاظ والمعاني ، ويمثل ظاهرة ازدواجية تتجسد في ثنائيات من الألفاظ المتصاحبة والمتناوبة التي توجِّه كل منها دلالة السياق وجهة معاكسة لوجهته مع الأخرى في إطار السياق العام للدلالة .
إن التقابل اللغوي ظاهرة معجمية سياقية بغض النظر عن القطيعة القائمة بين الكثير من معاجمنا والسياق ،إذ إن الذاكرة اللغوية بمثابة معجم سياقي على جانبي التلقّي والإنتاج ، أو الكفاءة والأداء ، ،وهو أكثر الظواهر المعجمية شيوعا في اللغة العادية والفنية ،وهنا وهناك يؤدي التقابل وظائف في غاية الأهمية وبأشكال متقاربة ومتباينة .
والملاحظ في كل ذلك أن معظم الثنائيات التقابلية مرتبطة إلى حدٍ كبير بالذاتية، فهي نتاج الوعي لا العالم الخارجي الموضوعي ،بعبارة أخرى تمثّل التقابلات اللغوية محدِّدات ذاتية نسبية يعبر بها الإنسان ومن خلالها عن انعكاسات الأشياء لديه وانطباعاته منها .
إن التقابل اللغوي ظاهرة ذاتية نسبية "مفهوم لا واقع مادي ، وقد يدفع هذا إلى التساؤل عن مدى موضوعية المصطلحات اللغوية إجمالاً في دلالاتها على الأشياء، وهل تستند الازدواجية التقابلية على ثنائية ذات أسس مادية ؟ إن هناك على الأقل ستة اتجاهات مكانية حول الإنسان ، ومع ذلك تتوزع هذه الجهات على ثنائيات متقابلة "شمال جنوب ،شرق غرب ،فوق تحت " ، فهل هناك علاقة فيزيائية تربط بين الشمال والجنوب غير التي تربط بين الشمال والشرق!! لا بالطبع ، فهذه الأسماء ليس لها مسمَّيات موضوعية سوى عند الإنسان ضمن خصوصية المكان ، وترتبط لديه بمواقع الأشياء منه أو موقعه منها ،ويقسمها إلى ثنائيات لغايات عملية خالصة تستند على بعد غريزي ،وتختلف هذه المسميات باختلاف المكان ، وعلى الإنسان في الفضاء الخارجي أن يعيد تحديد موقعه باعتبارات أخرى ،ف(الأساس في التقابل بشكل واضح تقويم الخصائص أو طرائق السلوك حسب معيار اجتماعي أو جمالي )(8) .
إن هذه الحقيقة مهمة لارتباطها بالأحكام التي نطلقها على الأشياء ، فالإنسان يرى الأشياء من زاوية تعامله معها ، ويعبّر عن تصوره لها ،وقد مرَّت حقب طويلة على الإنسان وهو يظن نفسه سيد الخليقة ، ويرى بلاده مركز الأرض، ويرى الأرض مركز الكون ، وأن النجوم والأفلاك كلها خُلقت من أجله ، وتدور حوله ، وهذه التصورات انعكست على اللغة بالضرورة ، واكتسبت بالتقادم رسوخاً عقائدياً أصبحت به مسلَّمات وبديهيات ، مما يمكِّن من القول أن معظم الألفاظ لا تحمل بالضرورة بُعداً موضوعيا خارج الوعي ، وبالمثل فإن معظم المفاهيم لا ترتكز في وجودها على أكثر من الشكل اللغوي ، فالكلمات تمثل تصوُّرنا لأشياء قد تكون موجودة أو وهمية ، وحين تكون موجودة فالكلمات تقدمها كما نراها نحن لا كما هي موجودة عليه في الواقع ، ( فتنقل خبراً عن الأشياء كان بوسع الأشياء نفسها أن تبلغه بدقة لو أمكننا أن نراها مباشرة ) (9).
وترتبط نسبيّة التقابل اللغوي بقضية السياق الذي يؤكد هذه النسبية ، فالمتقابلان مثل ( صغير وكبير) يردان في سياقات لا متناهية لن نعدم منها سياقاً يتحدث عن كوكب صغير أو سياقاً يتحدث عن فأر كبير ، وبدون إدراك السياقية النسبية للتقابل بديهياً لن ندرك الفرق بين حجم عطارد مثلاً وحجم الفأر .
ويبقى سؤال محوري هو لماذا تتسلسل التقابلات في ثنائيات من الألفاظ المتعاكسة والمتصاحبة ؟، بطريقة أخرى لماذا لا تكون اللغة التقابلية ثلاثية أو رباعية مثلا؟! ، والحقيقة ( إن الازدواجية أهم مقومات التقابل )( 10) .
فتنتظم الثنائية معظم الألفاظ والمفاهيم والقيم المعرفية ، وتشكِّل معظم ملامح الأشياء والبيئة ، وتطال معظم المبادئ والحقائق والتصورات عن الكون والحياة والإنسان ، وبناء عليها تقوم مختلَف العلوم والآداب في خطوطها العامة والجزئية، وعلى أساسها نميز بين الأشياء ونصنفها وندرك اختلافها ...، وكل ذلك يمثِّل روافدَ للغة التقابلية الزاخرة بالأعداد الهائلة من الأزواج المتقابلة ، ( وتكاد تكون سلسلة التقابلات من أبرز السلاسل التي تنتظم الحياة )(11).
وفي سياق نسبية التقابل يصبح من الواضح أن معظم الثنائيات التي رسخت في أذهاننا عن العالم الخارجي ليست قادمة من العالم الخارجي ، بل يجب البحث عن مصادرها في الآليات الدفينة في المخ البشري القائم على الازدواجية التكوينية والوظيفية ، فداخل هذه الجمجمة المتورمة عجينة وَرْدية متوزعة على قسمين متكاملين يتوزعان الأدوار ، ويقتسمان الحواس ووظائف الأعضاء ، ويشكلان التصور ، ويفرزان المعارف ، ويصوغان العالم بكل موجوداته في الذهن ، وإلى ذلك يشير آن أينو بقوله (إن التعارض الثنائي يحتل الحيز الذهني لكل كائن مفكر ) (12).
فالتقابل ظاهرة قائمة في الوعي لا خارج الوعي وعدم إدراك هذه الحقيقة يؤدي إلى أحكام خاطئة ، وهذه الثنائية التي نظن أنها نتاج الطبيعة ، هي في الحقيقة نتيجة الغريزة الإنسانية ، ويدرك جون لا ينز قبل غيره أن كثيرا من التقابلات تعطينا إحساساً مضلّلاً بالقيم المطلقة و ( إن كثيرا من المشاكل الزائفة في المنطق والفلسفة ظهرت نتيجةً للفشل في تقدير أن كلمات مثل صغير وكبير وجيد ورديء لا تشير إلى خواص متضادة)(13).
ويطلعنا تاريخ العلم على سلسلة من النتائج السلبية ظهرت جراء الاعتقاد بالفصل الحاسم بين ثنائيات المقولات العلمية المتقابلة مثل (العقل - العاطفة ،البيئة - الغريزة .. ) وإغفال تداخلها ،ويدرك العلماء اليوم أن( هذا التقسيم الثنائي أخفى أكثر مما كشف الحقيقة )(14).
هذا التقسيم الثنائي الذي أستحوذ على التاريخ الغربي بسلبياته كما يقول " ريتشارد إي " يستحوذ أيضاً علينا بشكلٍ أو بآخر ،ويعدد الدكتور / نبيل علي في صدد معالجته لأزمة الفكر العربي - مجموعة كبيرة من الثنائيات الفكرية العامة مثل ((الرمز والمدلول ، والمجازي والحرفي ، والفرد والجماعة ، والعالمية والمحلية ، والسلفية والمعاصرة .... الخ )) ، ويرى أن الفصل الحاد العملي بينها بمثابة عصابة على أعيننا تعمينا عن رؤية التداخل بينها ،ويؤكد على ( وجوب إعادة النظر في هذه الثنائيات على ضوء ما نشهده حالياً من انهيار الحواجز الفاصلة بين كثير من الثنائيات المستقرة واحدةً تلو الأخرى ) (15).
وصفوة القول : إن التقابل اللغوي ظاهرة نسبية سياقية وإن ازدواجيته مرتبطة بالغريزة اللغوية المنعكسة عن ثنائية المخ البشري ، وهذا يربطها بالحاجات الإنسانية المُلحَّة إلى هذه الظاهرة بوظيفتها المهمة والحاسمة في حياة الإنسان ، فمن خلالها يتعر ف الإنسان على ملامح العالم الخارجي ، ويصوغه صياغة عملية يمكن التعامل معه بها ، بما يقدمه التقابل من تحديدات وحالات وقياسات وتوصيف وترتيب وفرز للأشياء والأفكار والمفاهيم والأوضاع والتفاصيل بحيث يمكن القول إن من المتعذر - بدون هذه التقابلات - أن يتعرف الإنسان على ما حوله ومن ثمَّ يتصرف بنوع من الحكمة ، و(يبدو أن وجود أعداد كبيرة من الألفاظ المتخالفة والمتباينة في مفردات اللغات الطبيعية مرتبط بالنزعة البشرية العامة لاستقطاب الخبرة والرأي) (16) .
إن دراسة التقابل اللغوي ضمن المجالات اللغوية كالترادف والمشترك اللغوي ، وفي إطار علم أو فقه اللغة هو المقام الصحيح لمناقشته وتحليله وتناول إشكالياته ، وهو ما تمَّ تجاهله إلى حد كبير في الدراسات اللغوية في تراثنا العربي الذي أسقط التقابل في دراسته للمجالات اللغوية في مقابل الاهتمام المسرف بظاهرة "الأضداد" القضية التي لم تكن ، ولن تكون ذات حدود موضوعية قابلة للقياس.
وقضية الأضداد بمفهومها العربي التاريخي تقدّم مجموعة من المفردات التي تحمل أيٌ منها معنيين متقابلين باختلاف السياق ، وكان ولا يزال وجود ألفاظ من هذا النوع أو عدمه محل خلاف ، وقديما أنكر المحققون وجود ألفاظ من هذا النوع ، لأنه حسب قول ثعلب ( لو كان في الكلام ضد لكان الكلام محالا) (17).
في حين يرى الأصوليون أن ذلك ممكن ، بل طفقوا يحشدون هذه الألفاظ في معجمات خاصة تحت عنوان الأضداد ، وعلى رأس هذه الألفاظ لفظ ( ضد ) ( الضد مثل الشيء والضد خلافه ) (18).
وتزايدت معجمات الأضداد وثروتها من الألفاظ بالتقادم ، فألَّف فيها قطرب وابن السكّيت وأبو الطيب اللغوي وأبو بكر الأنباري وسواهم ، وانبرى المحققون أمثال ثعلب وابن درستويه يؤلفون كتبا يردّون بها و ينكرون ظاهرة "الأضداد" ، ولا زالت القضية سِجالا قائماً لدى العرب المعاصرين ، بل توسعت عند بعضهم ليزعم أنها ظاهرة لغوية عامة ، في حين كان اللغويون القدامى يرونها مقصورة على العرب فقط ، وذلك - كما يقول الشعوبيون - ( لنقصان حكمتهم "أي العرب " وقلة بلاغتهم ) (19).
من هؤلاء المعاصرين العرب محمود السعران الذي يرى أن ( ظاهرة الأضداد موجودة في أكثر اللغات إن لم يكن كلّها) (20) .
وبالمقابل ينكر وجودها آخرون (ينكرونها في العربية ، كما ينكرونها في اللغات الأخرى).(21).
ويرى الدكتور / أحمد مختار عمر أن العرب المعاصرين ( لم يهتموا بدراسة قضية الأضداد بشكلها القديم مع وجودها في كل اللغات ) (22).
ومثّل لها بألفاظ إنجليزية كل منها يحمل دلالة التقديس والتحريم "النجس" ، وهذه من الممكن وجودها في كل اللغات ، لا للدلالة على التضاد وإنما تسلِّط الضوء على تداخل المقدَّس والملعون ( النجس ) في تاريخ الأديان ، ومنه في العربية " البيت الحرام " المقدس ، ولحم الخنزير الحرام "النجس... وكيفما كان الأمر فقد أخذت قضية الأضداد ما كان من حق التقابل اللغوي أن يأخذهُ من المناقشة والجهد العلمي في التراث اللغوي العربي القديم والمعاصر ، و الذي أعتقد أن الكثير منه ضاع هدرا في مفردات هذه القضية "الأضداد" ، الأمر الذي كان من شأنه التهميش المؤسف لقضية التقابل اللغوي في الدراسات اللغوية التراثية بغض النظر عن تلك الإشارات المبتسرة إلى وجوده ضمن المجالات اللغوية ، كالتي نجدها في مزهر السيوطي الذي أجملَ تشعبات كثيرة للعلاقة بين الألفاظ والمعاني ، ذكر منها قسماً أسماه (الألفاظ المتباينة المتفاضلة ) ( 23) .
ومثَّل لها بالسواد والبياض ، وربَّما أشار إلى التقابل كُتَّاب الأضداد إشارات عابرة مثلما فعل أبو الطيب اللغوي بقوله( الأضداد جمع ضد ، و ضد كل شيء ما نافاه نحو البياض والسواد ، والسخاء والبخل)( 24).
والمهم في الأمر أن قضية التقابل اللغوي أهملها إلى حد بعيد اللغويون العرب القدماء ، ولم تحظ بتأليف مستقلٍ في مقابل الكتب الوفير ة التي صدرت في قضية الأضداد ووسمت بهذا الاسم ,أما في التراث الغربي القديم يقول " لا ينز "إن قضية التقابل اللغوي دُرست (باعتبارها أكثر العلاقات الدلالية أهمية....، واعتُبر متمِّما للترادف )(25).
وعلى كلٍ فقبل العصر الحديث كان مفهومه ضيقاً وأُهملت قضيته في كتب الدلالة والمعاجم (26) .
في الدراسات الغربية المعاصرة حَظيت هذه القضية باهتمام الدراسات المعجمية وعلم اللغة النفسي واكتساب اللغة ، ولسانيات النص بالإضافة إلى دراسات الفلسفة والبلاغة والمنطق .
كانت دراسة (أوجدن) "1932م" ( إحدى أهم المحاولات المبكرة في استقصاء هذه الظاهرة اللغوية الدلالية )(27) .
ودفعت ثورة اللسانيات في النصف الثاني من القرن العشرين القضية إلى آفاق واسعة ومنحتها اهتماماً استثنائياً ، وتُعَد كتابات " لا ينز " ريادية في هذا الخصوص ، فقد أكّد مبدئية التقسيم الثنائي في التركيب الدلالي للغة التي تنعكس عنها ظاهرة التقابل ،كما ميز بين أنواع عدة للتقابل تحت مصطلحات داخلية .
عن " جون لا ينز " يأخذ " فرانك بالمر " ويشير إلى ذلك ، ويضيف إلى القضية توزيعها على الأنواع اللغوية "أسماء ،أفعال ، ظروف ،مصطلحات نحوية" ، كما يضيف مجموعة من العلاقات السياقية بين المتقابلات كعلاقة التناظر والتعدية والمطاوعة وسواها
(28).
وعن هولاء وسواهم أمثال " ريمون لوبلان ، وآن اينو " يتجلى التقابل في بؤرة اهتمامات علم اللغة ، ويَحظى بأهمية استثنائية نابعة من محوريته في مجالات علم الدلالة الذي بات يوصف بسيد علوم اللغة.
وفي هذا الصدد قدم اللغويون الغربيون إسهامات متعددة ذات صبغة منطقية واضحة في تحديد مفهوم التقابل وفي تمييز العلاقات التقابلية وخصائص أنماطها على المستوى الدلالي ، ولعل أهم هذه الإسهامات ما قدمه لاينز الذي ميز التقابل( التضاد لديه) عن الترادف بوصفهما ( علاقتان موضعيتان من نوع مختلف جداً)(29) .
وفي إطار التقابل ميز بين ثلاثة أنواع تقابلية في الخصائص والسمات:
1- التباين ( التقابل الحاد ) : ( حي - ميت ، ذكر - أنثى )،وأشار إلى أن الألفاظ المتباينة لا تكون قابلة للوصف أو التدرج ولا توجد منطقة وسطى بين المتقابلين ، ويتضمن نفي أحد اللفظين تأكيد الآخر والعكس ، ( غير متزوج = أعزب ) .
2- التخالف ( التقابل المتدرج ) : ( كبير - صغير ، غني - فقير ) ،والمتخالفات متقابلات متدرجة لها دلالة نسبية ، ويتضمن الزوجان خاصية متغيرة كالطول والجودة، وهما قابلان للمقارنة بينهما فيها بالصيغة ( أفعل ) ،وأحدهما يقترب من درجة الصفر في الخاصية المتغيرة ، في حين يتجه الآخر معاكساً له ، ونفي أحدهما لا يتضمن الآخر بالضرورة ، فإذا كان الغني غير فقير فإن غير الغني ليس فقيراً بالضرورة .
3- التعاكس ( التضايف ) : ( يشتري - يبيع ، أب - أبن ، زوج - زوجة )،يدل التعاكس على نوع من الثنائيات التي ترتبط مع بعضها تبادلياً ، وكل منها يقتضي الآخر ، وهو ما يقدمه المناطقة تحت مفهوم "التضايف" الذي يعني أن يكون وجود الشيء جوهرياً في وجود مقابله ، فالشراء لا يكون إلا ببيع ، والأب كينونة اقتضاها وجود ابن وهكذا .. وسوى هذه الأنماط أشار سعيد جبر إلى مساهمات تصنيفية لأنماط تقابلية قدمها كل من " ليتش " و " كمبسون وجولي جاردن " وسواهم في مساهمات متباينة (30).
لعل أهمها ما قدمه بعض علماء الدلالة وفي مقدمتهم "روس" من توسيع مفهوم علاقة التعاكس الآنفة أو إدراجها ضمن علاقة تقابلية أشمل هي العلاقة (الاتجاهية) التي تضم مجموعة من العلاقات التقابلية الفرعية من أبرزها(31) :
أ- التقابل الاتجاهي : ( شمال - جنوب ، أمام - خلف ... ) ،والمتقابلان فيها يشيران إلى مسارين ممكنين لحركتين متعاكستين ضمن خط واحد .
ب- التقابل الامتدادي : ( قمة - قاع ، رأس - قدم ... ) .أحد المتقابلين يمثل نهاية قصوى مناظرة لنهاية قصوى يمثلها المقابل الآخر في الاتجاه الآخر للشيء الواحد .
ج- التقابل التناظري : ( الناتيء - الغائر ، الجاحظ - الأحوص ، المتحمس - الكسول .. )
يمثل أيّ من المتقابلين شذوذاً عن الشكل الطبيعي المطرد يقابله شذوذ آخر في الاتجاه الآخر .
د- التقابل الانعكاسي : ( خرج - دخل ، هبط - صعد ، كشف - غطى ... ) ويعبر المتقابلان عن حركتين متعاكستين في الاتجاه وطبيعة الحدث .
ه- التقابل العكسي : ( قبل - بعد ، خادم - مخدوم ، خَلَف - سلف ... ) المقابل يعبر عن اتجاه ضمني مقابل لتعبير مقابله في المقام المشترك .
ويمكن هنا إدراج مفهوم ( التضارب ) ضمن العلاقات التقابلية ، وكان لا ينز قد أشار إليه خارج علاقات(التضاد) ، وهو يعبر لديه عن شبه التضاد الذي يحدث سياقياً بين عناصر الحقل الدلالي الواحد ، ورأى أن ( ألفاظ الألوان تشكل مجموعة من العناصر المعجمية المتضاربة ) (32).
كما يمكن في هذا المقام الانفتاح على معطيات الفلسفة التي اهتمت اهتمام استثنائياً بهذه القضية في إطار علم المنطق ،وأتاحت للدراسات اللغوية إمكانيات عالية لم يلتفت اللغويون - العرب بخاصة - سوى إلى القليل منها حديثاً ،وفي هذا الإطار يمكن إدراج أنماط العلاقات الدلالية بين المفردات المتقابلة التي قدمها علم المنطق -كما سيأتي الحديث عنها- ضمن العلاقات التقابلية الأنفة.
انعكس الاهتمام الغربي الحديث بقضية التقابل اللغوي بشكل أو بآخر في الدراسات العربية الحديثة للمجالات اللغوية ، فبدأ التقابل يأخذ مكانه بين هذه المجالات بجانب الترادف والمشترك ، وبمساحة تتفاوت بين كاتب وآخر ، وأخذ بعض حقه الذي حرمته منه الدراسات التراثية لصالح "التضاد" الذي لازال يشغل مساحة كبيرة بين المجالات اللغوية على حساب التقابل ، بل إن بعض هذه الدراسات تلغي التقابل اللغوي لصالح التضاد أسوة بالأسلاف.
من الدراسات العربية الحديثة للتقابل في إطار علم الدلالة دراسة أحمد مختار عمر التي تمثَّلت المعطيات الغربية لهذه القضية ، وتمثلها بدرجات متفاوتة كلٌ من أحمد نعيم الكراعين ، وفايز الداية ، ومحمد سعد محمد، وأحمد محمد قدّور ، ومحمود السعران ، وآخرون في كتبهم المشار إليها في ثبت المصادر .
وقد درس هؤلاء على عجل عموميات قضية التقابل ضمن سواها في مساحات محدودة تتفاوت بين باحث وآخر ، ولم تحظ بتأليف مستقل أو وقفات مستقصية يمكن الاعتداد بها في هذا المجال .
على أن هناك من يغني خارج السرب أغنيات هي أفضل ما يمكن أن نعتبر أن الدراسات العربية الحديثة قدمته في قضية التقابل ، وإن لم تشر إليها الدراسات الدلالية اللاحقة لها ، أو لم تطّلع عليها على الأقل ما لحقها من الكتب المشار إليها آنفاً . وإلى ذلك قدمّ(أحمد نصيف الجنابي) دراسته الموسومة ب(ظاهرة التقابل في علم الدلالة) "1984م" مؤكداً ريادته الدراسات العربية لهذه الظاهرة ، والتأليف المستقل فيها ، وتحديد مفهومها قائلاً( لم أجد أحداً بحث ظاهرة التقابل في أي كتاب من الكتب الدلالية ، وأستطيع أن أقول مطمئناً أن مصطلح التقابل هو من وضعي(33).
مشيراً إلى استرشاده بكتب البلاغة والمنطق فيها .
وبغض النظر عن مدى ما حققه الجنابي فيها فقد كان عمله ملهماً لأطروحة ماجستير قام بها الباحث (عبد الكريم العبيدي ) بعنوان ( ظاهرة التقابل في اللغة العربية ) " 1989م " ، وأفاد الباحث من دراسة الجنابي الشيء الكثير كما يقول متجاوزاً النظرة التقليدية الضيقة في حصر التقابل في حدود المفردات إلى توسيع المفهوم الذي صار يعبر عن أي علاقة تقابلية بين الجمل والصور والنصوص (34).
درس العبيدي الجانب الفني للتقابل وما تؤديه أساليبه من تكثيف وإيحاء وإيجاز وتأثير ، كما درس الجانب الوظيفي للتقابل ، كل ذلك في ضوء الشواهد التطبيقية في القرآن الكريم . أشار الدكتور سعيد جبر باقتضاب هامشي إلى هذين العملين في دراسته المميزة (التقابلات الدلالية في العربية والإنجليزية) (تحليل لغوي تقابلي) "2004م " ، وفيها تناول قضية التقابل في إطار علم الدلالة الحديث في دراسة نظرية تطبيقية (تهدف إلى الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بينهما (اللغتين) في النظام والأداء، والتنبؤ بالمشكلات التي من المحتمل أن تعرض للمشتغلين في مجال الترجمة والتعليم والمناهج.... )(35).
أفادت دراسة الدكتور سعيد جبر من الدراسات الغربية السابقة ، ومعطيات اللسانيات الحديثة التي تعين على فهم الطبيعة المعجمية والدلالية والتركيبية والنصية للظاهرة في اللغتين المستهدفتين ، ودفع بها إلى مستويات رحبة من حيث توسيع المفهوم النظري في ضوء النصوص التطبيقية على المستويات المعجمية و التركيبية والنصية وعلاقات التناص والتعبيرات الاصطلاحية وفق رؤية تحليلية حديثة .
الهوامش
(1) ابن حجة الحموي ( شاعراً وناقداً) ، د/ محمود الربداوي ، دار قتيبة ، دمشق ط1 ،1982م.
(2) الإبهام في شعر الحداثة ( العوامل والمظاهر وآليات التأويل ) ، د/ عبدالرحمن محمد القعود ، سلسلة عالم المعرفة , الكويت , العدد (279)مارس 2002م.
(3) أثر السياب في الشعر العربي الحديث , د/ سعيد سالم الجريري , مكتبة الدراسات الفكرية والنقدية , صنعاء , ط1 , 2004م .
(4) أساليب الشعرية المعاصرة ، د/صلاح فضل ، دار قباء للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1998م .
(5) أسرار البلاغة ، عبدالقاهر الجرجاني ، شرح وتعليق : عبدالمنعم خفاجي ، مكتبة الإيمان ، القاهرة، ط3 ، 1992م.
(6) الأسلوبية (مدخل نظري ودراسة تطبيقية ) ، د/ فتح الله أحمد سليمان ، مكتبة الآداب ، القاهرة ، 1997م.
(7) الأسلوبية والأسلوب د/عبدالسلام المسدي ، الدار العربية للكتاب, تونس، ط 2، 1982م .
(8) الأشباه والنظائر ، جلال الدين السيوطي ، تحقيق / طه عبدالرؤوف سعد ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة ، 1975م .
(9 )الألسنية علم اللغة الحديث ( المبادئ والأعلام ) ، د/ ميشال زكريا ، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط، 1983م.
(10)مراهنات دراسة الدلالات اللغوية ، آن آينو ، ترجمة وتقديم مجموعة من الكتاب ص 94
(11) المصدر السابق ص 108 .
(12) المصدر السابق ص94
(13) علم الدلالة جون لاينز ، ترجمة : مجيد عبد الحليم الماشطة وآخرين ص:103
(14) جغرافيا الفكر , ريتشارد إي ص 147 .
(15) الثقافة العربية وعصر المعلومات ، د/ نبيل علي ص: 205
(11) المصدر السابق ص 108
(12) المصدر السابق ص94
(13) علم الدلالة جون لاينز ، ترجمة : مجيد عبد الحليم الماشطة وآخرين ص:103
(14) جغرافيا الفكر , ريتشارد إي ص 147 .
(15) الثقافة العربية وعصر المعلومات ، د/ نبيل علي ص: 205
(17) في علم الدلالة ، د/ محمد سعد محمد ص:125
(18) علم الدلالة (دراسة نظرية تطبيقية ) ، د/ فريد عوض حيدر ، ص:144 .
(19) المزهر للسيوطي ص:397
(20) علم اللغة ، د/ محمود السعران ص: 285
(21)فصول في فقه العربية , د/ رمضان عبد التواب ص: 338
(22 ) علم الدلالة ، أحمد مختار عمر ص: 191
(23) المزهر للسيوطي ص: 368
(24) فصول في فقه العربية ، د/ رمضان عبد التواب ص: 336
(25) علم الدلالة ، جون لاينز ، ترجمة : مجيد عبد الحليم الماشطة وآخرين ص: 95
(26) انظر مدخل إلى علم الدلالة , فرانك بالمر , ترجمة : د/ خالد حمود جمعة ص:15
(27) التقابلات الدلالية في العربية والإنجليزية ( تحليل لغوي تقابلي ) , د/ سعيد جبر ,ص:5
(28) انظر المصدر السابق ,ص:5
(29) انظر مدخل إلى علم الدلالة ، فرانك بالمر ، ترجمة : د/ خالد محمود جمعة ص:15
(30) علم الدلالة ، جون لاينز ، ترجمة : مجيد عبد الحليم الماشطة وآخرين ص: 95
(31) انظرهامش: التقابلات الدلالية في العربية والإنجليزية ( تحليل لغوي تقابلي ) د/ سعيد جبر ص: 28-29
(32) هامش المصدر السابق , ص 28
(33) علم الدلالة جون لاينز ترجمة ص 84
(34) التقابلات الدلالية سعيد جبر ص 5
(35) المصدر السابق المقدمة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.