- أخيرا. نفخ بضيق وهو يصل إلى محطة المسافرين ..ست ساعات من التحقيق معه..كاد أن ييأس والضابط اليهودي يحاصره بالأسئلة.. لكن"الحمد لله أولا وأخيرا". لفحت وجهه موجه هواء حارة وهو يقف محدقا في الجموع المحتشدة.. شنط من جميع المقاسات والألوان.. بشر من كافه الأشكال.. يجمعهم اليوم هذا المكان وغدا تفرقهم المحيطات والبحار. - ياللا ..علينا جاي.. القاهرة.. القاهرة. أصوات سائقي سيارات الأجرة ترتفع بينما كانت الجموع تتوزع. لفت نظره فجأة مرأى فتاه جميلة ترتدي بلوزة ليمونيه مطاطة مع بنطلون جينز ليموني أيضا..عيناها واسعتان وشعرها أشقر طويل..لون وجهها انسجم مع زيها فبدت مثل حوريه حسناء..بجانبها كان يقف رجل وأمراه .. بدا له أنهما أبواها. دق قلبه وهو يراها ..لكنه أزاح نظره عندما رأى الجميع يتطلع إليها..عيونهم كادت أن تخرج من محاجرها ..وخيل إليه إن ألسنتهم تمسح شفاههم وأنيابهم إلحادة كانت تلمع في ضوء الشمس ..لكن قلبه كان يدق بشده وهو يتخيل أن يتحقق له مبتغاه. - عم أبو كمال. صاح سامي وهو يلوح بيده للحاج محمد..الذي كان يرشد الركاب الى سيارات المسافرين. - أهلا يا ولدي ..كيف الحال؟حمدا لله على سلامتك. ضحك سامي معه ثم سكتا فجأة والفتاة تمر بجوارهما.. حدق فيه الحاج محمد قليلا ثم غمز بعينيه وهو يقول ضاحكا: -ولا يهمك..عرفت المطلوب. أفلته الحاج محمد وراح يجري وراء الرجل وامرأته وابنته ثم راح يقودهم نحو احدى السيارات . وضع عفشهم فوق السيارة وراحوا بدورهم يركبون في الخانة الأخيرة بينما احتل راكب رابع المقعد الأول بجوار السائق. همس الحاج محمد للسائق بوجود راكبين يقربان له ..ثم راح يشير لسامي وصاحبه ..أشار لهما فصعدا الى الخانة الوسطى. - نفر واحد ..باقي نفر. صاح السائق . لكن معظم الركاب كانوا مثنى وثلاث..قل ان يوجد راكب مفرد..ظلت الخانة الوسطى براكبين..عندها صاح سامي : - اطلع يا معلم ..أنا سوف أحاسب. ***** كان يحس انه مستعد لدفع أي مبلغ مقابل الفوز بمثل هذه الحالة..ثم التفت الى الحاج محمد ودس في جيبه ورقه نقدية وهو يقول : - يا احلى عم في الدنيا. أدار السائق المفتاح وضغط علي البنزين يريد الانطلاق..لكن اصواتا حادة ارتفعت في الخارج ..كان الدور ليس للسائق..وبعد شد وجذب نزل الجميع. - قلبي كان يحس انه سوف تحدث مشكله. قال الحاج محمد الذي ظهر فجأة..وبعد أن أصاب الغم قلب سامي عادت إليه الحياة من جديد..أنه أكثر ثقة مع أبي كمال..لابد في هذه الدنيا من وسيط وفي كل شي. من جديد احتل مقعده في الخانة الوسطى وبجانبه جلس شادي ودفعا رسوم الراكب الثالث. انطلقت السيارة مع غمزه من الحاج محمد ودعاء بالوصول بالسلامة ..وراحت السيارة تقطع الطريق في همة ونشاط.. بينما تمدد هو على الكنبة وراح قلبه يدق بشده . امتدت الأراضي حول الطريق الذي كان يشكل خطا اسودا وسط الرمال البيضاء ..وراحت السيارة تنهب الطريق وتدور معه حيثما دار بينما سحب الدخان تتصاعد من سيجار السائق وبعضها يأتي من الخلف فتملأ المكان ..لابد ان والد الفتاه قد بدأ التدخين هو الآخر . - ألا يوجد لديكم مسجل؟ نريد أن نسمع بعض الغناء. قال سامي. - أتريد غناء ..إن الغناء كله في الخانة الأخيرة . صاح السائق وهو يضحك..كان يشير بيده اليمنى نحو الفتاه وأبويها..بينما كانت ضحكاته المرتفعة تملأ المكان . أحس سامي بالحرج وهو يسمع ذلك..سب السائق في سره واحتقره لأنه وقح ..وهو لن يسايره..يبدو إن السائق قد استضعف الرجل .. إن الذين يعملون في هذه المهن ..شعورهم بقسوة الحياة يجعلهم أجلافا لا يراعون مشاعر الناس..وأكثر ما خاف منه هو إن الفتاه قد يكون أحرجها شيئاً من هذا الغمز الجريء..أحس كما لو أنها تقرب له..تمني من داخل نفسه أن يصفع السائق..ذلك الذي انتفخت أوداجه وبدا الشحم مكتنزا حول رقبته وتحت صدغه..كانت ياقة جلابيته متسخة واثر الشمس على رقبته..بدت حمرة جلده اقرب الى السواد..بينما قام شعر لحيته وبدا شعر رأسه منكوشا وعيناه كانتا جاحظتين. ***** تمدد سامي من جديد على الكنبة وراح يحملق في الطريق ..بعد ساعات سيصل الى القاهرة ويرى الحياة.. هنالك كل ما تشتهيه نفسه..حتى بنات مصر الجميلات..أحس بالملل في جلسته.. إن قلبه ينبض بشدة وضيق خانق يجثم على صدره .. بوده لو التفت ورأى الفتاه ..لكن أباها معها وهي تقف وراءه مباشره في ركن الخانة بينما أبوها في الوسط بينها وبين أمها..لا بد أن الأب سيشعر بالإحراج ..يكفيه ما سمعه من السائق قبل قليل . راح يحدق في الطريق أمامه ..حتى النعاس أبى أن يداعب جفونه ..السائق كان يثرثر في المقدمة.. يحكي عن اليهود والمصريين والطريق . الأب في الخلف كان يشارك في الضحكات بين الحين والآخر.. والجو العام في السيارة بدا اقل صرامة ..رقبته ارتخت وعضلاتها تميل الى الجانب ..رأسه يريد أن يلتفت .. يهمس لصديقه ببعض الكلمات وترتسم الابتسامات الباهتة على شفاههم ثم لا تلبث أن تختفي . حانت له فرصه المشاركة في الحديث وعندما تحدث الأب التفت نحوه كمن يريد التعليق .. لكن الصدمة ألجمته ..الفتاه كانت مستندة الى ظهر المقعد رأسها غاص في الأسفل وبرز صدرها وانسدل شعرها على كتفيها ..الأب كان يجلس في الوسط..بدا وكأنه غير سمين .. أما الأم فكانت هناك في الركن الآخر.. ممسكة سيجاره في يدها ..سيجاره طويلة.. والدخان يخرج من فمها وأنفها ..بدت مثل تجار السوق..اتسعت عيناه وهو يحدق فيهم. استدار من جديد وأولى ظهره لهم بعد أن تمتم بتعليق غير مفهوم.. لكن الصدر البارز سلبه عقله..ومرأى الأم بسيجارتها الطويلة اطار له ما بقي في عقله من إحساس.. تلاعبت به الحيرة . **** كانت الفتاة تكسر التسالي بأسنانها ثم تقذف بالقشرة ..والسائق كان سعيدا يغني ..أو هكذا بدا عليه وهو يدق بيده على مقود السيارة ويشدو: غني لي.. شوي شوي.. غني لي.. وخد عيني . الراكب في المقدمة بدت عليه التهمية وهو ببذلته تلك وحقيبته الدبلوماسية بجانبه ..كان صوته ضعيفا وهو يخرج ببطء بدا شادا مع الصوت النافر الذي كان ينطلق من فم السائق بأسنانه الصفراء . السيارة تنخر في الطريق والإعلانات الكبيرة بدأت تظهر .. إعلانات سيارات .. ومستشفيات وأجهزة حديثة.. ومضخات مياه .. وبعض العصائر.. بعض المباني هي الأخرى قامت هنا وهناك . - ها نحن قربنا من المحطة.. هل ننزل هنا أم نواصل ؟ صاح السائق ..ثم راح يهدئ من سرعة السيارة ويوقفها دون أن ينتظر الرد. خرج الجميع واشتروا بعض المشروبات والأكلات الخفيفة ثم عادوا..أفسح لها الطريق وهو يقول "تفضلي" هزت رأسها مبديه شكرها بينما راح قلبه ينبض من جديد. في السيارة حاول أن يتأمل صورتها في مرآة السائق لكنه لم يستطع ..التفت إليها وهو يمد لها ببعض اللبان ..أخذتها منه وهي تبتسم ..أعطى أمها وأباها أيضا ..أحس بالفرحة تغمر قلبه لكنه انتبه إلى انه لم يعط السائق والشاب بجواره..مد للسائق بقطعة ولجاره بأخرى ..تناولها السائق منه وهو يقول : - إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا. اقشعر بدنه وهو يسمع السائق يرغي بالأبيات .. أحس بالخجل ..ترى ماذا سيقول الرجل؟ انتظر أن يسمع رد..لكن لا شيء سوى المزيد من الدخان . يبدو إن الرجل لا يلقي بالا لكلام السائق ..لا بد أن الرجل ذو مكانه رفيعة تجعله اكبر من أن يهتم بكلام سائق متشرد مثل هذا ..تعجب من الرجل وثقته بنفسه ..راح يخمن من أي مكان هم .. ترى هل هم أيضا من غزة؟ ومن أي عائله يكونون؟ تمنى لو أنهم من عائله مشهورة ..ربما سيحدث أمه كي تخطبها له .. أتراها سترضى به ؟إن علامات القبول بادية عليها ..لم تعترض ..لا بد أنها ارتاحت له ..تمني من داخل أعماقه أن تكون فتاة راقية مؤدبة . ".صحيح أنها تلبس هكذا وجسمها بدا للناس جميعا في المحطة لكن هذا يحدث في ارقى العائلات ". قلبه ما زال يدق وهو يخرج علبة المياه المعدنية ويشرب منها ثم يناولهم علبة اخرى.. لم يعترض الرجل عليه ..حتى الفتاة أخذتها وراحت تشرب ..ثم مدت له بكيس من أكياس التسالي ..بينما كان السائق يحني رأسه ليراقب ما يجري عن طريق المرآة. **** مضت ثلاث ساعات والقاهرة ما زالت بعيده ..المحطة القادمة بدت من بعيد..توقف السائق ونزل الركاب ..قضوا حاجاتهم وصعدوا من جديد. - إلى أين انتم ذاهبون؟ سال السائق. لم يشأ أن يقول وجهته الحقيقية..كانت خارج مصر ..لكنه قال: نحن طلبة في جامعة القاهرة. ربما إن هذا له أثره في الفتاة.. ربما استطاع مقابلتها في القاهرة. الأراضي امتدت حول الطريق ..بعض الخضرة بدأت تغزو الأرض وبعض المدن الحديثة انتشرت هنا وهناك. وصلت السيارة إلى القناة وعبرتها ثم راحت تواصل الطريق ..مرت بالإسماعيلية . مضى الزمن لكن القلق لم يمض..وهدأت النفوس لكن دقات قلبه لم تهدأ.. ظل يسترق النظرات نحو الفتاة بطرف عينه.. كانت ترى ذلك لكنها لا تحرك ساكنا. كانت قد مضت سبع ساعات حينما وصلوا إلى القاهرة. - إلى أين ستمضون؟ سأل السائق موجها كلامه إلى الرجل. - إلى عين شمس. دق قلبه بشدة فقد حان وقت فراق الحبايب. أدار السائق السيارة وراح يشق الطرقات ويعبر الكباري وحين سألهم عن العنوان تلعثم الرجل ولم يحر جوابا..كان قد نسي العنوان. - ألستم تريدون شقة النويرية؟ قالها السائق بثقة وسخرية بدت واضحة في نصف الابتسامة التي ارتسمت على وجهه. - نعم. أجاب الرجل بفرحة. - هز السائق رأسه وهو يقول بصوت ممطوط: - -علينا جاي.. علينا جاي. ثم راح يخترق بعض الشوارع ويلف في بعض الأزقة ثم يوقف سيارته تحت إحدى العمارات الشاهقة . نزل سامي وصديقه ليفسحا الطريق للفتاة وأبويها. عند نزول الفتاة راح يحدق فيها من جديد ويتملى في تقاطيع جسمها والتي رسمت بفن شديد..تأمل العمارة بدقه ثم صعد السيارة وقلبه يدق بشدة كاد معها أن ينفجر. **** عندما راح السائق يواصل سيره نحو القاهرة اتكأ سامي على مقعد السائق ومد رأسه وهو يقول: - ما هي الحكاية يا معلم؟ من هؤلاء؟ يبدو انك تعرفهم. انتظر أن يقول له السائق إنهم من الأسرة الفلانية..لكن السائق الذي كان مبسوطا وكأنه توقع هذا السؤال منذ زمن ..ترك مقعد السيارة وراح يطقطق بأصابعه ويهز وسطه وهو يقول : - إن هؤلاء نويرية.. من الذين يمشون على خطوه ونص . انهار جبل من الأحلام وصار رمادا وتصاعد الدخان فغطى على وجهه وصار بلذة طعم العلقم بعد ما اكتشف إنها عائله راقصه . بصق من شباك السيارة إلى الخارج وهو يقول : - ولماذا لم تخبرنا منذ البداية؟ - لقد قلت لكم الغناء كله في الخلف لكنكم لم تفهموا. صاح السائق بينما ارتفعت ضحكاته وملأت المكان ..وراحت السيارة تتهادى في طريقها وعاد سامي من جديد يفكر في صدر الفتاة وجسمها .
