مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    القصاص ينزل من سماء تعز: إعدام قاتل بعد تحقيق العدالة لأولياء الدم    24 أبريل.. نصر تاريخي جنوبي متجدد بالمآثر والبطولات    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    بارتي يشعل الحماس في صفوف ارسنال قبل مواجهة توتنهام    مستشار في الديوان الملكي وعضو هيئة كبار العلماء بالسعودية يقدم واجب العزاء في رحيل الزنداني    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    نبأ عاجل من الديوان المليكي السعودي بشأن الملك سلمان بن عبدالعزيز بعد دخوله المستشفى    ضربة موجعة لجماعة الحوثي.. تحركات مكثفة للصين في عدن على كل المستويات!.. ماذا يحدث؟    حزب السلم والتنمية يعزي الإصلاح وأبناء فقيد اليمن الكبير الشيخ الزنداني ويسرد مناقبه    قناة mbc تفتح النار في تقرير لها على الشيخ "الزنداني"    كأس إيطاليا.. يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته من لاتسيو    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    إصابة طفلين بانفجار لغم من مخلفات مليشيا الحوثي الإرهابية بشبوة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    خبير أرصاد يحذر: منخفض الهدير في اليمن ليس الأول ولن يكون الأخير (فيديو)    ترتيبات سعودية عمانية جديدة بشأن اليمن.. وجولة مفاوضات مرتقبة بين السعودية والحوثيين    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    تغير جديد في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



راعي غنم ويتيم لم يرتگب جاهلية
سؤال حيَّر التاريخ
نشر في الجمهورية يوم 09 - 10 - 2007


كيف صنع من البدو قادة رسالة في 23 عاما
عن عمرو بن عبنسة قال: بينما رسول الله«صلى الله عليه وسلم»: يعرض خيلاً وعنده«عيينة بن حصن الفزاري» فقال رسول الله«صلى الله عليه وسلم: «أنا أبصر بالخيل منك» فقال عيينة: وأنا أبصر بالرجال منك، قال فكيف ذاك قال خيار الرجال الذين يضعون أسيافهم على عواتقهم، ويعرضون رماحهم على مناسج خيولهم من أهل نجد.. فقال رسول الله«صلى الله عليه وسلم»: كذبت بل خير الرجال أهل اليمن والإيمان يمان وأنا يمان وأكثر القبائل يوم القيامة في الجنة مذحج،وحضرموت خير من بني الحارثنسب النبي اليماني
محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب واسمه شيبة بن هاشم واسمه عمرو بن عبده مناف واسمه المغيرة بن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة بن مالك بن النضر واسمه قيس بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وعدنان هو ابن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوض بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخي بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبر بن يثربي بن يحزن بن يلحن بن ارعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد بن ايهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سي بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار بن اسماعيل بن ابراهيم«عليهما السلام».
ابراهيم«عليه السلام»وهو ابن تارح واسمه آزر بن ناحور بن ساروغ اوساروغ بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح «عليه السلام» بن لامك بن متوشلخ بن اخنوخ يقال: هو ادريس النبي«عليه السلام» بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيت بن آدم «عليهما السلام».
المولد وأربعون عاماً قبل النبوة
ولد سيد المرسلين«صلى الله عليه وسلم» بشعب بني هاشم بمكة في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل،ولأربعين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان،ويوافق ذلك عشرين أواثنين وعشرين من شهر ابريل سنة571م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان المنصورفوري«رحمه الله».
وقد روى أن ارهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى،وخمدت النار التي يعبدها المجوس،وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت.
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبدالمطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشراً ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له.
واختار له اسم محمد وهذا الاسم لم يكن معروفاً في العرب وختنه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون.
في بني سعد
وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر،ولتقوى أجسامهم،وتشتد أعصابهم،ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبدالمطلب لرسول الله«صلى الله عليه وسلم» المراضع،واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر،و هي حليمة بنت أبي ذؤيب عبدالله بن الحارث،وزوجها الحارث بن عبدالعز المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة.
وإخوته«صلى الله عليه وسلم» هناك من الرضاعة: عبدالله بن الحارث،وأنيسة بنت الحارث،وحذافة أوجذامة بنت الحارث وهي الشيماء، لقب غلب على اسمها وكانت تحضن رسول الله«صلى الله عليه وسلم»،وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم رسول الله«صلى الله عليه وسلم» وكان عمه حمزة بن عبدالمطلب مسترضعاً في بني سعد بن بكر، فارضعت أمه رسول الله«صلى الله عليه وسلم» يوماً وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله«صلى الله عليه وسلم» من جهتين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية ثم وقعت حادثة شق الصدر
إلى أمه الحنون
وخشيت عليه حليمة فردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين.
ورأت آمنة وفاء لذكرى زوجهاالراحل أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلومتر ومعها ولدها اليتيم محمد«صلى الله عليه وسلم» وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبدالمطلب،فمكثت شهراً ثم قفلت،وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالابواء بين مكة والمدينة.
جده العطوف
وعاد به عبدالمطلب إلى مكة،وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نكأ الجروح القديمة، فرق عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام: كان يوضع لعبدالمطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لايجلس عليه أحد من بنيه إجلالاً له، فكان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يأتي وهو غلام حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه،فيقول عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأن، ويجلس معه على فراشه،ويمسح ظهره بيده،ويسره مايراه يصنع.ولثماني سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره«صلى الله عليه وسلم» توفي جده عبدالمطلب بمكة،ورأى قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.
هذا عمه أبوطالب
ونهض أبوطالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه،وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل واحترام وتقدير،وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه،ويبسط عليه حمايته،ويصادق ويخاصم من أجله
بحيرى الراهب
ولما بلغ رسول الله«صلى الله عليه وسلم» اثنتي عشرة سنة قيل وشهرين وعشرة أيام ارتحل به أبوطالب تاجراً إلى الشام، حتى وصل إلى بصرى وهي معدودة من الشام،وقصبة لحوران،وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان وكان في هذا البلد راهب عرف ببحيرى،واسمه فيما يقال: جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم،وكان لايخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله«صلى الله عليه وسلم» وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.. فقال له أبوطالب وما أعلمك بذلك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولاشجر إلا خر ساجداً،ولايسجدان إلا لنبي،وإني أعرفه بخاتم النبوة اسفل من غضروف كتفه مثل الفتاحة،وإنا نجده في كتبنا،ثم أكرمهم بالضيافة،وسأل أبا طالب أن يرده،ولايقدم به إلى الشام، خوفاً عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة
حرب الفجار
وفي السنة العشرين من عمره«صلى الله عليه وسلم» وقعت في سوق عكاظ حرب بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان، تعرف بحرب الفجار ،وسميت بحرب الفجار، لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها،وقد حضر هذه الحرب رسول الله«صلى الله عليه وسلم» وكان ينبل على عمومته أي يجهز لهم النبل للرمي.
حلف الفضول
وعلى إثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذي القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه،وكانوا على من ظمله حتى ترد عليه مظلمته،وشهد هذا الحلف رسول الله«صلى الله عليه وسلم» وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: «لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم،ولو أدعى به في الإسلام لأجبت».
حياة الكدح
ولم يكن له «صلى الله عليه وسلم» عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنماً، رعاها في بني سعد،وفي مكة لأهلها على قراريط،ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يداري ولايماري،وجاءه يوم الفتح فرحب به،وقال: مرحباً بأخي وشريكي.
وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجراً إلى الشام في مال خديجة «رضي الله عنها» قال ابن اسحاق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال،تستأجر الرجال في مالها،وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم،وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله«صلى الله عليه وسلم» مابلغها من صدق حديثه،وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً،وتعطيه أفضل ماكانت تعطي غيره من التجار،مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله «صلى الله عليه وسلم» منها،وخرج في مالها ذلك،وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.
الزوجة الأولى
ولما رجع إلى مكة،ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة مالم تر قبل هذا،وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فيه«صلى الله عليه وسلم» من خلال عذبة،وشمائل كريمة،وفكر راجح،ومنطق صادق،ونهج أمين ،وجدت ضالتها المنشودة وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبى عليهم ذلك فتحدثت بما في في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه،وهذه ذهبت إليه«صلى الله عليه وسلم» تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضى بذلك،وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه،وعلى إثر ذلك تم الزواج،وحضر العقد بنوهاشم ورؤساء مضر،وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين وأصدقها عشرين بكرة وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة،وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسباً وثروة وعقلاً،وهي أول امرأة تزوجها رسول الله«صلى الله عليه وسلم» ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
وكل أولاده «صلى الله عليه وسلم» منها سوى إبراهيم ولدت له: أولاً القاسم وبه كان يكنى ثم زينب،ورقية،وأم كلثوم،وفاطمة ،وعبدالله وكان عبدالله يلقب بالطيب والطاهر،ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات كلهن أدركن الاسلام فأسلمن وهاجرن،إلا أنهن توفاهن الله في حياته«صلى الله عليه وسلم» سوى فاطمة «رضي الله عنها» فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به..ولخمس وثلاثين سنة من مولده «صلى الله عليه وسلم» قامت قريش ببناء الكعبة،وفي هذه الواقعة اشتهر بالصادق الأمين
أيام الصبا
ولاشك أن القدر حاطه بالحفظ،فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا،وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها،قال رسول الله«صلى الله عليه وسلم»:«ماهممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه،ثم هممت به حتى أكرمني برسالته،قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: افعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً،فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست اسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما ايقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك،ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة.. ثم ماهممت بسوء».
وروى البخاري عن جابر بن عبدالله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي«صلى الله عليه وسلم» وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي«صلى الله عليه وسلم»: اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: «إزاري، إزاري فشد عليه إزاره وفي رواية: فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النبي«صلى الله عليه وسلم» يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة ،وأحسنهم خلقاً،واعزهم جواراً،وأعظمهم حلماً،وأصدقهم حديثاً ،وألينهم عريكة ،وأعفهم نفساً وأكرمهم خيراً،وأبرهم عملاً،وأوفاهم عهداً،وآمنهم أمانة حتى سماه قومه: «الأمين» لماجمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية،وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة «رضي الله عنها» يحمل الكل،ويكسب المعدوم،ويقري الضيف،ويعين على نوائب الحق.
ظلال النبوة والرسالة في غار حراء
لما تقاربت سنه «صلى الله عليه وسلم»الأربعين،وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السويق والماء،ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة وهو غار لطيف طوله أربع أذرع ،وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد فيقيم فيه شهر رمضان،ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهدالكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة،وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية،ولكن ليس بين يديه طريق واضح،ولامنهج محدد،ولاطريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره «صلى الله عليه وسلم» لهذه العزلة طرفاً من تدبير الله له،وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم،فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض،وتعديل خط التاريخ.. دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات،ينطلق في هذه العزلة شهراً من الزمان مع روح الوجود الطليقة ،ويتدبر ماوراء الوجود من غيب مكنون،حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
استمعوا لعائشة
ولنستمع إلى عائشة الصديقة «رضي الله عنها» تروي لنا قصة نزول الوحي هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة،وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة،وعدلت خط التاريخ،قالت عائشة «رضي الله عنها»: أول مابدئ به رسول الله«صلى الله عليه وسلم» من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء،وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله،ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: قال: «ماأنا بقارئ»، قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم ارسلني، الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم ارسلني فقال: اقرأ،فقلت: ماأنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم آرسلني فقال: [اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم]العلق13، فرجع بها رسول الله«صلى الله عليه وسلم» يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: «مالي؟» فأخبرها الخبر«لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلاوالله مايخزيك الله أبداً، انك لتصل الرحم،وتحمل الكل،وتكسب المعدوم،وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عم خديجة وكان امرءاً تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الانجيل بالعبرانية ماشاء الله أن يكتب ،وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ياابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله«صلى الله عليه وسلم» خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً ،ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «و مخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ماجئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي، وفتر الوحي.
فترة الوحي والعيد السعيد
أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال، والصحيح أنها كانت أياماً، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس مايفيد ذلك، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفاً فليس بصحيح.
الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهراً واحداً، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة، وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحاً، - أي لأول يوم من شهر شوال - ويعود إلى البيت.
وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر.
فهذا يفيد أن الوحي الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحي، لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحي كان في ليلة الاثنين الحادية والعشرين من شهر رمضان فإن هذا يعني أن فترة الوحي كانت لعشرة أيام فقط.
وأن الوحي نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة، ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف، وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم.
جبريل بالوحي ثانية
قال ابن حجر: وكان ذلك «أي انقطاع الوحي أياماً»، ليذهب ماكان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العودة، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجيء الوحي أكرمه الله بالوحي مرة ثانية، قال: صلى الله عليه وسلم:
« جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فلما استبطنت الوادي فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ منه رعباً حتى هويت إلى الأرض فأتيت خديجة فقلت: «زملوني، زملوني» قال: «فدثروني وصبوا علي ماء بارداً، فنزلت: «يا أيها المدثر قم فأنذِر وربك فكبر وثيابك فطهر والرُّجزَ فاهجُرْ» المدثر: 1:5 «وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ثم حمي الوحي بعده وتتابع.
ثلاث سنوات من الدعوة السرية
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول ماتقدم من آيات سورة المدثر، بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وحيث أن قومه كانوا جفاة لادين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولاسبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف ، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيسي، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية، لئلا يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم.
وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل سرية مقصورة على الأفراد، ولم يجهر بها النبي صلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادي، إلا أنها عرفت لدى قريش، وفشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به الناس، وقد تنكر له بعضهم أحياناً، وأعتدوا على بعض المؤمنين، إلا أنهم لم يهتموا به كثيراً حيث لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم.
أول أمر بإظهار الدعوة
لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحي يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى.
وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: «وأنذر عشيرتك الأقربين» الشعراء: 214 .
الدعوة في الأقربين
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلاً، فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ماأنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في ذلك المجلس.
ثم دعاهم ثانية وقال: «الحمدلله، أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له»، ثم قال: «إن الرائد لايكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إن رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً».
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقاً لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعم إلى ماتحب، فامض لما أمرت به.
فوالله، لاأزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لاتطاوعني على فراق دين عبدالمطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه مابقينا
ياصباحاه.. على جبل الصفا
وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجراً، ثم هتف: «ياصباحاه»
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم.
ثم جعل ينادي بطون قريش ويدعوهم قبائل قبائل: «يابني فهر، يابني عدي، يابني فلان، يابني فلان، يابني عبد مناف، يابني عبدالمطلب».
فلما سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف؟قالوا: محمد.
فأسرع الناس إليه،حتى أن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ماهو،فجاء أبو لهب وقريش.
فلما اجتمعوا قال:«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟».
قالوا:نعم، ماجربنا عليك كذباً، ماجربنا عليك إلا صدقاً.
قال:«إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله» «أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو»
«خشي أن يسبقوه فجعل ينادي : ياصباحاه»
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال:
«يامعشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً، ولانفعاً ولا أغني عنكم من الله شيئاً.
يابني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضراً ولانفعاً.
يابني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار.
يامعشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضراً ولانفعاً.
يامعشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإي لا أملك لكم من الله ضراً ولانفعاً، ولاأغنى عنكم من الله شيئاً يابني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار.
يابني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.
يامعشر بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضراً ولانفعاً، ولا أغني عنكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئاً.
ياعباس بن عبدالمطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية بنت عبدالمطلب عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئاً.
يافاطمة بنت محمد رسول الله ، سلينى ماشئت من مالي، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضراً ولانفعاً، ولا أغني عنك من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها» أي أصلها حسب حقها.
ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولايذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء،وقال: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت « تبت يدا أبي لهب وتب » سورة المسد:1
المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن الاستماع
وخلال هذه الأيام أهم قريشاً أمر آخر، وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد «صلى الله عليه وسلم»، حتى لايكون لدعوته في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأياً واحداً، ولاتختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأياً نقول له: قال : بل أنتم فقولوا اسمع، قالوا: نقول: كاهن، قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فماهو بزمزمة الكاهن ولاسجعه قالوا: فنقول: مجنون، قال: ماهو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه،ماهو بخنقه ولاتخالجه ولاوسوسته، قالوا:
فنقول: شاعر،قال:ماهو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فماهو بالشعر، قالوا:فنقول: ساحر قال: ماهو بساحر ،لقد رأينا السحار وسحرهم، فماهو بنفثهم ولاعقدهم، قالوا: فما نقول: قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.
صابئ كذاب
وبعد أن أتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لايمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول:
لاتطيعوه فإنه صابئ كذاب.
وأدىّ ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
أساليب شتى لمجابهة الدعوة
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضي بها على هذه الدعوة في مهدها، وتتلخص هذه الأساليب فيمايلي:
1 السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك. 2 إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة.
3 إنه بشر.
4 الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين.
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن،فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي «صلى الله عليه وسلم» يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلي ويتلو القرآن، قال تعالى « وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت : 26 حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضاً عن طريق المفاجأة،دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة.
دار الأرقم
كانت هذه الدار في أصل الصفا،بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، ليجتمع فيها بالمسلمين سراً، فيتلو عليهم آيات الله ويزكهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولايعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة.
الهجرة الأولى إلى الحبشة
كانت بداية الاعتداءات في أواسط أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يوماً فيوماً وشهراً فشهراً، حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، ونبابهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة قال تعالى «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» الزمر : 10
وكان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل، لايظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم من الألم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
النجم في سجود المشركين
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي «صلى الله عليه وسلم» إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ماتواصى به بعضهم بعضاً، من قولهم:« لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» فصلت: 26.. فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروع كلام قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغ إليه،لايخطر بباله شيء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ:«فاسجدوا لله واعبدوا» النجم :62 ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجداً، وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لوى زمامهم، فارتكبوا عين ماكانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين،وعند ذلك كذبوا على رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها ماكانوا يرددونه هم دائماً من قولهم:« تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى» جاءوا بهذا الإفك المبين ليعتذروا عن سجودهم مع النبي «صلى الله عليه وسلم» وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراءالخداع .
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً، أو في جوار رجل من قريش. ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على قريش مابلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى،وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا.
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان فيهم عمار، يشك فيه، وثماني عشرة امرأة.
فكرة إعدام الحبيب
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضباً، وكادوا يتميزون غيظاً، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله «صلى الله عليه وسلم» ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم.
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جداً، وكانوا إما ذوي شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد،ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور.
وأما رسول الله «صلى الله عليه وسلم»،فقد كان يصلي ويعبد الله أمام أعين الطغاة، ويدعو إلى الله سراً وجهراً لايمنعه عن ذلك مانع، ولايصرفه عنه شيء؛ إذ كان من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله:«فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين» الحجر:94 وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولم يكن في الظاهر مايحول بينهم وبين ما يريدون إلا ماكان له «صلى الله عليه وسلم» من الحشمة والوقار،وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشم عليهم،إلا أن كل ذلك لم يعد له أثره المطلوب في نفوسهم؛إذ بدأوا يستخفون به منذ شعروا بانهيار كيانهم الوثني وزعامتهم الدينية أمام دعوته صلى الله عليه وسلم.
كلب من كلاب
ومما روت لنا كتب السنة والسيرة من الأحداث التي تشهد القرائن بأنها وقعت في هذه الفترة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر ب «والنجم إذا هوى» النجم:1وبالذي «ثم دنا فتدلى» النجم:8،ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه،وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: « اللهم سلط عليه كلباً من كلابك» وقد استجيب دعاؤه «صلى الله عليه وسلم»، فقد خرج عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: هو والله آكلي كما دعا محمد علي، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله، ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم رأسه.
ومنها:ماذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.
غمزات القتل
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم مارواه ابن اسحاق عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فقالوا:مارأينا مثل ماصبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبيناهم كذلك إذ طلع رسول الله «صلى الله عليه وسلم»،فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مربهم طائفاً بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله «صلى الله عليه وسلم »،فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مربهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال:« أتسمعون يامعشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح»،فأخذت القوم كلمته، حتى مامنهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن شدهم فيه ليرفؤه بأحسن مايجد،ويقول: «انصرف يا أبا القاسم، فو الله ماكنت جهولاً.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول:
أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد مارأيت قريشاً نالوا منه قط. .وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص:أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال:بينا النبي« صلى الله عليه وسلم » يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً؛ فأقبل أبوبكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي «صلى الله عليه وسلم» وقال:
أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لانمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا.
الرؤساء يفاوضون الرسول
ثم اجتمعوا يوماً عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعاً يرجو خيراً، فلما جلس إليهم وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة من قبل وكأنهم ظنوا أنه لم يثق بجدية هذا العرض حين عرضه عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل، ولكن قال لهم رسول الله «صلى الله عليه وسلم»:«مابي تقولون، ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولمن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ماجئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال:
فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال، ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيي لهم الموتى ولاسيما قصي بن كلاب فإن صدقوه يؤمنون به.
فأجاب بنفس ماسبق من الجواب.. فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكاً يصدقه، ويراجعونه فيه وأن يجعل له جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، فأجابهم بنفس الجواب: فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب: أن يسقط عليهم السماء كسفاً، كما يقول ويتوعد، فقال:«ذلك إلى الله، إن شاء فعل» فقالوا: أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك،حتى يعلمك ما تراجعنا به، وماهو صانع بنا إذا لم يقبل.. وأخيراً هدّدوه أشد التهديد،وقالوا: أما والله لانتركك ومافعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، فقام رسول الله «صلى الله عليه وسلم» عنهم ،وانصرف إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته ماطمع من قومه.
مساومات وتنازلات
ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الاغراء والترغيب، والتهديد والترهيب، وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك، تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبي «صلى الله عليه وسلم» على باطل، بل كانوا كما قال الله تعالى «لفي شك منه مريب» الشورى: 14 فرأوا أن يساوموه صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ماهم عليه، ويطالبوا النبي «صلى الله عليه وسلم» بترك بعض ماهو عليه، وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان مايدعو إليه النبي «صلى الله عليه وسلم» حقاً. .وأخرج عبد بن حميد وغيره ابن عباس أن قريشاً قالت لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله:« قل ياأيها الكافرون».
السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشاً قالوا لرسول الله «صلى الله عليه وسلم»: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فأنزل الله :« قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون» الزمر: 64
ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيداً من التنازل بشرط أن يجري النبي «صلى الله عليه وسلم» بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا:
«ائت بقرآن غير هذا أو بدله» فقطع الله هذا السبيل أيضاً بإنزال مايرد به النبي «صلى الله عليه وسلم» عليهم فقال:« قل مايكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا مايوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» يونس: 15 ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله:« وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهن شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لاتجد لك علينا نصيراً». الإسراء: 73:75 .
موقف أبي طالب وعشيرته
أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليقتلوه، ثم رأى في تحركاتهم وتصرفاتهم مايؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته مثل مافعله عقبه بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام وعمر بن الخطاب جمع بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي «صلى الله عليه وسلم»،فأجابوه إلى ذلك كلهم مسلمهم وكافرهم حمية للجوار العربي، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة، إلا ماكان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش.
ميثاق الظلم والعدوان
زادت حيرة المشركين إذ نفذت بهم الحيل، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ نبي الله «صلى الله عليه وسلم» والقيام دونه، كائناً ماكان، فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادي المحصب فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولايجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله «صلى الله عليه وسلم» بيوتهم، ولايكلموهم، حتى يسلموا إليه رسول الله «صلى الله عليه وسلم» للقتل، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق «ألا يقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً، ولاتأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل». قال ابن القيم: يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم،فدعا عليه رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فشلّت يده.
تم هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم ألا أبا لهب وحبسوا في شعب أبي طالب، وذلك فيما يقال: ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وقد قيل غير ذلك.
ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب
واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولابيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لايصل إليهم شيء إلا سراً، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لايستطعيون شراءها.
وكان حكيم بن حزام يحمل قمحاً إلى عمته خديجة رضي الله عنها وقدتعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البختري، ومكنه من حمل القمح إلى عمته.
وكان أبو طالب يخاف على رسول الله «صلى الله عليه وسلم» فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وأمره أن يأتي بعض فرشهم.
وكان رسول الله «صلى الله عليه وسلم» والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام وقد أسلفنا ماكان يأتي به أبو لهب.
نقض صحيفة الميثاق
مرعامان أو ثلاثة أعوام والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوة نقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريشاً كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهاً لها.
وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها «باسمك اللهم»، وماكان فيها من اسم فإنها لم تأكله.
ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم « وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر».
القمر:2 اعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفراً إلى كفرهم.
آخر وفد قريش إلى أبي طالب
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين والصد عن سبيل الله ،وأما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات لاسيما حصار الشعب قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به، وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي «صلى الله عليه وسلم» بين يديه، ويعطوا بعض مالم يرضوا إعطاء قبل ذلك.
فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب.
ولكنهم عادوا خاسرين.
وتوفى أبو طالب...
وخديجة توفت...
فكان عاماً مريراً اسماه الرسول عام الحزن.
الإسراء والمعراج
وبينما النبي «صلى الله عليه وسلم» يمر بهذه المرحلة، وأخذت الدعوة تشق طريقاً بين النجاح والاضطهاد، وبدأت نجوم الأمل تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعراج.
وروى أئمة الحديث تفاصيل هذه الوقعة، وفيما يلي نسردها بإيجاز:
قال ابن القيم: أسري برسول الله «صلى الله عليه وسلم» بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً على البراق، صحبه جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد.
ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته ،وأراه الله أرواح السعداء عن يمينه، وأرواح الاشقياء عن يساره.
ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبابه، وأقرا بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه،فرد عليه، ورحب به،وأقر بنبوته.
ثم عر به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه،فرد عليه ورحب به،وأقر بنبوته.
فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: مايبكيك؟ فقال:
أبكي؛ لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم عليه السلام، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.
سدرة المنتهى
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، ثم غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها ثم رفع له البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لايعودون، ثم أدخل الجنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا تربها المسك، وعرج به حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام. .ثم عرج به إلى الجبار جلاله، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ماأوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى فقال له: بم أمرك ربك؟ قال: «بخمسين صلاة»، قال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت،فعلا به جبريل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى، وهو في مكانه هذا لفظ البخاري في بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثم أنزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عز وجل، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال:« قد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم» فلما بعد نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
ثم قال:وأما قوله تعالى في سورة النجم: «ثم دنا فتدلى». النجم:8 فهو غير الدنو الذي في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود والسياق يدل عليه، وأما الدنو والتدلي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تبارك وتعالى وتدليه، ولاتعرض في سورة النجم لذلك، بل فيه أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهذا هو جبريل، رآه محمد صلى الله عليه وسلم على صورته مرتين: مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى، والله أعلم.
هل شق صدر النبي ثانية
وقد جاء في بعض الطرق أن صدره «صلى الله عليه وسلم » شق في هذه المرة أيضاً، وقد رأى النبي «صلى الله عليه وسلم » في هذه الرحلة أموراً عديدة:
عرض عليه اللبن والخمر، فاختار اللبن، فقيل، هديت الفطرة أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
ورأى أربعة أنهار يخرجن من أصل سدرة المنتهى:نهران ظاهران ونهران باطنان، فالظاهران هما: النيل والفرات، عنصرهما، والباطنان :نهران في الجنة، ولعل رؤية النيل والفرات كانت إشارة إلى تمكن من هذين القطرين، والله أعلم.
مشافر
ورأى مالكاً خازن النار، وهو لايضحك، وليس على وجهه بشر ولا بشاشة، وكذلك رأى الجنة والنار.
ورأى أكلة أموال اليتامى ظلماً لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون في أفواههم قطعاً من نار كالإفهار، فتخرج من أدبارهم.
ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لايقدرون لأجلها يتحولون عن أماكنهم، ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار فيطأونهم.
ورأى الزناة بين أيديهم لحماً سميناً طيباً، إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن،ويتركون الطيب السمين. ورأى النساء اللاتي يدخلن على الرجال من ليس من أولادهم، رآهن معلقات بثديهن.
ورأى عيراً من أهل مكة في الإياب والذهاب، وقد دلهم على بعير ند لهم، وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون، ثم ترك الإناء مغطى، وقد صار ذلك دليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الاسراء.
تجليات الاسراء والمعراج
قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله «صلى الله عليه وسلم» في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له، حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته، ولايستطيعون أن يردوا عليه شيئاً، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفوراً، وأبى الظالمون إلا كفوراً.
يقال: سمي أبوبكر رضي الله عنه صديقاً؛ لتصديقه هذه الوقعة حين كذبها الناس.
وبعد ذلك كانت بيعة العقبة الأولى والثانية.
طلائع الهجرة
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته إذن رسول الله «صلى الله عليه وسلم» للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن المدينة المنورة.
وهاجر النبي وحثت قريش خطاها في طلبه فلجأ إلى الغار.
وعادت قريش إلى دورها يائسة.
ودخل النبي المدينة فغنت بنات الانصار فرحاً:
طلع البدر علينا.
عهد الدعوة والجهاد والنجاح
يمكن تقسيم العهد المدني إلى ثلاث مراحل:
1 مرحلة تأسيس المجتمع الإسلامي، وتمكين الدعوة الإسلامية، وقد أثيرت في هذه المرحلة القلاقل والفتن من الداخل، وزحف فيها الأعداء من الخارج؛ ليستأصلوا شأفة المسلمين، ويقلعوا الدعوة من جذورها، وقد انتهت هذه المرحلة بتغلب المسلمين وسيطرتهم على الموقف مع عقد صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة. 2 مرحلة الصلح مع العدو الأكبر، والفراغ لدعوة ملوك الأرض إلى الإسلام، وللقضاء على أطراف المؤامرات، وقد انتهت هذه المرحلة بفتح مكة المكرمة في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
3 مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وقد امتدت هذه المرحلة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة.
المرحلة الأولى بناء مجتمع جديد
نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بني النجار كان يوم الجمعة 12ربيع الأول سنة1ه/الموافق 27سبتمبر سنة 622م وأنه نزل في أرض أمام دار أبي أيوب،وقال:«هاهنا المنزل إن شاء الله» ثم انتقل إلى بيت أبي أيوب رضي الله عنه.
المسجد النبوي
وأول خطوة خطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك هو بناء المسجد النبوي،واختار له المكان الذي بركت فيه ناقته صلى الله عليه وسلم ،فاشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وأسهم في بنائه بنفسه،فكان ينقل اللبن والحجارة ويقول:
اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
وكان يقول:
هذا الجمال لاحمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
وكان ذلك مما يزيد نشاط الصحابة في العمل،حتى إن أحدهم ليقول:
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذاك منا العمل المضلل
وكانت في ذلك المكان قبور للمشركين ،وكان فيه خرب ونخل وشجرة من غرقد، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت،وبالحرب فسويت،وبالنخل والشجرة فقطعت،وصفت في قبلة المسجد،وكانت القبلة إلى بيت المقدس،وجعلت عضادتاه من حجارة،وأقيمت حيطانه من اللبن والطين،وجعل سقفه من جريد النخل وعمده الجذوع ،وفرشت أرضه بالرمال والحصباء،وجعلت له ثلاثة أبواب ،وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع،والجانبان مثل ذلك أو دونه،وكان أساسه قريباً من ثلاثة أذرع.
وبني بجانبه بيوت بالحجر واللبن،وسقفها بالجريد والجذوع،وهي حجرات أزواجه صلى الله عليه وسلم وبعد تكامل الحجرات انتقل إليها من بيت أبي أيوب.
ولم يكن المسجد موضعاً لأداء الصلوات فحسب،بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته،ومنتدى تلتقي وتتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بيتها النزعات الجاهلية وحروبها،وقاعدة لإدارة جميع الشئون وبث الانطلاقات وبرلماناً لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية.
وكان مع هذا كله داراً يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولابنون.
النغمة العلوية
وفي أوائل الهجرة شرع الأذان، تلك النغمة العلوية التي تدوي في الافاق ،وتهز أرجاء الوجود،تعلن كل يوم خمس مرات بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،وتنفي كل كبرياء في الكون وكل دين في الوجود،إلا كبرياء الله والدين الذي جاء به عبده محمد رسول الله..وقد تشرف برؤيته في المنام أحد الصحابة الأخيار عبدالله بن زيد بن عبدربه رضي الله عنه فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقد وافقت رؤياه رؤيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقره النبي صلى الله عليه وسلم والقصة بكاملها مروية في كتب السنة والسيرة.
ميثاق التحالف الإسلامي
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقد هذه المؤاخاة بين المؤمنين،قام بعقد معاهدة أزاح بها ماكان بينهم من حزازات في الجاهلية،وماكانوا عليه من نزعات قبلية جائرة،واستطاع بفضلها إيجاد وحدة إسلامية شاملة،وفيما يلي بنودها ملخصاً:
هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين لمؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب،ومن تبعهم فلحق بهم،وجاهد معهم:1 أنهم أمة واحدة من دون الناس.
2 المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم،وهم يقدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين،وكل قبيلة من الأنصارعلى ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ،وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3 وإن المؤمنين لايتركون مُفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
4 وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم،أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثر أوعدوان أو فساد بين المؤمنين.
5 وإن أيديهم عليه جميعاً،ولو كان ولد أحدهم.
6 ولايقتل مؤمن مؤمناً في كافر.
7 ولاينصر كافراً على مؤمن.
8 وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
9 وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة ،غير مظلومين ولامتناصرين عليهم.
10 وإن سلم المؤمنين واحدة ،لايسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدم بينهم.
11 وإن المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
12 وإنه لايجير مشرك مالاً لقريش ولانفساً،ولا يحول دونه على مؤمن.
13 وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول.
14 وإن المؤمنين عليه كافة ،ولايحل لهم إلا قيام عليه.
15 وإنه لايحل لمؤمن أن ينصر محدثاً ولايؤويه،وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولاعدل.
16 وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء ،فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
معاهدة مع اليهود
بعد أن أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد مجتمع جديد وأمة إسلامية جديدة،بإقامة الوحدة العقيدية والسياسية والنظامية بين المسلمين ،بدأ بتنظيم علاقاته بغيرالمسلمين،وكان قصده بذلك توفير الأمن والسلام والسعادة والخير للبشرية جمعاء،مع تنظيم المنطقة في وفاق واحد،فسن في ذلك قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في ذلك العالم المليء بالتعصب والأغراض الفردية والعرقية،وأقرب من كان يجاور المدينة من غير المسلمين هم اليهود كما أسلفنا وهم وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين،لكن لم يكونوا أظهروا أية مقاومة أو خصومة بعد، فعقد معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة قرر لهم فيها النصح والخير،وتك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال،ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام.
وفيما يلي أهم بنود هذه المعاهدة:
بنود المعاهدة
1 إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين،لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم،وكذلك لغير بني عوف من اليهود.
2 وإن على اليهود نفقتهم،وعلى المسلمين نفقتهم.
3 وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
4 وإن بينهم النصح والنصيحة ،والبر دون الإثم.
5 وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه.
6 وإن النصر للمظلوم.
7 وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
8 وإن يثرب حرام حوفها لأهل هذه الصحيفة.
9 وإنه ماكان بين أهل هذه الصحيفةمن حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عزوجل ،وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
10 وإنه لاتجار قريش ولا من نصرها.
11 وإن بينهم النصر على من دهم يثرب ..على كل أناس حصتهم من جابنهم الذي قبلهم.
12 وإنه لايحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
وبإبرام هذه المعاهدة صارت المدينة وضواحيها دولة وفاقية،عاصمتها المدينة،.ورئيسها إن صح هذا التعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم والكلمة النافذة والسلطان الغالب فيها للمسلمين.
ولتوسيع منطقة الأمن والسلام عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبائل أخرى في المستقبل بمثل هذه المعاهدة،حسب ما اقتضته الظروف.
وبعد ذلك عملت قريش على استفزازات المسلمين بعد الهجرة واتصلوا بعبدالله بن أبي لمحاربة المسلمين فأذن الله للمسلمين بالقتال بعد الهجرة..وبدأت سلسلة الغزوات والسرايا.
التي بدأت بغزوة بدر انتصر فيها المسلمون رغم قلة عددهم وتلتها معركة أحد التي انكسر فيها المسلمون لعدم امتثال الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كانت غزوة الخندق اندحر فيها الاحزاب وبعد ذلك تم إجلاء مابقي من يهود «بني قينقاع،بني النظير،بني قريضة».
مكاتبة الملوك والأمراء
الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة
الكتاب إلى المقوقس ملك مصر
الكتاب إلى كسرى ملك فارس
الكتاب إلى قيصر ملك الروم
الكتاب إلى المنذر بن سَاوي
الكتاب إلى هودة بن علي صاحب اليمامة.
الكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق
الكتاب إلى ملك عُمان.
غزوة فتح مكة
قال ابن القيم:هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمين،واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين،من أيدي الكفار والمشركين ،وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء،وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء،ودخل الناس به في دين الله أفواجاً،وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً.
تساقط الأصنام
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ،والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله،حتى دخل المسجد ،فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه،ثم طاف بالبيت ،وفي يده قوس، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً،فجعل يطعنها بالقوس.ويقول: « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً »الإسراء :81«قل جاء الحق ومايبدئ الباطل ومايعيد» سبأ49والأصنام تتساقط على وجوهها.
وكان طوافه على راحلته ،ولم يكن محرماً يومئذ،فاقتصر على الطواف،فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة،فأخذ منه مفتاح الكعبة،فأمر بها ففتحت فدخلها، فرأى فيها الصور،ورأى فيها صورة ابراهيم ،وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ،فقال:«قاتلهم الله،والله ما استقسما بها قط» .
ورأى في الكعبة حمامة من عيدان ،فكسرها بيده ،وأمر بالصور فمحيت.
يصلي في الكعبة ثم يخطب في قريش
ثم أغلق عليه الباب،وعلى أسامة وبلال،فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف،وجعل عمودين عن يساره ،وعموداً عن يمينه،وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى هناك..ثم دار في البيت،وكبر في نواحيه،ووحد الله،ثم فتح الباب ،وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً يننظرون ماذا يصنع؟فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته،فقال:
«لا إله إلا الله وحده لاشريك له،صدق وعده ،ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده،الا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين،إلا سدانة البيت وسقاية الحاج،ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة ،مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولاد.
يامعشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء،الناس من آدم ،وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية:«ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير
لاتثريب عليكم اليوم
ثم قال:«يامعشر قريش ماترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً ،أخ كريم وابن أخ كريم ،قال:«فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته:«لاتثريب عليكم» (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
في دين الله أفواجا
كانت غزوة فتح مكة كما قلنا معركة فاصلة ،قضت على الوثنية قضاء باتاً،عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل ،وزالت عنهم الشبهات ،فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام.
ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين التاسع والعاشر ونرى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً،حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح،إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل،ثم نرى في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفاً منهم يموج حول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد،تدوي له الآفاق،وترتج له الأرجاء.
حجة الوداع يامعاذ
تمت أعمال الدعوة،وإبلاغ الرسالة،وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية لله،ونفيها عن غيره،وعلى أساس رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية،حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10ه قال له فيما قال:«يامعاذ ،إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا،ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري» ،فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصعاب إذا أثمرت
وشاء الله أن يرى رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته،التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً،فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها،فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة،وبلغ الرسالة ونصح الأمة.
أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم.وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم للرحيل ،فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بُدنه ،وانطلق بعد الظهر،حتى بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر .فصلاها ركعتين وبات هناك حتى أصبح،فلما أصبح قال لأصحابه: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل:عمرة في حجة».
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه،ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك،في بدنه ورأسه،حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته،ثم استدامه ولم يغسله،ثم لبس إزاره ورداءه ،ثم صلى الظهر ركعتين ،ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه،وقرن بينهما ،ثم خرج،فركب القصوى ،فأهل أيضاً،ثم أهل لما استقلت به على البيداء..
ثم واصل سيره.
.........
.........
حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له،فأتى بطن الوادي ،وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس،فقام فيهم خطيباً، وألقى الخطبة الجامعة:خطبة الوداع.
الزمان قد استدار
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام ،فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر،ولم يصل بينهما شيئاً.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر عاشر ذي الحجة أيضاً حين ارتفع الضحى ،وهو على بغلة شهباء،وعلي يعبر عنه ،والناس بين قائم وقاعد ،وأعاد في خطبته هذه بعض ماكان ألقاه أمس،فقد روى الشيخان عن أبي بكرة قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر،قال:«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض،السن اثنا عشر شهراً،منها أربعة حرم ،ثلاث متواليات،ذو القعدة وذوالحجة والمحرم،ورجب مُضر الذي بين جماد وشعبان»
وقالت:«أي شهرهذا؟» قلنا:الله ورسوله أعلم،فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،قال:«أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى ؟ قال:«أي بلد هذا؟» قلنا :الله ورسوله أعلم،فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،قال: «أليست البلدة؟» قلنا:بلى. قال:«فأي يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم.فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه،قال: «أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى.قال:«فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا،في بلدكم هذا،في شهركم هذا».
«وستلقون ربكم ،فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض»
«ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم،قال:«اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب،فرب مبلغ أوعى من سامع».
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة:«ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ألا لايجني جان على ولده،ولا مولود على والده.ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً،ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به»..ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة،لا ليأخذ حظاً من الراحة ،بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله .
وكان آخر بعوثه صلى الله عليه وسلم بعثة أسامة بن زيد على كبرياء دولة الرومان.. ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف،أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم ،وتتضح بعباراته وأفعاله..إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لايعتكف إلا عشرة أيام فحسب،وتدارسه جبريل القرآن مرتين،وقال في حجة الوداع:«إني لاأدري لعلي لاألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً» وقال وهو عند جمرة العقبة :«خذوا عني مناسككم ،فلعلي لا أحج بعد عامي هذا»،وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق،فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه..وفي أوائل صفر سنة 11ه خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ،فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات،ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرط لكم ،وأنا شهيد عليكم،وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن،وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض،وإني والله ماأخاف عليكم أن تشركوا بعدي،ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها».
وخرج ليلة في منتصفها إلى البقيع،فاستغفر لهم،وقال: «السلام عليكم ياأهل المقابر ،ليهن لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه ،اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم،يتبع آخرها أولها،والآخرة شر من الأولى» ،وبشرهم قائلاً:«إنا بكم للاحقون».
بداية المرض
وفي اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11ه وكان يوم الاثنين شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع،فلما رجع ،وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه،واتقدت الحرارة ،حتى إنهم كانوا يجدون سَوْرَتَها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض 11يوماً،.وجميع أيام المرض كانت 31 ،أو 41يوماً.
الأسبوع الأخير
وثقل برسول الله صلى الله عليه لم المرض،فجعل يسأل أزواجه:«أىن أنا غداً؟أين أنا غداً؟» ففهمن مراده،فأذن له يكون حيث شاء ،فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب،عاصباً رأسه،تخط قدماه حتى دخل بيتها،فقضى عندها آخر أسبوع من حياته،وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تنفث على نفسه،وتمسحه بيده رجاء البركة ،قبل الوفاة بخمسة أيام.
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة،اتقدت حرارة العلة في بدنه فاشتد به الوجع وغمي ،فال:«هريقوا عليّ سبع قرب من آبار شتى ،حتى أخرج إلى الناس ،فأعهد إليهم»، فأقعدوه في مخضب ،وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: «حسبكم ،حسبكم»..وعند ذلك أحس بخفة،فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه،قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر،وكان آخر مجلس جلسه،فحمد الله وأثنى عليه ،ثم قال: «أيها الناس ،إليّ» فثابوا إليه،فقال فيما قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور انبيائهم مساجد» وفي رواية :«قاتل الله اليهود والنصارى ،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقال:«لاتتخذوا قبري وثناً يعبد»..وعرض نفسه للقصاص قائلاً:«من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه،ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه»..ثم نزل فصلى الظهر،ثم رجع فجلس على المنبر،وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها.فقال رجل : إن لي عندك ثلاثة دراهم .فقال:«أعطه يافضل» ،ثم أوصى بالأنصار قائلاً: «أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي ،وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم،فاقبلوا من مُحسنهم،وتجاوزوا عن مسيئهم» وفي رواية أنه قال:« إن الناس يكثرون ،وتقل الأنصار حتى يكونا كالملح في الطعام ،فمن ولى منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ،ويتجاوز عن مسيئهم»..ثم قال: «إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ماشاء،وبين ماعنده ،فاختار ماعنده» .قال أبوسعيد الخدري:فبكى أبوبكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا،فعجبنا له ،فقال الناس:انظروا إلى هذا الشيخ ،يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا،وبين ما عندها ،وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير،وكان أبوبكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبوبكر،ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبابكر خليلاً،ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين في المسجد باب إلا سد ،إلا باب أبي بكر».
قبل أربعة أيام
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال وقد اشتد به الوجع :«هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده» وفي البيت رجال فيهم عمر فقال عمر: قد غلب عليه الوجع،وعندكم القرآن ،حسبكم كتاب الله،فاختلف أهل البيت واختصموا،فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ماقال عمر،فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«قوموا عني»..وأوصى ذلك اليوم بثلاث:أوصي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب،وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم ،أما الثالث فنسيه الرواي.ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة ،أو تنفيذ جيش أسامة ،أو هي:«الصلاة وماملكت أيمانكم».
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ماكان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب،فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض،بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد . قالت عائشة :فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصلى الناس؟» قلنا: لا يارسول الله ،وهم ينتظرونك. قال:«ضعوا لي ماء في المخضب» ففعلنا ،فاغتسل ،فذهب لينوء فأغمي عليه ،ثم أفاق ،فقال:«أصلى الناس؟» ورفع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس،فصلى أبوبكر تلك الأيام «17» صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم ،وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الاثنين،وخمس عشرة صلاة فيما بينها.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات ؛ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لايتشاءم به الناس،فأبى وقال: «إنكن لأنتن صواحب يوسف،مروا أبا بكر فليصل بالناس».
قبل ثلاثة أيام
قال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول: «ألا لايموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله» قبل يوم أو يومين.
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر،وأبوبكر يصلي بالناس ،فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر،فأومأ إليه بألا يتأخر .قال:« أجلساني إلى جنبه» ،فأجلساه إلى يسار أبي بكر،فكان أبوبكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير.
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة يوم الأحد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه،وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ،ووهب للمسلمين أسلحته ،وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكتك السمن،وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
آخر يوم من الحياة
روى أنس بن مالك: أن المسلمين بيناهم في صلاة الفجر من يوم الإثنين وأبوبكر يصلي بهم لم يفجأ بهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم،وهم في صفوف الصلاة ،ثم تبسم يضحكك ،فنكص أبوبكر على عقبيه، ليصل الصف،وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة ،فقال أنس: وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم،فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم،ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما اراتفع الضحى ،دعا النبي صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى ،دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت،ثم دعاها ،فسارها بشيء فضحكت ،قالت عائشة : فسألنا عن ذلك أي فيما بعد فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه،فبكيت،ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه..فقالت: وا كرب أباه ،فقال لها:« ليس على أبيك كرب بعد اليوم».
ودعا الحسن والحسين فقبلهما ،وأوصى بهما خيراً ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.. وطفق الوجع يشتد ويزيد،وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول:« ياعائشة ،ماأزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر،فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» وقد طرح خميصة له على وجهه ،فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك، وكان هذا آخر ماتكلم وأوصى به الناس: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - يحذر ماصنعوا - لايبقين دينان بأرض العرب».
وأوصى الناس فقال: «الصلاة الصلاة، وماملكت أيمانكم» كرر ذلك مراراً.
الاحتضار
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، و أن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عبدالرحمن - بن أبي بكر - وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أن يحب السواك، فقلت: آخذه له؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته، فأمره - وفي رواية أنه استن به كأحسن ماكان مستناً- وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به به وجهه، يقول: «لا إله الله، إن للموت سكرات...» الحديث، وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يداه أو اصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول : «مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم، الرفيق الأعلى».
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحي من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 ه، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام .
تفاقم الأحزان على الصحابة وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها، قال أنس: ما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم..ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
موقف عمر
ووقف عمر بن الخطاب يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات.
والله، ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
موقف أبي بكر
وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشي بثوب حِبَرةَ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لايجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها.
ثم خرج أبو بكر،وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس ياعمر، فأبي عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لايموت، قال الله: «وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين» آل عمران:144.
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
قال ابن المسيب: قال عمر: والله ماهو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ماتُقُلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
التجهيز وتوديع الجسد الشريف
ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه صلى الله عليه وسلم، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني اسعدة، وأخيراً اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الاثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان آخر الليل - ليلة الثلاثاء - مع الصبح، وبقي جسده المبارك على


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.