وضع يديه حول وجهه مسنداً مرفقيه على منضدة خشبية، ووجهه بدأ شاحباً قلقاً، ازدرد ريقه ثم تنهد بحرقة، كان يبدو ساهم العينين مستغرقاً في تفكير عميق وقد علق بصره على مجموعة أوراق افترشت بشكل عشوائي تلك المنضدة وبعضاً منها سقطت على جانبي الكرسي الذي جلس عليه وفي أماكن متفرقة من الغرفة.. مد يده والتقط إحدى الأوراق وألقى بصره على أولى سطورها.. منذ زمن وأنا أنتظرك... فقررت أن أجيء إليك.. فالحب يأتي دون تخطيط.. لم أخترك لتسكن نفسي.. ولكن الله اختارني لأكون بعضاً منك.. تلك أولى كلمات اخترقت قلبه، كان لها وقع السهام فيه.. كيف وأين ومتى وهي تشعر بذلك؟ لما لم يقابلها في ذلك الزمن؟ ولماذا لم تخبره بنفسها؟! فرك جبهته بأصابعه ورأسه ازداد ثقلاً كجبل... ثم نفث نفساً عميقاً حاراً من فمه ووضع الرسالة جانباً... قلب نظراته المتعبة على تلك الأوراق فاختارت يداه المرتجفة ورقة أخرى وبسطتها أمامه... أني أشبه قلبك الطيب... أنفاسي حولك كهواء مدينتنا المختلط برائحةٍ عطرة... شعري كخيوط الشمس المرسلة إليك لتداعب أوراق مفكرتك وستائر غرفتك الدافئة... فستاني بلون الزمرد، تقف عناقيد الأزهار الصغيرة عليه جامدة فيهب نسيم هواك ويهز الأغصان فيحدث إعصاراً في القلب... يوماً ما ستراني أقف أمامك تماماً كالصورة التي رسمتها لي مخيلتك... تستطيع أن تسألهم كم أبدوا بك رائعة وجميلة... كتبت له ذلك حينما طلب منها أن تصف له نفسها... دفع جسده الثقيل وأسند ظهره إلى الخلف، تاركاً ذراعيه خلف رأسه ثم أخذ نفساً عميقاً وأغمض عينيه في حسرة... لم تستطع تلك الجفون المغلقة أن تخفي قطرات صغيرة من الدمع انبجست بغزارة وسالت على خديه، كان باب غرفته مغلقاً بمفتاح ملقى على الأرض تدلت منه سلسلة فضية أشبه بتحفةٍ محطمة تناثرت أجزاؤها فأصبحت مبهمة الملامح... وخلف الباب كان يقف أحدهم.. ارتفعت يده اليمنى لتطرق طرقاتٍ خفيفة عليه... وصحب تلك الطرقات صوتاً مبحوحاً وحشرجة اختلطت بدموع نادمة... خدعوني بأن الأمر سيكون مجرد تسلية فقط وأننا سنقضي وقتاً ممتعاً معك... كنت أظن أنك ستضحك بعد أن تكتشف "المقلب".. لم أعرف أنني سأدمر أجمل شيءٍ بيننا..! إنني أكرههم، أكره أصابعي التي كتبت لك تلك الرسائل، وكانت سبباً في حزنك وألمك.. صديقي..... حبيبي.... لم أكن أقصد أن أجرحك... وطغا على صوته بكاء هستيري كطفلٍ فقد عزيزاً في ليلة مفجعة، ثم تابع متوسلاً: أنا آسف لأجلك.. آسف جداً... في الجهة الأخرى وفي داخل الغرفة المظلمة.. ثمة جسدٌ يرقد على مقعدٍ خشبي هامداً مثخناً بالآلام يرفض أن يفتح الباب... أو أن يتفوه بكلمة واحدة...