وفي عالم اليوم هناك الكثير من الأحداث التي فسرها العلم وتمكن من وضع الحلول لها بسبب تمكنه من فهم مسبباتها وسبر أغوارها والتحكم في مجرياتها ومسارات أحداثها .. كل هذا على المستوى العياني Macroscopy . لكن هل يمكن للعلم أن يسيطر على مجريات الأحداث ويتنبأ بمساراتها بشكل تام في العالم المجهري كما في العالم العياني . في اعتقادي أن هناك بعض المحددات التي تحكم هذا الاتجاه .... صحيح أن العلم تمكن فيما مضى من التحكم في التفاعلات دون الذرية والوصف الدقيق لها إلا أنه لم يتمكن من صياغة مسارح لأحداثها (بيئات متكاملة للتفاعلات) وأطراف دون ذرية للأحداث(صانعو التفاعل) تقوم بصياغة الأحداث على المستوى دون الذري . ولا أقصد هنا بصناعة التفاعلات بالتحكم فيها من العلماء، ولكن أقصد أن يتم التحكم في التفاعلات وصياغتها بشكل متكامل من قبل عوالم مجهرية تكون بنفس مستوى قياس مكونات التفاعل . الذي أعنيه هو الوصول مملكة دون ذرية يكون فيها الأحداث ومسبباتها وأبطالها وأطراف الحدث على المستوى دون الذري .. طبعا سيكون دستور هذه المملكة هو العلم ذاته فقوانين العلم هذي ذاتها في أي نطاق وفي أي مرجع ... في العام 1959 وفي محاضرة ألقاها عالم الفيزياء الشهير ريتشارد فينمان في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بعنوان (هناك حيز كبير للعمل في القاع)There is a plenty of room at the bottom حيث أورد فينمان سؤالاً في المحاضرة هو : ماذا سيحدث لو تمكن الإنسان من التحكم في حركة ومسار الذرة ونجح في إعادة ترتيبها داخل المركبات ؟؟ معلوم أن الذرة هي وحدة بناء المركبات والأجسام فلو تمكن الإنسان من التحكم فيها فمعنى ذلك أنه سيتمكن من السيطرة على وحدة التركيب في المادة وهذا يعني أنه ستصبح لديه القدرة على ابتداع وتركيب أشياء جديدة بل وتحوير ما هو موجود حسب ما يرغب به هذا الإنسان .... هذا المبدأ هو الأساس الذي قام عليه علم النانو أو ما يسمى بالنانو تكنولوجي Nanotechnology ما هو النانو : النانو كمفهوم : هو عبارة عن مدى Range مجهري تكون فيه الأبعاد حوالي جزءاً من ألف مليون من المتر أي (0.000000001 متر) . ومما سبق يمكن صياغة تعريف محدد ورؤية واضحة لهذا المجال من العلوم على أنه : تقنية على مستوى الذرات والجزيئات تمكننا من وضع الذرات في الوضع الذي نرغب فيه وبالترتيب Arrangement الذي نريده . أو كما عرفه العالم المصري الدكتور محمد النشائي بأنه : "علم التعامل مع أشياء أصغر من الصغر نفسه، فالنانو تكنولوجي هي منطقة مسافتها (10 أس ناقص 9)، وأهم شيء فيها أنها منظومة ظاهرة وحياتنا كلها مرتبطة بهده المنطقة.. بمعنى أنه عندما يهاجم فيروس جسم الإنسان، فبالطبع أنا لا آتي بمنشار أو شاكوش لأكسره، ولكن لابد أن أبحث عن آلة صغيرة جدا تهاجم الفيروس، فالنانو تكنولوجي هي التي تصنع هده الآلة" انتهى. إن البعد والعمق الكبيرين لسؤال ريتشارد فاينمان كان لا بد له من صدى ولو على المدى البعيد.. فبعد اكثر من عقد بدأ العلماء في الدخول في أعماق الذرة والجزيء وإيجاد ميكانيكية تمكنهم من التحكم في الذرات وتحريكها. ففي التسعينات من القرن الماضي تحدثت كبريات المجلات العلمية والمتخصصة ووكالات الأنباء المتخصصة عن عالم تمكن من تحريك الذرات ورسم حرف P بواسطة الذرات (في الإشارة إلى الحرف الأول من اسم بلده ) وهو العالم الفلسطيني الأصل منير نايفة أحد رواد علوم النانو في العصر الحديث. فهذه التقنية الواعدة تبشر بقفزة هائلة في جميع فروع العلوم والهندسة ، ويرى المتفائلون أنها ستلقي بظلالها على كافة مجالات الطب الحديث و الاقتصاد العالمي و العلاقات الدولية وحتى الحياة اليومية للفرد العادي فهي و بكل بساطة ستمكننا من صنع أي شيء نتخيله وذلك عن طريق صف جزيئات المادة إلى جانب بعضها البعض بشكل لا نتخيله وبأقل كلفة ممكنة ، فلنتخيل حواسيباً خارقة الأداء يمكن وضعها على رؤوس الأقلام والدبابيس ، ولنتخيل أسطولا من الروبوتات النانوية الطبية والتي يمكن لنا حقنها في الدم أو ابتلاعها لتعالج الجلطات الدموية و الأورام والأمراض المستعصية . تطبيقات النانو هناك العديد من التطبيقات العظيمة التي سيقودها عالم النانو وستهدي للبشرية خير ما أنتجه العلم وزبدة التكنولوجيا لهذا القرن والقرن الذي مضى .. تتنوع هذه التطبيقات بحسب المجال الذي نريد من الطب إلى الهندسة إلى صناعة المنمنمات الصغيرة إلى تكنولوجيا الحواسب إلى الميكانيك .... في الطب: يمكن صناعة روبوتات نانوية صغيرة تقوم بعمل العمليات والدخول إلى الأعضاء الداخلية بدون تدخل جراحي. ولتقريب الأمر أكثر حيث أن تقنية النانو تسمح بإعادة ترتيب الذرات والتحكم فيها فبالتالي يمكن استغلال هذه التقنية لترتيب وصياغة الذرات في أجسام الأشخاص الذين يعانون من تسلسل غير صحيح في الذرات نتيجة لعمل فيروسات معينة أو نتيجة إصابتهم بحوادث ما أدت إلى وضعية غير سليمة لنسق الذرات .. إضافة إلى ذلك سيكون بمقدور هذه التكنولوجيا التدخل في عمل الإنزيمات والتسريع في عملها وإضافة المزيد من المواصفات المطلوبة لتحسين ميكانيكية التفاعلات الحيوية في أجسامنا .. إضافة إلى تطبيقات أخرى كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها... في تكنولوجيا الحواسيب: في الفترة الأخيرة بدأت شركات في تطوير بدائل للترانزستورات الحالية بأخرى تعتمد على تكنولوجيا النانو في تصنيعها، شركة IBM قامت بالفعل بتصنيع ترانزستورات من أنابيب رقيقة جدا يسمى Carbon Nanotube هذه الترانزستورات هي أرفع ب10000 مرة من الشعرة.. بعد وصول معالجات الكمبيوتر إلى الحدود الأعلى للسرعة قامت شركة Intel بأنها ستقوم بطرح معالج من نوع Nan processor بحدود 2010 طوله حوالي نانو متر واحد وعرضه حوالي ثلاث ذرات، مصفوفة الواحدة تلو الأخرى . هذه الأبعاد قادرة على استيعاب 400 مليون ترانزستور نانوي في رقاقة يمكنها الوصول إلى 10GHz . في مجال البيئة: أفضل إنجاز بيئي في عالم النانو هو تقليل المخلفات الصناعية التي تنتج من الآلات الكبيرة حيث إن ستحل الآلات النانوية محلها مما سيسهم في التخفيف من التلوث والاحتقان البيئي الحالي، إضافة إلى ذلك سيتم بواسطة النانو تخليق مواد صديقة للبيئة ومواد قليلة أو عديمة المخلفات أثناء استهلاكها ووووو... دعوة خالصة الحديث عن النانو يحتاج إلى مساحة مكانية وزمانية كبيرة لإعطائه حقه لكن ما أردت أن اختم به هذا المقال هو أن نبدأ في الدخول لهذا المجال ولو في المجال المعرفي أولاً . وذلك من خلال التوعية بماهية هذا العلم وإدخاله في مناهجنا ومقررات العلوم في المدارس والجامعات في شتى التخصصات العلمية. وبالتالي وعلى خلفية هذا الموضوع لدي مقترح أتمنى أن أجد صداه لدى الأكاديميين وصناع الخطط الدراسية وأصحاب القرار الأكاديمي في الجامعات اليمنية ومقترحي هذا يتبلور في شيئين: الأول : والذي يستهدف كليات العلوم والهندسة ويتبلور في إدخال مقرر يهتم بهذا الفرع من العلوم - فرع النانو- وذلك لجميع الأقسام تقريباً في العلوم وللأقسام ذات العلاقة في الهندسة، كون تقنية النانو ليس موضوعاً علمياً جديداً فحسب بل أرى أنه سيكون علمًا مستقلاً بذاته في الأيام القادمة. ودعوتي هذه بأن تخصص له مواد تدرس - بين زحمة المقررات ذات الطابع الكلاسيكي في الغالب- في كلياتنا ليست غريبة فهذا المجال في الوقت الحالي وضعت له معاهد وكليات للبحث في ما يتعلق به والسبل المختلفة لتطويره . الثاني : أتمنى من قيادة الجامعات تخصيص بعض الدرجات العلمية في قسمي الفيزياء والكيمياء وإرسال البعثات كذلك في إطار هذا التخصص حتى ترفد الجامعة والبلاد بكادر علمي يناط به قيادة هذا المجال في المستقبل في وقت قد يكون زمام القيادة فيه لهذا الفرع من العلوم .. ومن يدري ؟؟!! [email protected]