كانت السيارات المسرعة على طول الشارع المؤدي إلى المدرسة تختطف لحظات الأمن من أعين المارة... وراحت أنامل الضباب الخفيف تعابث برودة الجوّ وتظلّل واجهات الدكاكين. ثمة قطة صغيرة في مدخل إحدى العمارات تموء بصوت حزين متقطع مقرورة تشكو وحدتها وتستجدي عاطفة العابرين توقفت رنيم على باب معرض الفتاة الأنيقة كالعادة، ثم تقدمت من الواجهة الزجاجية وراحت تمسح الغلالة الضبابية عنها بحثاً عن ذلك الثوب الأصفر الجميل الذي تربطها به قصة طويلة، أفسحت المجال لعينيها لترتعا في مساحات الحلم. لعلها أدركت ومنذ البداية استحالة اقتنائه أو حتى مجرد الإعلان عن رغبتها الجامحة في الحصول عليه، لذلك كانت تكتفي بهذا الحلم المتجدد كلّ يوم وتقف قبالة الواجهة الزجاجية واضعة كفيها على جسده الدافئ الناعم من خلف الألواح. لقد حفظت عدد الأزرار وموضع كلّ منها على الأكمام والصدر وذلك الوشي المتفتح كأزهار نيسان على القَبّة وأطراف الأكمام. اقتربت من الواجهة أكثر فأكثر وضعت كفيها على الزجاج المبلول وراحت تمسح وتمسح... كادت بجسدها النحيل أن تلتصق بالزجاج... أرسلت عينيها في كل اتجاه، رفعت رأسها إلى الأعلى، مدّت عنقها تلفّتت يَمنة ويَسرة، تراجعت، تقدمت، أعادت الالتصاق بالواجهة كادت تخترق الحواجز، ابتعدت مذعورة، تراجعت... زأرت كالأسد الغاضب وصفقت بيدها على خديها وبحركة عفوية طفولية استدارت ثم دلفت إلى المعرض ملهوفة تنهب جوانبه وتفتش في أركانه. أثار منظرها هذا صاحب المعرض فصرخ في وجهها: أنتِ! عمّ تبحثين؟! ما بالك هكذا، أجيبي، ماذا تريدين؟ انهالت عليها الصرخة كالسياط اللاهبة ولم تجد من العبارات ما ينجدها لتفسّر رغبتها وتبرّر تصرّفها، بل لعلها كانت في شغل شاغل عن هذا كله بالبحث عن ضالّتها، فلم تُلقِ إليه بالاً ثم تراجعت مهزومة أمام الموقف العجيب وقد ارتسم على وجهها شبح من الذهول والخوف، وأحسّ الرجل بقساوة تصرّفه فحاول تدارك الموقف وراح يلاطفها مستفهماً. إلا أنها وكالقطة المذعورة انتفضت أمامه، وقبل أن تسقط أو تتدحرج كانت أصابعها تشير على امتداد ذراعها إلى الثوب الأصفر الذي يعانق طفلة أخرى وقد خرجت للتوّ من غرفة القياس فإذا بها وكأنها تنطق لأول مرة، تصرخ وبأعلى صوتها: لا، لا، ثم سقطت أرضاً. خيّمت الدهشة على المعرض بأسره وانتابت العابرين قبالته فتسّمروا في أماكنهم ينظرون. رشق عامل المعرض على وجهها قليلاً من الماء فأفاقت من الصدمة وأسلمت نفسها إلى الطريق في سرعة مباغتة وعجيبة... كانت آخر حبات المطر تتدحرج بخفة من على الأسطح فيما بدأت خيوط الشمس المقرورة تتسلل من خلال الغيوم لتدفئ اللآلئ البيضاء التي تسمّرت على خدي رنيم وهي تركض وتركض وتركض.